المعبر

كم وددنا لو قاربنا الكلمة من منظور شعري أو أدبي، كم وددنا التوسع في ملائمته لعمل روائي أو ديوان قصائد، فكم يليق المعبر فعلا بنتاج القلم والكلام، كما يليق «الأزرق بك.» أولا، المعبر ليس الممر، الأخير تقني- آلي يتيح للمرء قطع المسافة التي يحتاجها لقضاء حاجيات يومياته بين عمل وتبضع وتنزه، ليعود بعد إكمال المسافة إلى النقطة التي انطلق منها. لن تجد استثمارا أدبيا قويما في كلمة «ممر» لأن «الممر» لا يفتح المجال التلقائي للتأويل المجازي. (خلافا لما تحيله كلمة «مجاز» نفسها التي هي أقرب إلى العبور من المرور.)
المعبر موقع انتقالي، لكنه انتقال يراد له أن يكون جذريا.. من يعبر، لا يعبر مجرد طريق، يعبر خلفية ومحيطا وعالما، ويمكنك أن تلاحظ كيف نقول مثلا «يمر بظروف صعبة» ولا نقول أو بالكاد «يعبر ظروفا صعبة». هنا تلامس دقة معاني الألفاظ: المرور مرحلي، مرتبط بمعطيات تضفي مناخا وأجواء معينة قد تقصر قد تطول، لكنها دائما تتصل بالحياة اليومية وتنحصر في إطارها.

«المعابر الحدودية»  أكثر الكلمات تداولا في وسائل الإعلام حاليا بعد الفاجعة. وقد يبدو حديثنا عن المعابر زهيدا في سياق الزلزال الكبير

العبور يحتمل طي الصفحة وهو ما لا يحتمله المرور، العبور من النقطة «أ» إلى النقطة «ب» يحمل تدرجا يستدعي أن تكون قد تركت شيئا وراءك ودخلت التغيير حتما، أكان من الباب الضيق أم الواسع. الممر ذهاب ونقل ووصول.. لا يحمل التغيير في طياته. في المقابل، المعبر تحويل وتحول. إنه خط متصاعد. «المعابر الحدودية « أكثر الكلمات تداولا في وسائل الإعلام حاليا بعد الفاجعة. وقد يبدو حديثنا عن المعابر زهيدا في سياق الزلزال الكبير، كما سمته وسيلة إعلامية تسعى جاهدة وشاكرة لتغطيته أيضا من الوجهة العلمية، لكن إن كنت قد اخترت منذ البداية مقاربة منفصلة عن السياسة، فلا يمكنني في الوقت نفسه إلا أن أضم السياسة في سائر المعابر أيضا، ليس فقط لأن مسألة فتح المعابر، كل المعابر، الواقعة منها تحت سيطرة حكومة دمشق، أو تلك الخاضعة لسيطرة المعارضة، أمر لا محيص عنه، لكن أيضا لأن السؤال الذي بدأ يطرح نفسه هو سؤال الرهانات الجيوستراتيجية لما بعد الحدث الجلل، وفي مقدمته موضوع إعادة البناء. فمن المعلوم أن مجال البناء من أكثر المجالات استهدافا من قانون قيصر، الذي على حد قول مراقبين مستقلين نشروا دراسة في مجلة «أوريانت 21» الفرنسية المختصة بجيوسياسة الشرق الأوسط، «سيحبط كل مساعي المستثمرين المحتملين، الذين ربما فكروا في العودة إلى السوق السورية لتنفيذ نشاطات اقتصادية ولو متواضعة». يشار هنا إلى أرباب شركات بلدان عربية محورية في تقديم الدعم الاقتصادي، مثل لبنان والإمارات، وأيضا «إلى رجال الأعمال السوريين المغتربين الذين لن يعودوا إلى أرض الوطن، طالما سيستمر سريان مفعول العقوبات»، كما يرى أحد رجال الأعمال المقيمين في دمشق تحدث إلى المجلة، البعض بدأ يتساءل هل تنذر هذه الكارثة بسياسة جديدة من المجتمع الدولي اتجاه سوريا، بعد أن تبودلت الاتهامات في تأخير المساعدات. ولو عدنا إلى قانون قيصر ذاته الذي فرضته الخزانة الأمريكية مدعومة بمجموعات الضغط الأمريكية من أصول سورية، نستشف أن «الشق الإنساني» الذي يستثنيه القانون ليس واضح المعالم: فإلى جانب المساعدات الغذائية والإسعاف الطبي العاجلين، يظل موضوع إعادة ترميم البنى التحتية مثل شبكات الكهرباء والمستشفيات والمدارس، أمرا ينتظر أن يكون عضويا في هذا القانون.. وهو ما لم يقع تسطيره في أي من فصوله. المعبر.. كلمة وددنا لو بقيت محصورة في دلالاتها الموضوعية الأصلية والأصيلة، مجردة من الشحنة الانفعالية التي تحتمها تطورات الأحداث ومآلاتها، غير أن ثمة لحظات يفرض فيها الواقع نفسه، وفيها يحاول كاتب الأعمدة بتواضع كلماته، اقتراح نوافذ ولو بقيت كوات تلوح في النفق المظلم.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية