أكد إطلاق النار على المتظاهرين في الخرطوم وسقوط الضحايا ما نعرفه جيدا عن وحشية الأنظمة الاستبدادية المستندة إلى قوة السلاح، وخوفها العميق من أي حراك شعبي قد يستهدف هيمنتها، مهما كان مسالما. أكد، أيضا، أن الشعوب العربية تخوض مواجهة يومية، إزاء أنظمة تخاف مطالبة الشعوب بحقوقها وتتمترس خلف شعارات تسرقها من الشعوب نفسها، لتتفوه بها من على منصات مبنية من أجساد الضحايا. إنها أنظمة تعمل، بشكل منهجي، منذ عقود، على تغيير مفهوم « العدو». لم يعد العدو احتلالا أو استعمارا أو هيمنة أمبريالية، بل العدو هو الشعب، فهي تخاف شعوبها أكثر من الاحتلال والاستعمار وكل ما تربينا عليه من مفاهيم حول الوطن والوطنية. الشعب بمنطق الاستبداد و»الحرب على الإرهاب»، هو من يهدد الأمن وبالتالي يتوجب التخلص منه، بكل الطرق الممكنة.
وباستثناء الحالة الجزائرية الحضارية التي لم يستخدم فيها العنف ضد المتظاهرين قط في أشهر الاحتجاج الأربعة فإن القمع الوحشي، والتهجير القسري والاغتيالات هي ملامح أولية لخارطة انتهاكات مخيفة تعرض ويتعرض لها المواطن العربي في فلسطين والسودان واليمن والعراق والسعودية ومصر وسوريا والبحرين وليبيا. لينضم بذلك إلى الواقفين (بالكاد) تحت مظلة «عولمة العنف» في إيران وتركيا ومنها إلى افريقيا ودول أمريكا اللاتينية، على اختلاف درجات العنف، حسب تنويعات وابتكارات الأجهزة الأمنية المحلية والدولية.
من خراطيم المياه إلى الرصاص المطاطي إلى رش المتظاهرين بالرصاص الحي في العراق، واستهدافهم بواسطة القناصين والطائرات بلا طيار في غزة لتكون النتائج، على الرغم من استمرار الجماهير بالاحتجاج بطرق سلمية، غالبا، أما مخيبة للآمال ومحبطة للتوقعات أو بعيدة المدى، من ناحيتي التراكم الكمي واثارة الانتباه عالميا، ولا تمنح المتظاهرين حلولا تضع حدا لمعاناتهم، إلى حين، ليتمكنوا من استعادة قواهم وتوفر لهم فسحة للتفكير على المدى البعيد.
وإذا كانت التظاهرات مرتبطة بأذهاننا بمحاربة الاستعمار، وحاضرنا بمحاربة متلازمة الأنظمة الاستبدادية والاحتلال، فإن اللجوء إليها لا يقتصر على بلداننا، بل إنها أداة طالما استخدمت، ولا تزال، من قبل شعوب البلدان التي استعمرتنا للاحتجاج والمطالبة والدعوة إلى التغيير، مع فارق جوهري وهو أن هذه الشعوب تنزل إلى شوارع مدنها وهي تشعر بالأمان، وعلى الأغلب بأجواء احتفالية تزخر بالموسيقى والغناء وارتداء الأزياء التنكرية والأقنعة الساخرة وترفع شعارات تجمع ما بين الطرافة والمطالب الجادة. فهي تعلم بأن الشوارع والمدن والساحات العامة والبلاد بما فيها ملك لها، وأن الشرطة ( باستثناء حالات نادرة) موجودة لحمايتها.
شاهد المتظاهرون، عبر شاشات التلفزيون، قصف العراق ونهبه وتخريبه وسقوط ما يزيد على المليون قتيل ليعيش العراقيون حتى اليوم نتائج حرب عدوانية مبنية على الأكاذيب
على الرغم من هذه الفروق الأساسية بيننا و»بينهم»، يشير رصد عدد من المظاهرات الجماهيرية الحاشدة، في بريطانيا وأمريكا، مثلا، إلى بروز سؤال مهم يواجه منظميها المثابرين وهو عن مدى قدرة المظاهرات، كأداة فاعلة، على تغيير السياسات الحكومية؟ هل تؤدي إلى إحداث تغيير حقا؟ أم أنها مجرد طقس من طقوس الديمقراطية التي يجب ممارستها من جهة، ومنبع رضى للناس لأنها تمنحهم الإحساس بالمساهمة بعمل جماعي أو كونه مجرد تنفيس للغضب بحضور آخرين ممن يشاركونهم الرأي والموقف؟
مظاهرتان كبيرتان تستحقان النظر لمعرفة القدرة على التغيير الفوري. تمت الاولى في 15 فبراير/شباط 2003، أي قبل إعلان الحرب على العراق بشهر. وضمت حوالي 35 مليون شخص من جميع أنحاء العالم، خاصة في أوروبا وأمريكا، وكانت أكبر تظاهرة احتجاجية في تاريخ البشرية، تتم قبل نشوب الحرب وليس بعدها. وصفها صحافي نيويورك تايمز باتريك تايلر بأنها أثبتت أن هناك «قوتين عظيمتين في الكون هما الولايات المتحدة، والرأي العام في جميع أنحاء العالم». حينها، شهدت لندن خروج مليوني محتج إلى الشوارع معلنين رفضهم لشن الحرب. «ليس باسمنا»، كان الشعار الاول الذي يدين رغبة الحكومة البريطانية بالوقوف جنبا إلى جنب مع الإدارة الأمريكية في غزوها العراق. فهل حققت المظاهرة هدفها؟ وماذا كان رد فعل الحكومة البريطانية وهي الممثلة للشعب في بلد يعتبر من أمهات الديمقراطية في العالم؟
لم يتم إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين. إلا أن رئيس الوزراء توني بلير فعل ما هو أسوأ من ذلك. أهان المتظاهرين بقوله إن من حقهم التظاهر فبريطانيا بلد ديمقراطي، معتبرا غضب وكراهية الناس له ثمنا للقيادة وتكلفة قناعته بما يفعل. وبعد أيام، نفد ما أراده. شاهد المتظاهرون، عبر شاشات التلفزيون، قصف العراق ونهبه وتخريبه. وسقوط ما يزيد على المليون قتيل، ليعيش العراقيون، حتى اليوم نتائج حرب عدوانية مبنية على الأكاذيب.
المظاهرة الثانية هي التي تمت في الأسبوع الماضي، في لندن ومدن بريطانية أخرى، احتجاجا على زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واستقباله الاحتفالي الرسمي الكبير هو وعائلته من قبل الملكة. شارك في المظاهرة آلاف المحتجين الذين ساروا حيث كان ترامب مجتمعا برئيسة الوزراء البريطانية. أراد المتظاهرون أن يبلغوهما بأن وجود ترامب غير مرحب به وأن الدعوة الرسمية وما صاحبها من احتفاء لا يمثلان الشعب. كان الجو احتفاليا، وكان لحضور الشعارات المنددة بسياسة ترامب تجاه فلسطين والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني مكانته، واختتم رئيس حزب العمال جيريمي كوربن المظاهرة بخطاب ندد فيه بسياسة ترامب العنصرية اللا إنسانية.
حققت المظاهرة نجاحا على مستويين. الأول هو تحديد حركة ترامب في العاصمة ومنعه من التجوال فيها بسيارته المصفحة الفارهة إلا لمسافة قصيرة جدا، واقتصر تنقله على الهليكوبتر خوفا على حياته. مما يذكرنا بهبوطه الليلي، بطائرة مطفأة الأضواء، أثناء زيارته القاعدة الأمريكية، في بغداد، نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2018، وكيف عبر عن امتعاضه وحزنه لطريقة الزيارة السرية. المستوى الثاني لنجاح المظاهرة هو إطلاقه واحدة من أكاذيبه عند سؤاله عن رد فعله تجاه المتظاهرين فأجاب نافيا وجودهم. كان حجم الكذبة كبيرا إلى حد دفع حتى مراسلي أكثر القنوات التلفزيونية تحيزا إلى تقسيم الشاشة، إلى نصفين يبين أحدهما ترامب وهو يكذب والنصف الثاني آلاف المتظاهرين تحت بالون وردي يمثل ترامب وهو يبكي كالطفل. صحيح أن هذه المظاهرات لم تنجح بمنع الزيارة، كما لم تمنع إقامة حفل التكريم إلا أنها نجحت في تحديد حركة رئيس أقوى دولة في العالم وساهمت بتعرية أكاذيبه.
ولأن الحكام الفاسدين يتغذون على الأكاذيب شاهدنا الشاشة ذاتها وقد تم تقسيمها إلى نصفين لنقل أخبار السودان. حيث العصيان المدني الشامل والشوارع الخالية تماما، كاستفتاء سلمي ضد المجلس العسكري، مقابل متحدث ترامبي الهوى باسم المجلس قائلا إن الحياة طبيعية ولا تغيير!
كاتبة من العراق