مهما استثمرت المعارضة السودانية في رصيدها السياسي التاريخي، ودعمته بخطابها السياسي الذي ينحو لتوصيف الأزمة، ورفعت شعاراتها الصحيحة عن ضرورة التغيير الشامل في السودان، فذلك لن يبرئ ساحتها من تحمل جزء من وزر انغلاق الأفق السياسي، والنهايات التي تساق إليها الأزمة السودانية باتجاه حلول فوقية غير شاملة وغير مجدية على المدى الطويل.
ومهما بررت مواقفها بذرائع ممارسات الطرف الحكومي، وعاداته المزمنة في نقض العهود والتلاعب بالمواثيق، فذلك لن يعفيها من واجب التعامل مع واقع المتغيرات الآنية ومحاولة تحسين شروطها ونتائجها، وذلك لا يمكن ان يحدث بدون الانخراط المباشر في العمليات السياسية الجارية. هذه العمليات أصبح الضغط الدولي والإقليمي هو المحرك الأول، إن لم يكن الأوحد لها، وتهدف بشكل أساسي ووحيد لوقف خطر الانهيار المتسارع الذي يحيط بالسودان، من منظار مصالحها والآثار الكارثية على الإقليم في حالة حدوثه. ولتفادي هذه الآثار، فإن ما يعني الوسطاء الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة وألمانيا والاتحاد الإفريقي، ليس التوصل إلى حلول حقيقية تخاطب جذور الأزمة السودانية، وتفتح الباب لتحقيق مصالح شعبه، بقدر ما يهدفون للتوصل إلى نظام سياسي مستقر ومسيطر في السودان، يستطيع الحفاظ على الدولة من الانهيار، ولا يهمهم ما إذا كان ديمقراطيا أم لا، ينفرد فيه المؤتمر الوطني بالسلطة، أو يتداولها سلميا مع الآخرين.
معادلة الاستقرار الفوقي هذه تتطلب بشكل جوهري وقف الحرب في أطراف السودان المختلفة. ووقف الحرب في حد ذاته أمر جيد وهدف يجب ان نحتفي به ونعمل من أجله جميعا، لكن السلام التقني الذي ينتج عن وقف الحرب بشكل فوقي وبدون مناقشة وحل أسبابها وجذورها، يصبح مجرد تأجيل وتجميد للمشكلة، لتعود وتجدد مرة أخرى في المستقبل. وسطاء المجتمع الدولي يدركون ذلك، إلا أنهم يراهنون على ترك مشاكل المستقبل للمستقبل، عسى أن يكون لأحد الأطراف في تلك الصراعات القدرة على حسمها عسكريا، أو سياسيا، أو باستخدام أَي وسيلة يتيحها له توازن القوى وقتها. أيضاً هناك لاعبون إقليميون مثل إثيوبيا وجنوب السودان، لهم مصالح ذاتية في إنهاء حالة الحرب في السودان، فدولة الجنوب مثلا تحتاج إلى إنعاش اقتصادها بتصدير النفط عبر الأراضي السودانية، بما يتطلب إيقاف الحرب في المناطق المتاخمة لحدودها. كل هذه الأهداف والمصالح الخارجية المتقاطعة لا تتضمن إفساح المجال لتحول ديمقراطي حقيقي في السودان، وإصلاح المشاكل الهيكلية المتعلقة بعدم العدالة في توزيع الخدمات والموارد بين السودانيين وغير ذلك. هذه القضايا ليست مطروحة على الطاولة، وأحد أسباب غيابها، أنه لا يوجد من يطرحها. هي مصالح مباشرة للشعب السوداني، يجب أن تقوم قواه وتنظيماته الوطنية والديمقراطية بطرحها والعمل على تحقيقها في كل مساحة ممكنة، لا يوجد غيرهم لفعل ذلك. وهذه القوى تتضمن التنظيمات والحركات السياسية التي اختارت العمل المسلح، والتي يتم التفاوض معها حاليا لوقف الحرب. ولكن توازنات الواقع والقوى العسكرية على الارض، يجعل تفاوضهم محصورا في شؤون إقليمية محددة ومتعلقة في أفضل الأحوال بالفئات المتضررة من الحرب ودفعت ثمنها الغالي.
وكما أن الأطروحات السياسية لهذه الحركات، وإن كانت لها جوانبها القومية، هي متعلقة في المقام الأول بالمظالم الإقليمية والمناطقية والإثنية التي أهملتها الأنظمة السياسية المتعاقبة على السودان، واستكانت القوى السياسية في ترك شأنها للتنظيمات المسلحة، في أسوأ إهمال وممارسة سياسية غير مسؤولة من جانب التنظيمات المدنية على الاطلاق. فيصبح من العسف غير المعقول الآن، وفي ظل ميزان القوى الحالي الذي يميل بشدة لصالح النظام، أن نتوقع من مفاوضات وقف الحرب إصلاحات سياسية كلية وشاملة.
لا يستطيع أحد تجاوز المعارضة في طرحها لمواقف موحدة في العملية السياسية، ولا أحد يملك أن يملي عليها ما تطرحه
على تنظيمات المعارضة المدنية أن تأخذ ناصية الخيارات الصعبة، التي كان بعضها نتيجة لمواقف سابقة خاطئة اتخذتها، أو صحيحة تكاسلت عن اتخاذها في الماضي. فشعار الانتفاضة الجماهيرية للإطاحة بالنظام، الذي ترفعه في مواجهة فشل المؤتمر الوطني في إدارة شأن البلاد، له ثمنه الباهظ لعدم تورع النظام عن استخدام كافة آليات وأدوات عنفه في التصدي له. كما أن فريضته الضرورية المتمثلة في واجب الاقتراب من الجماهير وتنظيمها بفعالية، غائبة في اللحظة الراهنة، ومجرد الاعتماد على سخط وإرهاق الجماهير فقط في التخطيط للتغيير السياسي عبر الانتفاضة الجماهيرية، هو تفكير رغبوي كسول وغير منطقي. ما يعطل هذه الفريضة عدة عوامل موضوعية وذاتية، فالعزلة بين التنظيمات السياسية والمواطنين، التي استثمر فيها النظام، يحتاج علاجها إلى مساحة سياسية مفتوحة يملأها التنظيم والتواصل الفعال، وهي المساحة المفقودة الآن. والتنظيمات السياسية تُمارس خطاب إرضاء الذات بتوصيف الأزمة والحديث إلى النفس، بدون أن تقدم خطابا مقنعا يعكس امتلاكها لمفاتيح حلول موضوعية للأزمات. الأمر الذي يكشف العامل الآخر الذاتي في عقبات العمل الجماهيري، وهو ضعف قدرات هذه التنظيمات نفسها على اجتراح حلول عملية للأزمات التي تواجه السودان بما يؤهلها للعب دور البديل السياسي المقنع لما تمارسه الحكومة من عبث الآن.
دائرة العجز الذاتي والموضوعي هذه مغلقة وتغذي عواملها بعضها بعضا. فانغلاق المساحات السياسية يمنع الأحزاب من التواصل الفاعل مع الجماهير، وتطوير نفسها وخطابها للاقتراب منهم، وتدريجياً تزيد الشقة فيما بينهم، وبالنتيجة يزداد عجزها في تحقيق هدفها في التغيير السياسي بواسطة الجماهير. هذه الدائرة يجب كسرها، ولكن فصائل المعارضة تقوم بتقديم تكتيكاتها على أهدافها… وتضع هذه التكتيكات امام بعضها بعضا وكأنها متعارضة بدلا من أن تكون متكاملة. فالمعارضة ترفع شعار الانتفاضة، بدون ان تمتلك القدرة الواقعية على تنفيذها، وبدون أن تعمل على تجاوز العقبات باتجاه صناعتها، وتغفل النظر عن الوسائل الاخرى وترفضها بشكل قطعي شبه عقائدي، بدون النظر إلى ما قد تكسبه منها ويساعدها في تحريك عجلات تكتيكاتها الاخرى، فمثلاً ترفض الانتخابات بدعوى ان النظام سيزوّرها لا محالة، وترفض التفاوض بسبب باع النظام الطويل في نقض العهود والمواثيق والتلاعب بها، ولكنها تتجاهل أن النظام لا يقف ساكنا أمام وسائلها الأخرى لمعارضته، فكما يزوّر الانتخابات ويتلاعب بالتفاوض، فهو يستخدم أشد آليات قمعه في إجهاض التظاهرات الجماهيرية، ويستخدم أعتى أدوات عنفه العسكري ضد الحركات المسلحة، ذلك لم يمنع المعارضة من اعتماد هذه التكتيكات واستخدامها، رغم الكلفة الباهظة لهذا القمع من حياة وأرواح الناس.. رفع هذه الشعارات واستخدام هذه الوسائل، من حق المعارضة تماما، ولكن التعامل معها كخيارات وحيدة ورفض الانخراط، أو التفكير في الخيارات الأخرى هو قصر نظر بالغ، فاختيار التكتيكات السياسية لا يعتمد على الرغبات، بل على القراءة الموضوعية للواقع وتوازن القوى وكيفية تغييره، وليس إرضاء الذات برفع شعارات والركون إليها.
إن للقوى المدنية فرصة تاريخية لاقتحام العمليات السياسية الجارية حاليا وتغيير مسارها ونهاياتها، بل وانتزاعها من براثن أجندات المجتمع الدولي، ورفع سقفها بفرض مطالب وطنية تضمن تحقيق انفتاح سياسي يتيح إمكانية إنتاج وتجديد الخطاب والآليات السياسية. لا يستطيع أحد تجاوز المعارضة في حالة طرحها لمواقف موحدة في العملية السياسية، ولا أحد – لا الوسطاء ولا الحكومة ولا المجتمع الدولي- يملك ان يملي عليها ما تطرحه، عدا عن أن المؤتمر الوطني نفسه في حاجة ماسة لإنجاح العملية التفاوضية، وبالتالي سيكون مجبراً على تقديم تنازلات فيما يتم التفاوض حوله، ولكن بطبيعة الحال، لن يقدمها فيما لا يتم التفاوض عليه.
هذا الانفتاح السياسي ليس نهاية المطاف في الصراع السياسي، بل هو مرحلة على المعارضة الاستفادة منها في تطوير ادائها وأدواتها في هذا الصراع، وقد يحقق بعض الاستقرار الاقتصادي ويفضي إلى آليات فاعلة لمحاربة الفساد وسوء الإدارة، بما ينعكس على تحسين معيشة المواطنين. وهو ما يجب ان تتفاوض عليه المعارضة وتطرحه بوضوح في قائمة مطالبها، فالمعارضة ينبغي عليها أن تطور مواقف اقتصادية تفصيلية وإجراءات واضحة في مجال العدالة الاجتماعية، وتحاول انتزاعها بدلا من التمترس في عموميات السياسة الفوقية. وهذا ما سيجعل هذه العملية موصولة بغمار الناس. البلاد مُرهَقة واهلها مُتعَبون إلى حد بعيد، وما يحدث في السياسة السودانية سيكون أسوأ بما لا يقاس إذا استمر الجميع في تكتيف الأيدي والاكتفاء بالتفرج عليه، أو نقده او تشجيعه من خارج الحلبة! فعل شيء… أي شيء هو أفضل من حالة الجمود والانعزال التطهري السائد الان.
كاتب سوداني