حكاية تثير الغثيان والاشمئزاز أن يتجرأ السفير البريطاني والسفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، لعقد جلسة مشاورات مغلقة لمجلس الأمن يوم الجمعة الفائت (29 أيار/مايو) لبحث المظاهرات والاحتجاجات في هونغ كونغ، بحجة أنها تدخل ضمن إطار عمل مجلس الأمن في صيانة الأمن والسلم الدوليين.
أثناء ساعة الاجتماع المغلق، كانت المظاهرات الصاخبة والعنيفة تنتشر في كل أنحاء الولايات المتحدة، احتجاجا على خنق جورج فلويد حتى الموت، جراء عنصرية جهاز الشرطة الأمريكي المتدرب على أيدي الشرطة الإسرائيلية، والمرتكز على أيديولوجية في جوهرها تستهين بأرواح المواطنين من أصل افريقي، مثلما تستهين القوات العنصرية الإسرائيلية بأرواح الفلسطينيين. يتلذذ الشرطي الأبيض ديرك شوفان، وزملاؤه الثلاثة يراقبون ببرود، وهو يخنق رجلا أسود أعزل، حاول أن يستعطفه عندما شعر بصعوبة التنفس بدون جدوى، وظل داعسا على عنقه حتى قضى، كما فعل رفيق له في حي ستاتن آيلند في نيويورك عام 2014 عندما لوى عنق إريك غارنر وقتله وهو يصرخ لا أستطيع التنفس، وكما يحدث تقريبا كل يوم بدون وجود كاميرات.
هذا شأن داخلي، حسب رأي كيلي كرافت، سفيرة الطبعة المنقحة من إمبريالية متوحشة وعنجهية زائدة عن الحد، سوّق لها وعززها عاقد الصفقات ومزور البيانات، والمتهرب من الضرائب، والمتحرش بالفتيات، برتبة رئيس لأعظم قوة في التاريخ، دونالد ترامب. كرافت كانت مسنودة في الجلسة بالسفير البريطاني جوناثان ألان، سليل الاستعمار القديم، الذي ظل متشبثا بوهم الإمبراطورية التي غربت شمسها وانتهت صولتها، وتمرغت كرامتها في أكثر من بلد، وكانت نهايتها في قناة السويس، التي أتت على آخر فصول الدولة العظمى، وأدت إلى إصابة رئيس وزرائها أنتوني إيدن بلوثة عقلية، لتصبح بريطانيا بعدها ملحقة بالولايات الأمريكية.
السفير البريطاني في الجلسة المعقودة عن بعد، ناشد سفير الصين بالتصرف «كطرف دولي مسؤول، وأن تحترم الصين وتفي بالتزاماتها ومسؤولياتها تجاه شعب هونغ كونغ، بما ينص عليه الإعلان المشترك». ولاحظوا استعمال كلمة شعب هونغ كونغ. أما السفيرة الأمريكية، كيلي كرافت، فقد صرحت بعد انتهاء الاجتماع قائلة، «لقد ذكرت للدول الأعضاء في مجلس الأمن أن عليهم مواجهة الحقيقة المخجلة، أن الوعد الصيني كان خاوياً من البداية»، ثم وصفت تدخلات الصين في السنة الأخيرة، بأنها تدمر استقلال هونغ كونغ إلى حد كبير. السفير البريطاني تكلم عن شعب هونغ كونغ، والسفيرة الجاهلة في القضايا الدولية تكلمت عن استقلال هونغ كونغ.
الانتفاضة الأمريكية استطاعت أن تجمع كل أطياف الشعب الأمريكي من سود وبيض وأقليات
السفير الصيني زانغ جون، رد على الاثنين ببرود واضح، فيه شيء من التشفي مشيرا إلى ازدواجية في المعايير. فكيف احتواء المظاهرات ضد العنصرية والاستهانة بأرواح السود في الولايات المتحدة، يعتبر شأنا داخليا، أما مظاهرات هونغ كونغ فشيء مختلف تقع ضمن الشؤون الدولية؟ أحلال عليكم العنف المفرط حرام علينا إن طالبنا باحترام القانون؟ أعنفكم داخلي وعنفنا دولي؟ كيف يستقيم الأمر أيها السادة؟ من الذي يستحق أن يعقد مجلس الأمن من أجله؟ انتفاضة السود العارمة في كل الولايات المتحدة ضد العنصرية والعنف والتمييز والتهميش، أو مظاهرات من جماعات صغيرة في هونغ كونغ ما زالوا لم يتكيفوا مع العهد الجديد، وقبول الأمر الواقع والرضوخ لحقيقة أن هونغ كونغ لم تعد تابعة للتاج البريطاني، وأنها عادت عام 1997 إلى أمها، بدل أن تظل ولدا لقيطا في أحضان الدول الاستعمارية، الذين يريدونها مخلبا ضد الصين، من أجل تعطيل مسيرة التنمية العظمى التي تقوم بها البلاد؟
عادت مدينة هونغ كونغ عام 1997 إلى الصين الشعبية بعد استئجار من التاج البريطاني لمدة مئة سنة. وحسب اتفاقية الاستلام والتسليم، تبقى المدينة تتمتع بحكم ذاتي لمدة خمسين سنة، محتفظة بنظامها الرأسمالي، وما اصطلح على تسميته «دولة واحدة بنظامين مختلفين». وقد أقرت فيها رزمة من القوانين المحلية، تنظم علاقتها بالصين تسمى «القانون الأساسي» يتضمن حرية التعبير والتجمع. سارت الأمور على ما يرام، إلا أن حركات انفصالية بدأت تنتشر في المدينة، وتجد من يغذيها من الخارج. ومن جهة أخرى بدأ كثير من المطلوبين والمجرمين في الصين الشعبية، يتهرب إلى المدينة طلبا للحماية، وكي ينطبق عليه قانون الحماية المحلية. في شهر يونيو 2019 أقرت الصين قانون ترحيل المجرمين من المدينة إلى الصين الشعبية. فانتشرت المظاهرات العارمة في المدينة، وبشكل متصاعد لدرجة أن المتظاهرين اقتحموا في يوليو مقر البرلمان المحلي، وعبثوا بمحتوياته وحطموا النوافذ والأبواب. فقامت الحكومة المركزية برئاسة الحاكمة التنفيذية في المدينة كاري لام، بالتعهد بإلغاء القانون الجديد، وفعلا رضخت لمطالب المتظاهرين في سبتمبر، وسحبت القانون. وبدلا من الشعور بالانتصار استمرت الحركة الاحتجاجية، ورفعت شعارات استفزازية للصين، تدور في جوهرها حول الانفصال وهو أمر يتجاوز الخط الأحمر بالنسبة للصين، ما أدى إلى مواجهات ضارية في أكتوبر، قتل فيها أحد المتظاهرين وسجن عدد من المحتجين ومنع استخدام الأقنعة في المظاهرات.
في يوم الجلسة نفسه كان الرئيس ترامب يرد على الاضطرابات، واصفاً المحتجين بالبلطجية، وينشر الجيش والحرس الوطني، ليطهر البلاد «بيتا بيتا وزنقة زنقة» من المحتجين، ويبدأ بإطلاق الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع ويعد بمزيد من العنف، إذا لم يقم رؤساء البلديات وحكام الولايات باحتواء المظاهرات. وقد استخدم ترامب جملتين متناغمتين بقافية مسجوعة، تحمل كل معاني الحقد والعنصرية. «إذا باشرتم بالنهب باشرنا بإطلاق النار»، ولغاية كتابة هذا المقال قتل ما لا يقل عن 13 معظمهم من السود، واعتقل أكثر من 10000 ونشر أكثر من 20000 من الحرس الوطني في 29 ولاية. ومع هذا لم يقل ترامب «الآن فهمت» ولا أعلن أنه «ينتوي عدم الترشح لدورة الثانية»، ويصر على أن ما يجري مؤامرة من جماعة إرهابية اسمها (Antifa).
تلاقت ثلاثة أمور في لحظة تاريخية نادرة في الولايات المتحدة: جائحة كورونا وانهيار اقتصادي، وانفجار ضد العنصرية. تداخلت هذه المشاكل وأثرت ببعضها بعضا وتفاقمت بسبب الطريقة التي عالج فيها ترامب هذه القضايا. فبدل أن يكحل الأمور قلع عينيها. استخف بالجائحة إلى أن بدأت تلتهم الأخضر واليابس، وتحولت المستشفيات إلى ثلاجات موتى، وظل يبشر باقتصاد عظيم وازدهار لا مثيل له، وهو يرى أن البطالة زادت عن 15% وكثير من المصانع أغلقت، وتوقفت السياحة وأفلست شركات الطيران وتجارة السيارات، وكل صناعة الترفيه، وفي المحصلة خسرت البلاد ما يزيد عن 30 مليون وظيفة. ومن البديهي أن الطبقات الفقيرة التي تعيش ليومها هي التي عانت أكثر من كل هذه المصائب. فنسبة الموتى من السود من وباء كورونا تصل إلى 30% ، بينما هم لا يشكلون أكثر من 13% من السكان. إذن بركان من الغضب والإحباط كان يعتمل في الصدور: فقر وبطالة ووباء وعنصرية. خلطة جاهزة للانفجار. ترامب، بطريقته الغوغائية، راح يبشر بإعادة فتح الاقتصاد، ويعد بأن يعود إلى ما كان عليه وأفضل. والنتيجة أن كل الوعود تبخرت. فجاءت قصة جورج فلويد لتكون الشراراة التي فجرت الظروف الناضجة ولتخرج عن إمكانية الاحتواء. وبدل أن يهدئ الرئيس الأمور راح يقسم ويتوعد ويأمر الجيش والحرس الوطني بدخول المدن واحتواء المظاهرات، حتى ولو بالقوة المسلحة.
قد لا تذهب الانتفاضة الحالية بعيدا إلا أنها استطاعت أن تجمع كل أطياف الشعب الأمريكي من سود وبيض وأقليات، خاصة من القارة اللاتينية، وكلهم من مناهضي العنصرية ومن المتضررين من الواحد بالمئة الذي يكنزون ثروات خيالية تضاعفت في عهد ترامب. فمن الذي يجب أن تناقش قضيته في مجلس الأمن؟ مظاهرات هونغ كونغ التي تدور في جوهرها حول امتيازات حصلت عليها المدينة في عهد الكولونيالية؟ أم مظاهرات الملايين في كل الولايات المتحدة التي ترفض العنصرية واسترخاص دم الأمريكيين من أصول افريقية؟ أليست الولايات المتحدة من الموقعين على الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري عام 1965؟ أم أن الانضمام للاتفاقية ترف لأغراض المظهر الخارجي؟
وأختتم هذه العجالة بقول ممثل الاتحاد الروسي في اجتماع مجلس الأمن، ديميتري بوليانسكي، الذي علق على تغريدة لزوجة الرئيس الأمريكي ميلانيا، تحدثت فيها عن ضرورة أن تكون الاحتجاجات على مقتل الأمريكي من أصول افريقية على يد شرطي أبيض سلمية. قائلاً» إننا نتفهم مطلبك ونشاركك إياه، أيتها السيدة الأولى، ولكن ماذا عن دول أخرى؟ وتحديدا هونغ كونغ؟ لماذا تشجع الولايات المتحدة الاحتجاجات العنيفة هناك، وتنتقد خطوات تتخذها السلطات الصينية وسلطات هونغ كونغ لوقفها؟ أين هو الاتساق؟».
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي
النظام الأمريكي شيئ, والنظام الصيني شيئ آخر يا دكتور!! ولا حول ولا قوة الا بالله
مقال يرفع الضغط ضد النفاق الاستعماري الذي عودونا عليه…. جرائم اسرائيل مجرد دفاع عن النفس اما مقاومة هذه الجرائم من قتل بدم بارد وهدم البيوت والاستيطان السرطاني فهذه ممنوعة وتهدد السلام في العالم
اراك الاستاذ العزيز غلبت عليك العاطفه وانتم ممن يجب عليهم الإلتزام بالصرامه العلميه وكبح العاطفه للوصول إلى استنتاجات عقلانيه. هذا لا يعني باي حال اني لااشاطركم الرأي، لكن كأني استغربت هذه المره الجرعه الزائده من العاطفه والشعبويه.
لماذا الإستغراب من تصرفات دونالد ترمب ؟
الكل يعلم كيف تاسست دولتة المبنية على الإجرام بدءًا بقتل الهنود الحمر أصحاب الأرض حتى اصبحوا الأقلية في بلدهم،حيث تسترت الحكومات المتعاقبة مع مرور الزمن تحت مظلة الديمقراطية المزيفة إلى أن جاء من هو أكثر صراحة وليكشف عن نفسه وعن من سبقه في من هو أقل أدباً واكثر وقاحة عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان،وكان نصيب ترام هو الأول حتى هذه اللحظة .