كما كان متوقعاً: الانتخابات في لبنان كانت مناسبة للتعبير لا فرصة للتغيير. صحيح أن نتائجها أفرزت نوعاً من التعادل في موازين القوى في البرلمان الجديد، لكنه لا يسمح بالتغيير الذي ينادي به بعض القوى ويحلم به بعضها الآخر. بالعكس، ثمة تخوّفات ماثلة بأن تؤدي موازين القوى المستجدة إلى انسداد في الأفق السياسي وبالتالي إلى جمود يزداد معه الانهيار المالي والاجتماعي وتتعمّق الضائقة المعيشية. لماذا؟ لأن ثمة ثلاثة تحدّيات ماثلة من شأنها، في حال عدم مواجهتها بنجاح، تعقيد الأزمة المزمنة التي تعانيها البلاد.
*أولُ التحديات انتخاب رئيس لمجلس النواب، ذلك أن زعيم حركة أمل نبيه بري الذي كان يفوز برئاسة البرلمان منذ عام 1992 بأكثرية كبيرة يبدو الآن انه غير قادر على الاحتفاظ بهذا الامتياز. لتفادي التراجع الماثل يحاول بري وحلفاؤه إجراء مفاوضات مع التكتلات النيابية القديمة والجديدة بغية التفاهم على تسوية يفوز بموجبها بري بأكثرية وازنة، ومثله من يتمّ التوافق عليه ليكون نائباً للرئيس. لكن ماذا لو تعذّر التفاهم على مضمون التسوية المرتجاة أو طال الجدل والتجاذب بشأنها؟
*ثاني التحديات اختيار شخصية قادرة على تأليف حكومة توافق وطني في هذه الظروف العصيبة. حكومة نجيب ميقاتي أصبحت بحكم الدستور مستقيلة منذ يوم أمس الأحد، وليس في الأفق السياسي ما يشير إلى وجود شخصية سياسية مقتدرة يمكن التوافق عليها ليصار إلى تكليفها مهمة تأليف حكومة جديدة. ماذا لو تعذّر التفاهم على الشخصية المناسبة، أو طال البحث والتجاذب في هذا السياق؟
*ثالثُ التحديات انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في أواخر شهر تشرين الأول/ أكتوبر المقبل. لا تشير نتائج الانتخابات الأخيرة إلى شخصية بعينها تبدو قادرة على أن تشكّل نقطةً تتقاطع عليها مختلف الطموحات والمصالح والأهواء والتدخلات الخارجية، ليصار إلى انتخابها رئيساً للدولة. ماذا لو تعذّر التوافق على الشخصية المناسبة أو طال البحث والتجاذب في هذا المجال؟
لا شك في أن تداعيات شتى، بعضها خطير، ستنجم عن المماطلة في التفاهم على الشخصية المناسبة لملء كلٍّ من الرئاسات الثلاث، المار ذكرها، في وقت تزداد الأزمة المزمنة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية حدّةً وحساسية. ذلك يطرح على اللبنانيين جميعاً، خصوصاً على أهل الرأي والقياديين الحريصين على وحدة البلاد واستقرارها، سؤالاً بديهياً ضاغطاً: ما العمل لتفادي كل هذه التحديات والمخاطر؟ أرى، وغيري كثيرون من دعاة التغيير الوطني الديمقراطي، أن حال البلاد في أزمتها المستفحلة باتت تستوجب الانتقال بسرعة محسوبة من حال الصراع المنطلق، لدى القوى السياسية جميعاً، من الأهداف والصبوات القصوى إلى المتطلبات والأولويات الأكثر حضوراً وإلحاحاً، ما يستوجب بالضرورة تأجيل الاهتمام بالصبوات (بمعنى الأهداف القصوى المثيرة للجدل) وتعجيل التركيز على الأولويات الملحّة من خلال خطة عملانية بالترتيب الآتي للأهمية:
أولاً: الضرورياتُ الحياتية الأكثر إلحاحاً وهي الغذاء والدواء والكهرباء، وما تستلزمه من دعمٍ متواصل من جانب إدارات القطاع العام ومؤسسات القطاع الخاص والوكالات الأممية ذات الصلة.
المخاطر التي تواجه الجميع، تستدعي الارتفاع إلى مستوى التحديات والمخاطر الماثلة والشروع في توفير أسس وآليات مواجهتها للخروج من حالة البؤس والتفكك
ثانياً: التوافق على تأليف حكومة وفاق وطني ائتلافية تتولى تنفيذ خطة تعافٍ وطني متكاملة وتعمل، بالإضافة إلى تأمين الضروريات الحياتية سالفة الذكر، للاضطلاع بدور رئيس في متابعة التحقيق الجنائي في جرائم نهب المال العام وتهريب ودائع المصارف إلى الخارج، وفي العمل من أجل استعادة ملاءة الدولة المالية بقروض ومساعدات من صندوق النقد الدولي، لا تمسّ السيادة، وبالاتجاه شرقاً للإفادة من مشروعات الدعم والتنمية المتاحة من دول الصين وروسيا وإيران، ومباشرة التنقيب عن النفط والغاز من مكامنها على طول الساحل اللبناني بغية الاستفادة من عائداتها الوفيرة.
ثالثاً: مباشرةُ حوار وطني واسع بمبادرة من قوى التغيير الوطني الديمقراطي المستقلة، بغية تحقيق توافق وطني عريض على هدفين إصلاحيين استراتيجيين هما (أ) اعتماد قانون ديمقراطي للانتخابات يحقق صحة التمثيل الشعبي وعدالته على الأسس الآتية: تنفيذ أحكام الدستور، ولاسيما المادة 22 (مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف) والمادة 27 (“عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء” ما يستوجب اعتماد الدائرة الوطنية الواحدة والتمثيل النسبي) والمادة 95 (“إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية”) وخفض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة لإشراك أجيال الشباب في المسؤولية العامة، بما يؤدي نتيجةَ ذلك كله إلى الانتقال من الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الثانية (ب) التوافق على أسس خطة متكاملة للدفاع الوطني تكفل حماية أمن لبنان وسيادته وتحدّد دور المقاومة الشعبية في مشاركة الجيش الوطني مواجهته للعدو الصهيوني الطامع في أرض الوطن ومياهه.
ثمة صعوبة ماثلة في التوافق سريعاً على النهوض إلى تنفيذ الأولويات الأكثر إلحاحاً المشار إليها أعلاه، وذلك بسبب حال التنافر الطائفي وذيول المعركة الانتخابية الأخيرة، لكن المخاطر الجمّة التي تواجه الجميع، مواطنين ومسؤولين، تستدعي الارتفاع إلى مستوى التحديات والمخاطر الماثلة والشروع، دونما إبطاء، في توفير أسس وآليات مواجهتها للخروج مما نحن فيه من بؤس وتفكك وانحطاط.
هل من نهج آخر أفعل وأجدى؟
*كاتب لبناني