مع إني لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة، التي اعتادت الأنظمة السياسية العربية تسويقها إلى العقل الجمعي العربي، من أجل الهروب من أي أزمة سياسية أو أمنية أو اقتصادية تواجهها، وجعلها جزءًا من مؤامرة كونية تحيط بها، وتسعى إلى النيل من سيادتها الوطنية، ومن بنيتها الاجتماعية والاقتصادية، وما إلى ذلك من الافتراضات التي تشكل جوهر هذه النظرية وأهدافها، بحيث أخذت هذه النظرية تأخذ حيزاً كبيراً من تفكير المجتمعات العربية، التي تواجه تحديات الوحدة الوطنية، والتدخل الخارجي، والتوظيف السلبي لهويتها المجتمعية، ولكن عندما نتحدث عن المظاهرات التي شهدتها الساحة العراقية منذ 1 أكتوبر 2019، وخلال متابعتنا الطويلة للأحداث الدراماتيكية، التي سبقت وترافقت مع اندلاع المظاهرات الشعبية في العراق، وما أثير حولها من تساؤلات، عملت وسائل الإعلام المحلي العراقي على التعاطي معها، وأصبحت في ما بعد سياقات كلامية، أخذت بعض الشخصيات السياسية العراقية ترددها، على نحو يعكس أن الجو العام في العراق، يدار من قبل أياد خفية تحاول العبث في مقدرات الدولة العراقية ومستقبل أجيالها.
فهل ما حدث في العراق فعلاً هو مؤامرة، انساقت خلفها الجماهير العراقية من حيث لا تدري؟ أم إنه فوران ثوري عكس نقمة المجتمع العراقي، على طبقة سياسية لم تتمكن على مدار 16 عاماً الماضية، أن تقدم شيئا يذكر، يلبي أبسط احتياجات المواطن العراقي في الحرية والتقدم والعيش الكريم؟
إن الخوض في هذا النوع من المواضيع قد يشكل بعض الصعوبة، لكن لا بأس من المغامرة، إذا كان الأمر يستحق ذلك، إذ شهدت مرحلة ما قبل اندلاع المظاهرات العراقية تحولات داخلية وخارجية، أثارت الكثير من التساؤلات حول مدى ارتباطها بالمظاهرات الشعبية الأخيرة. وفي هذا الإطار، لابد من الإشارة إلى إن هناك سرديات مؤامرة ظهرت مترافقة مع اندلاع شرارة المظاهرات الشعبية، التي شهدتها العاصمة بغداد والمدن العراقية الأخرى، والتي عكست في كل جوانبها جهداً استخباريا وأمنياً، دأبت كل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية، على تبنيها كمشروع واستراتيجية عمل ضد الآخر في العراق. إذ تشير سردية المؤامرة الأمريكية، إلى أن ما حصل في الساحة العراقية هو مؤامرة إيرانية بامتياز، لإعادة تجديد نفسها في العراق، عبر اتخاذ هذه المظاهرات سبيلاً لضرب ما تبقى من أعداء لها في الداخل العراقي، ومن الذين لم تستطيع إيران ضربهم بتهمة تقديم الدعم لتنظيم «داعش» الإرهابي، وهي سياسة قد تبيح لإيران السيطرة الكاملة على العراق، دولة ومؤسسات ومجتمعا، خصوصاً إن هناك اليوم الكثير من الأسباب التي قد تدفع إيران للذهاب بهذا الاتجاه، وتستكمل الرواية الأمريكية نسج خيوطها، وذلك عبر الإشارة إلى أن أركان المؤامرة الإيرانية بدأت منذ أن زار السيد مقتدى الصدر إيران في 11 سبتمبر 2019، في زيارة غريبة فاجأت الجميع، وجلس إلى جانب قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني والمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وبعد عودته إلى العراق التقى قيادات العديد من الفصائل المسلحة المحسوبة على إيران، فضلاً عن إصداره بيانات خجولة حول المظاهرات الأخيرة.
وتستكمل الرواية الأمريكية إثارتها بالقول، إن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل جاءت الهجمات الصاروخية الأخيرة على منشآت أرامكو النفطية في 14 سبتمبر 2019، لتزيد من هذه الهواجس، إلى جانب الإحالة المفاجئة لقائد قوات جهاز مكافحة الإرهاب الفريق الركن عبدالوهاب الساعدي إلى إمرة وزارة الدفاع العراقية في 27 سبتمبر 2019، وزيارة وزير الداخلية الإيراني عبد الرضا رحماني إلى العراق في 30 سبتمبر 2019، بحجة ترتيب إجراءات زيارات أربعينية الإمام الحسين في 19 أكتوبر 2019 المقبل، وإلى جانب كل ما تقدم تسترشد الرواية الأمريكية بأن التظاهرات العراقية شهدت تحركات ذكية من قبل المتظاهرين، وهذا يعني أن هناك قيادة خفية تحرك هذه الجموع، مستغلة حاجة المجتمع العراقي للتغيير، فرهان بعض الأطراف داخل الدولة العراقية على الحل الأمني، كان الهدف منه تفريع الأزمة، وضرب أكبر قدر ممكن من الأهداف، وهو ما تريده إيران، عبر توثيق سيطرتها وحلفائها في العراق بعد انتهاء هذه المظاهرات.
ما حصل مظاهرات شعبية نابعة من رحم معاناة المواطن العراقي، بعيدة عن محاولات لصقها بسردية مؤامرة، أمريكية أو إيرانية
في حين تأتي الرواية الإيرانية لتسوق مبرراتها هي الأخرى حيال هذه المظاهرات، بأن ما حدث هو مؤامرة صهيو- أمريكية عربية، تستهدف إسقاط الحكومة العراقية، وتشكيل حكومة جديدة تخضع للسيطرة والإملاءات الأمريكية، وتنطلق الرواية الإيرانية من إن ما شهدته بغداد والمحافظات الجنوبية السبع من مظاهرات مطلبية، وإن كانت محقة، حيث اندفع الشباب العراقي إلى الشارع تحت يافطات مطلبية بهدف تحسين معيشته والقضاء على البطالة والفساد، لكن من كان يخطط لهذه التظاهرات يختفي وراء أجندته التآمرية للقضاء على العملية السياسية والديمقراطية، والعودة بالعراق إلى المربع الأول، أي الى ما قبل سقوط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وهذا ليس تحليلاً، بل مسنوداً بأرقام ووقائع خطط لها من قبل ثلاثة أشهر، وكانت أغلب قيادات الحشد الشعبي وفصائل المقاومة العراقية على علم بذلك، وما سرب مؤخراً في اجتماعات بيروت من معلومات مؤكدة، تشير إلى أن المخطط الصهيو- أمريكي الممول سعودياً، كان يدار من قبل أجهزة استخباراتية تهدف أولاً إلى تحريك مظاهرات مطلبية، ثم يجري استثمارها وخرقها، ومن ثم دفعها إلى العنف والفوضى، وهذا ما شهدناه من خلال توزيع القناصة على البنايات العالية، الذين استهدفوا المتظاهرين والقوات الأمنية في آن، وهذا ما سيربك الوضع تماماً، ويقود البلد إلى حرب أهلية تحرق الأخضر واليابس معاً، وفي هذه الحالة تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية على إنها المنقذ بتجميد الأزمة المفتعلة، وبخروج قائد عسكري محبوب جماهيرياً، وهذا ما رفع صوره المندسون في التظاهرات «في إشارة إلى الفريق الركن عبدالوهاب الساعدي»، على إنه الحاكم الذي يستطيع انتشال العراق من وضعه الحالي الغارق بالعنف والفوضى، ومن القباحة والصلافة أن الشيطان الأكبر أمريكا أوصلت رسالة عبر الوسطاء إلى إيران، بأننا في عام 2019، سنقلب الطاولة عليكم في العراق.
وتستمر الرواية الإيرانية في سرد جزئياتها، إذ أشارت وكالة فارس الإيرانية للأنباء، في افتتاحيتها يوم 3 أكتوبر 2019، في مقالة بعنوان «ماذا وراء إثارة الفوضى في العراق؟»، إلى مخطط مؤامراتي يستهدف إيران أولاً قبل العراق، وذلك عبر تجهيز إعلام عالمي بريطاني صهيوني ممول سعودياً ضد مسيرة الأربعين، وإن أغلبية المشاركين بالتظاهرات شباب لا يملكون الوعي السياسي، غرر بهم، ودفعوهم إلى الواجهة، لأن لديهم حقوقا يظنون إنهم سيحصلون عليها بالتظاهر وإحراق الممتلكات العامة، إلى جانب إحراق علم الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وشعارات إيران برا برا خلال هذه التظاهرات؟ وهل لأجل هذا خرجت المظاهرات؟ وكل هذه الخيوط لو جمعناها معا لخرجنا بنتيجة، إن هناك مؤامرة على العراق لتفتيته من الداخل، هذه المؤامرة انطلت على فاقدي الوعي السياسي والبصيرة، كما أشارت قناة العالم الإخبارية الإيرانية إلى وجود يدٍ خفية تدفع الشارع نحو العنف والتخريب، مشيرة إلى أنه، مع اتساع رقعة التظاهرات، ثمة مجموعات، أشبه بـ»الخلايا النائمة»، تحرّض المتظاهرين على «استفزاز» الأجهزة الأمنية، أو استدراجها إلى المواجهة المباشرة، وتكشف المصادر أن هذه «اليد» محرَّكةٌ بشكل مباشر وكامل من السفارات الأمريكية والبريطانية والقنصلية السعودية في العراق، بمشاركة فاعلة للبعثيين، وأنصار بعض الأحزاب المتضرّرة من تركيبة الحكم الحالية في العراق.
ومن خلال ما تقدم يمكن القول، بأن السرديات التي ساقتها أجهزة الدعاية الإيرانية والأمريكية، في محاولة منها للالتفاف على استحقاقات المجتمع العراقي، جعلت من جموع الشباب الفقيرة حطباً لمحرقة ساقتها الأجهزة الاستخبارية لكلا الدولتين، في حال ما إذا صحت رواية أحدهما، مستغلة حالة النقمة التي يحملها المواطن العراقي على نظام سياسي مقصر في تقديم الخدمات ومستلزمات العيش الكريم، ذلك إن سقوط أعداد كبيرة من الشهداء والجرحى، وتعطيل الاقتصاد العراقي، واستنزاف قوات الجيش الشرطة، أدخل الواقع العراقي في إشكالات كبيرة ستفرض تداعياتها حتى المستقبل القريب، خصوصاً إذا لم يتمكن النظام السياسي الحالي، الذي فقد الكثير من مدخلات شرعيته، بعد توجيه فوهات البنادق إلى صدور المواطنين العزل، من الخروج بمسارات جديدة للحل، تلبي طموح الجموع الغفيرة التي سيطرت على الشارع، ودفعت الكثير من المواطنين إلى ترك أعمالهم والتظاهر في ساحات ومدن العراق، فما حصل هو مظاهرات شعبية نابعة من رحم معاناة المواطن العراقي، وبعيدة عن محاولات لصقها بسردية مؤامرة، أمريكية كانت أم إيرانية.
إن عدم تمكن النظام السياسي في العراق من انتشال البلاد من حالة الاستقطاب السياسي الدائر بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، أوقع العراق بالكثير من الإشكالات السياسية والأمنية، التي انعكست على مجالات حياة المواطن العراقي، الذي يواجه إلى جانب تحدياته المعيشية والخدمية، تحدي غياب الدولة وارتهان السيادة وغياب الهوية، وهي أسباب جوهرية وموضوعية دفعت المواطن للنزول إلى الشارع. ومهما كانت الأهداف التي تقف خلف السرديات الأمريكية والإيرانية، إلا إن ذلك لا يمنع من القول بأن الشعب العراقي فرض نفسه كطرف قوي في معادلة الدولة العراقية، ولن تستطيع أي طبقة سياسية أن تتجاوزه مستقبلاً، وامتلك من الوعي السياسي ما قد يجعله رقماً صعباً في الاستحقاقات السياسية العراقية المقبلة، فضلاً عن نجاحه بتشخيص سلبيات الدور الأمريكي والإيراني في العراق، فالذي تعلمناه من دروس التاريخ، بأن النصر عادةً ما يكون حليف الشعوب، وطالما تمكن الشعب العراقي من تحويل أحزانه ونكباته إلى ردود أفعال، فإن الرهان على مستقبل مشرق للعراق، يطيح بالطموحات الأمريكية والإيرانية سيكون واقعاً قابلاً للحصول مستقبلاً، إذا ما تحدى هذا الشعب نفسه في مناسبات وطنية مقبلة.
كاتب عراقي