المظلومية الظالمة

حجم الخط
10

المظلومية هي وسيلة ظالم لاحق للحلول محل ظالم سابق في اضطهاد مظلوم ظل على حاله سابقاً ولاحقاً، وهي من أكثر التكتيكات ذكاء حيث يمارس الظالمون ظلمهم باسم الانتصار للمظلومين، وذلك بأن يرفع الظالم الجديد شعار المظلومية، لا لينصف المظلوم من ظالميه، ولكن لكي يحل محلهم، ويمارس تصرفاتهم ذاتها ضد المظلوم الذين زعم أنه ثار لأجله.
ولا يقتصر الحديث هنا عن تلك التجارب التي يخرج فيها المظلومون رافعين شعار مظلوميتهم، وشاهرين غضبهم للتنكيل بمن ظلمهم، مع قساوة تلك التجارب، ولكن عن تجارب أكثر خبثاً وقساوة، يختلط فيها المصلحي بالمبدئي، حيث يتبنى مجموعة من الانتهازيين مظلومية غيرهم لتحقيق أهداف سياسية في السلطة والثروة.
هناك العديد من المشاريع السياسية المعاصرة التي عكست «التوظيف السياسي للمظلومية» وفي مقدمة تلك المشاريع: المشروعان الإسرائيلي والإيراني اللذان يتشابهان في كثير من الوسائل والغايات، في ظل غياب تام لمشروع سياسي عربي بديل.
فالمشروع الإسرائيلي قام على «مظلومية اليهود» التي وصلت ذروتها في «الهولوكوست النازي» الذي وظفته «الحركة الصهيونية» لإقامة مشروعها السياسي في دولة إسرائيل على حساب تطلعات الشعب الفلسطيني، بينما قام المشروع الإيراني على استغلال «مأساة كربلاء» التي وظفها «التشيع السياسي» لتوسيع نفوذ دولة إيران على حساب تطلعات الشعوب العربية، حيث يحاول هذا المشروع – وما سبقه من مشاريع «التشيع السياسي» الحفاظ على «جذوة كربلاء» لا لإنصاف «أهل البيت» بل للوصول لأهدافه السياسية باسمهم.
ولذا نرى أن المشروع السياسي الإيراني يحاول اليوم جاهداً الإبقاء على «مرارة الشعور بالمظلومية والاضطهاد والمشاعر السلبية» لدى جمهوره الكربلائي، من أجل الحفاظ على وقود حروبه التي يلزمها الكثير من الأحقاد والبكائيات ودعوات الثأر.
وهذا الأمر مبني أساساً على خبرة طويلة في استدرار العواطف، وإدخالها في حالة مما يمكن تسميته بـ«الخدر الآيديولوجي» اللازم لتدمير الأنا والآخر، خدمة لأهداف لا علاقة لها لا بالدين ولا بالتشيع.
ومن هنا يأتي الحرص على إحياء مناسبات موت أو «استشهاد الأئمة» أكثر من الاحتفاء بميلادهم، بل إن الاحتفاء بـ«الحسين» يعد أعظم المناسبات التي اهتمت بها المؤسسة الدينية الرسمية في إيران قديماً وحديثاً، بهدف استغلال تلك المناسبة لمزيد من التحشيد والتحريض والكراهية اللازمة لاستمرار الحروب داخل الصف العربي لتسهيل مهمة السيطرة عليه.
وفي غمرة تلك المناسبات لا يسأل أحد لماذا اهتمت جماعات التشيع السياسي بـ«ثورة الحسين» ولم تهتم بـ«صلح الحسن»؟، حيث يمثل الحسين ـ لا الحسن ـ الشخصية المناسبة لنقل الحروب إلى داخل الجسد نفسه، لأن معركة الحسين كانت معركة داخلية مثَّلتْ حرباً أهلية بين فريقين من قريش، وبالتالي فإن إحياء ذكراه يتعدى الحزن الطبيعي-الذي لا يمكن أن يستمر قروناً- إلى «حزن سياسي» يهدف إلى زرع كربلاء في كل بلد عربي لإضعاف تلك البلدان، ومن ثم سهولة التحكم بثرواتها، كما هو ملحوظ اليوم في البلدان التي تنتشر فيها مليشيات إيران.
قد يقول قائل إن الأهمية التي يكتسبها الحسين لدى جماعات التشيع سياسي، والتي تخطت رمزية أخيه الحسن جاءت بسبب المأساة التي تعرض لها دون أخيه، والواقع أنه على الرغم من وجاهة هذا التفسير إلا أن واقع تسييس دم الحسين في الماضي والحاضر يوحي بما هو أبعد من مجرد الحزن الفطري بسبب مأساة حصلت قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.

المظلومية هي من أكثر التكتيكات ذكاء حيث يمارس الظالمون ظلمهم باسم الانتصار للمظلومين، وذلك بأن يرفع الظالم الجديد شعار المظلومية، لا لينصف المظلوم من ظالميه، ولكن لكي يحل محلهم

وبالنظر إلى وسائل مشروع التشيع السياسي الحديث التي يُكيّفها من أجل استمرار الشعور بالمظلومية، يمكن أن نلحظ عدداً من التكتيكات اللافتة، ومنها: «توظيف الشعار» حيث تم إنتاج مجموعة من الشعارات الحديثة، وإحياء مجموعة من المقولات القديمة للأغراض ذاتها، وشاهدنا الميليشيات الطائفية وهي تهتف: «يا لثارات الحسين» و«لبيك يا حسين» و«لن تسبى زينب مرتين» ناهيك عن مقولات، مثل: «كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء» وغيرها من الشعارات التي تحرض على الكراهية والعنف.
وفي السياق ذاته يمكن إرجاع الاهتمام بالمؤثرات الصوتية واللونية والدرامية التي تحفل بها المناسبات الدينية المسيسة إلى الرغبة في المزيد من ذلك «الخدر الآيديولوجي» اللازم لتوجيه شعور الجمهور إلى الوجهة المطلوبة، حيث تحضر الأنشودة الحزينة المؤداة بأصوات بكائية، وعلى أدوار موسيقية وعروضية فجائعية، كما تحضر التمثيلية في شكلها التراجيدي المأساوي، بالإضافة إلى حضور اللون في درجته السوداء الباعثة على الحزن والكآبة المطلوبة لمزيد من الاحتقان والحقد والكراهية.
ويأتي في سياق تلك التكتيكات تحويل دور العبادة عن رسالتها الحقيقية في تفجير الطاقات الروحية الإيجابية للمتدينين، والانحراف بها نحو طاقات سلبية مشحونة بالشعور بالمظلومية والانتقام، لزيادة عدد المحتقنين الذين يُعوَّل عليهم في المزيد من الخراب والدمار، اللازمين لبسط سيطرة مشاريع الهيمنة الجديدة.
وفوق ذلك تم توظيف جانب من «أدب الالتزام» بمدلوليه الديني والماركسي، ضمن السياقات السياسية المطلوبة، حيث أكثرت اتجاهات شعرية حديثة من الاغتراف ـ بوعي أو بلا وعي ـ من رمزيات معركة كربلاء في مواجهة مؤسسة السلطة الحاكمة، وتم توظيف رمزية الحسين ضمن تداعيات إبداعية في سياق من القداسة التي غلفت معركة تندرج ـ أصلاً – ضمن الصراع السياسي بين العلويين والأمويين، لتصبح لتلك المعركة تداعياتها وإسقاطاتها الرمزية المنفتحة على دلالات التمرد والثورة.
إن استمرار تمدد ذلك المشروع السياسي يقتضي الاستمرار في التكتيكات المذكورة لتعميق شعورين سلبيين متقاطعين: الأول: هو الشعور بالمظلومية الذي يغذي الرغبة في الانتقام والثاني: هو الشعور بـ«الأفضلية» الذي يغذي الرغبة في السيطرة، وعندما يتعمق شعوران أحدهما بالمظلومية والآخر بالأفضلية، فإن هذين الشعورين هما الوصفة الدقيقة لتدمير الأنا والآخر، حيث لا ترى الأنا إلا مظلوميتها وأفضليتها، في مقابل ظالمية الآخر وعدم استحقاقه، وهو ما يجعل الأنا تنطلق بتأثير الدعاية الطائفية و«الخَدَر الآيديولوجي» في صراع طويل ينتهي بعدد كبير من «الكربلاءات والعاشوراءات» في أزمان وبلدان مختلفة، يراد لها أن تسقط تدريجياً في شباك «الظالمية المعاصرة» التي تمارسها جماعات «المظلومية التاريخية» خدمة للأهداف المعروفة.
ولعل تعمق الشعورين بالمظلومية والأفضلية هو الذي يجعلنا لا نجد أثراً للإحساس بالذنب لدى أولئك الذين نشروا الأجساد بالمناشير، وثقبوا الرؤوس بالدريلات، وأطلقوا الصاص على ضحاياهم وسط صرخات الثأر والانتقام والنشوة، التي يتحول معها الإنسان إلى كائن غرائزي مريض، يتقمص دور المظلومية فيما هو يمارس أبشع أنواع الظالمية على الإطلاق.
وفي ضوء ما سبق يمكن فهم جانب من مأساة السوريين والعراقيين واليمنيين واللبنانيين الكبرى التي يراد لها أن تُفهم بعيداً عن الأسباب الرئيسية لها، والمتمثلة في تغول تلك المظلومية الظالمة، والتي يجب تفكيك سردياتها المغلوطة، كمنطلق لتفكيك منظوماتها المتغولة التي تفتك بالنسيج الاجتماعي والمنظومات السياسية في عدد من البلدان العربية.
ومع ذلك التغول المريع لتيارات التشيع السياسي فإن الأصوات ينبغي أن ترتفع للوقوف في وجه دعوات الثأر والانتقام واللعب السياسي بالرموز الدينية، والعزف على أوتار المظلومية التاريخية التي لا تولِّد إلا المزيد من المظلوميات ودورات العنف التي لا تنتهي، خدمة لأهداف لم تعد خافية على أحد.

كاتب يمني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبودي:

    نعم، تاريخيا، فقد وظف الفرس مأساة الحسين لتحقيق مصالحهم ، فكتبوا على باب مرقد الأمام الحسين” لعن الله امة قتلتك” وهي ضمن دعاء يقال : كمستلزمات زيارة الامام الحسين ؛ بينما لم يكتبوا على باب مرقد الأمام علي، والذي قتله الفارسي ابن ملجم، الشيء نفسه …وايهما اهم في تاريخ الاسلام ونشره والدفاع عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، دور الأب علي بن اب طالب ام دور الابن الأمام الحسين!!….ولكنهم الفرس ، وظفوا الأمور بالشكل الذي يخدم مصالحهم إلى يوم القيامة… فاين العرب من كل هذا

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      لا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول فلسطيني:

    مقالة رائعة واصاب الكاتب ، شخصيا توضحت الصورة عندي اكثر عندما سلط الكاتب الضوء على ” الأفضلية ” وتزامنها مع ” المظلومية ” بالشيء الكثير ، مهم جدا الانتباه الى هذا الربط . فبالفعل هذا ما اجده عندما اجري بعض الحوارات او النقاش مع الاصدقاء من ” الطرف الآخر ” .

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    لا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول سمير عزيز:

    الشكر الجزيل للكاتب على هذا التحليل الدقيق والصائب لمشكلة كبيرة وخطيرة. وأود الاضافة الى ان القوى التى تهدف الى تمزيق النسيج الاجتماعي العربي تنشر مفاهيمها التي تزرع التفرقة والكراهية عبر وسائل الاعلام الرسمية وغير الرسمية من صحف ومحطات فضائية ووسائل التواصل الاجتماعي. وتجند هذه القوى عددا كبيرا من الصحفيين والاعلاميين لنشر المقالات والتحقيقات التي تصب في هدفها المشبوه. ولقد قرأت مؤخرا عددا من المقالات في صحف عراقية مغزاها ومحتواها ينطوي على آراء وصيحات تؤجج روح الانتقام والثأر. ويقوم بعض الكتاب برسم صور خيالية وتضخيم لأحداث تاريخية. بل أن احدهم كتب مقالة عنوانها “ذكرى الاربعين اذهلت العالم” في اشارة الى الاحتفاء السنوي بمرور اربعين يوم على وفاة الحسين (ر) ، في حين انني كنت اتوقع ان أقرأ مقالة عن اختراع عربي يذهل العالم! فانظروا كيف يستخف هؤلاء الكتاب بعقولنا وكيف يساهمون والمؤسسات الاعلامية التي تحتضنهم بتمزيق مجتمعاتنا وبنشر مفاهيم التخلف والتغول في الانحطاط.

  5. يقول منير:

    سيسوا الدين وطيّفوا السياسة وخربوا البلدان.
    والمشكلة أنه كلما جاء حاكم ظالم سار على منوال الظالم الذي سبقه، حتى صارت شعوبنا تحن لزمن ظالم سابق لما تراه من ظلم الظالم اللاحق.
    ونظل في هذه الدائرة المغلقة دون بصيص أمل إلى أن يشاء الله.

  6. يقول Au WAGGAWAGGA:

    اللهم انا احفاد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته واله نبرأ لك من عمل روافض المجوس من كفر وشرك بعبادتنا والطواف حول قبورنا والسجود لتلك القبور ودعاءنا والاستغاثة بنا…
    ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا

  7. يقول ناديا الرويلي - إيرلانغن (ألمانيا):

    شتان بين المدلول التاريخي (الهولوكوست النازي) وبين المدلول التاريخي (مأساة الكربلاء) !!!
    المقارنة بين الاثنين ليست في محلها على الإطلاق هنا، لإدراك أبعاد ما يُسمَّى بـ (المظلومية الظالمة) !!!؟

  8. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي محمد حجاج. مقال يضع النقاط على الحروف في الحقيقة. ومن اللافت للنظر هو توازي المشروعين الصهيوني والإيراني. لاأعتقد أنها مصادفة، حيث أن المشورع الصهيوني مرتبط بشكل مباشر بالإستعمار الغربي والمشروع الإيراني هو ضرورة مصلحية للغرب بسبب البترول في الخليج كما نعلم.

  9. يقول هوزان هكاري:

    مثل عراقي يقول (الذي لايفتح زنبيله فلا احد يعبي
    له) بمعنى لو لم يكن هناك من هو مستعد في
    العراق وسوريا ولبنان واليمن لتنفيذ مخططات
    الفرس لما استطاعت ايران تمرير مخططاتها.

إشترك في قائمتنا البريدية