ذكرت مرة في مقال في «القدس العربي» إن أدب «الخيال العلمي» أو«التخيل العلمي» كما أفضل؛ اتخذ شكله الخاص عند منتصف القرن العشرين، لأسباب منها استقرار أسس النظرية النسبية، والتقدم العلمي الهائل الذي عرفه الغرب عامة. على أننا نقف على بواكير هذا الأدب، في «ملحمة كلكامش» و«ألف ليلة وليلة» و«رسالة الغفران» للمعري و«الكوميديا الإلهية» لدانتي… وهي ترتد كلها إلى نوع من التنبؤ بالمستقبل، أو الكهانة. وفيها ينشد الإنسان سعادة ما أو خلاصا ما، أو معنى ما يضفيه على حياته.
وأحاول في هذا المقال أن أتطرق إلى «التخيل العلمي» العجيب عند أبي العلاء المعري، من خلال «رسالة الهناء» وبعض شعره. والسجالات اللغوية في هذا الأدب العلائي كثيرة الغنى كثيرة التنوع. وهو شأنه شأن صاحبه الشامي أبي تمام، يرجع فيها إلى مصادر شتى دينية وعلمية، ومهن وصنائع مختلفة. وقلما حفل شعر قديم بمثل ما يحفل به هذا الأدب من حيث ثروة اللفظ، سواء ما اتصل منه بالعلوم والصنائع أو بالثقافة في معناها الواسع. وكثيرا ما يتخذ اللفظ فيه هيئة مصطلح علمي أو فني، قد يطويه التركيب أو اللغة طيا، وقد يبسطانه بسطا، بكلمة سابقة أو بأخرى لاحقة. وربما انتهى فرط التحديد والتقسيم بالشاعر إلى ربط الكلمات والأشياء جميعها برباط واحد، هو علاقة السبب بالمسبب والمعنى الشعري بالمعنى الاصطلاحي. لكن اللجوء إلى التشبيه والمراوحة بين التصريح والكناية والعدول إلى رحاب المجاز والاستعارة، تخفف من قيد المصطلح ومن دقته العلمية.
وإذا العلامات الأحادية التي تتمثل في العلم منظومة من المجردات تمثلا متسقا، تنتظم في النص في هيئة فريدة، حيث الكلمة موضوع على قدر ما هي إشارة، أو هي موضوع يبرح حيزه الاصطلاحي، ليشير إلى موضوع آخر، ويثير معاني كلمات أخر، تتصل به جرسا أو صوتا أو معنى أو اشتقاقا، أو حتى كلمات تعارضه وتنفيه. والمصطلحات الفلكية التي «تلاعب» بها أبو العلاء، حمالة مفاهيم دقيقة في وضع واضعها، وسلطتها سلطة مرجعية بالأساس، غير أنها تعقد في النص الشعري، صلات غير معهودة بين «الإشارة» «الشيء» المشار إليه، وتهدم وهي تجري في معابر البيان والاستعارة وشتى صنوف المجاز، وتنعطف في منعطفاتها؛ المواضعات اللغوية المألوفة، التي تتمثل خارج النص نظاما متصورا للأشياء.
في «رسالة الهناء»(ت. كامل كيلاني) يجنح الخيال العلائي بعيدا في المستقبل؛ فيتمثل ما يجوز أن يتحول من ممتنع مستحيل، إلى ممكن؛ مثل إمكان تحلية البحر، فيغدو الملح المر عذبا كأنه عسل: «ولا يمتنع في القدرة أن يعذب الماء الأجاج، فيعود كأنه من النحل مُجاج» أو تتحول السفينة إلى سفينة فضائية، تسبح في مسابح النجوم محمولة على متن الهواء شعلة من قبس، في يد قابس يعدو سريعا بلهب مشتعل: «تسير السفينة على اليبس، وتضيء كإضاءة القبس في يد متعجل وشيك، أو تحملها الريح الهابة كحملها عرش المؤمنة بلقيس». ويتحول ما في الطبيعة من رياض وأشجار وأزهار وورود، إلى أثواب من الديباج والحرير؛ للغني والفقير والمعسر وذي الفاقة. وتنطق جبال الروم، فتقول:»ليت ما تنبت بلادنا من الرياض، وما اكتسى به الشجر المثمر أو الغياض، يصير كله من ديباج».
فإذا انتقلنا من طبيعة أرضية إلى طبيعة سماوية، شدنا في هذا الخيال العلائي مدونة فلكية غنية وشغف بتوصيف الكواكب الثابتة والسيارة مثل «النجم» و«الشمس» و«القمر» و«الجوزاء» و«الجدي» و«المشتري» و«الدلو» و«الثريا» و«عطارد» و«النسر» و«برهام» و«الحوت» و«الفرقد» أو «الفرقدان» و«السرطان» و«الحمل» و«زحل» و«الثور». وعلم الفلك لم يكن عند أكثر القدماء علما خالصا، وإنما مازجته أساطير كثيرة، وتلاقت فيه عناصر وأمشاج دينية وفلسفية شتى، شأنه شأن علوم أخرى. وقد كان شائعا في بيئة العرب والمسلمين، بخاصة في بلاد الرافدين، مثل حران التي كانت مركزا لعبادة الكواكب والنجوم؛ ومن أشهر هياكلها هيكل الإله القمر «الاله سين». ولعل المعري يدين مثل الشامي الآخر الشهير أبي تمام، بهذا المعجم الفلكي، إلى الشعر القديم وشعر القرن الأول للهجرة، من جهة، وإلى صابئة حران، من أخرى؛ وهي التي اعتمدت مبدأ تأليه الأفلاك والنجوم والكواكب السيارة، من حيث هي موجودات روحانية مفارقة. ومما يرجح هذا الاحتمال أن العنصر الوثني المتصل بعبادة الأفلاك والنجوم عند صابئة حران، يتوضح في إطلاق بعض فرق الشيعة على الإمام علي اسم الشمس تارة، واسم القمر أخرى.
على أن أبا العلاء «يلعب» لعبة أخرى عجيبة حقا، وكأننا في فيلم من أفلام الخيال العلمي؛ فالبدر بعد تمامه سوار كسرته يد الظلماء، والأسد يغدو كلبا من كلاب الأرض، وفراقد النجوم تعاشر فراقد الأرض، أي أولاد البقر الوحشي، والثور السماوي يهبط إلى الأرض، ويشارك سميه في الحرث، ونعام الجو تنزل من عليائها، لتهيم مثل نعام الفلاة، وتعدو هاربة من الصيادين، ويهوي الحوت من سمائه، ليعيش مع سميه حوت البحر؛ وتتهاوى النجوم المتألقة، لتقبع في حفرة من الأرض:
وَصَورَ لَيثَ الشُهبِ في مُستَقَرهِ
وَلَو شاءَ أَمسى فَوقَ غَبرائِهِ كَلبا
وَأَلقى عَلى الأَرضِ الفَراقِدَ فَارتَعَت
مَعَ الفَرقَدِ الوَحشي تَرتَقِبُ الأَلبا
وَأَهبَطَ مِنها الثَورَ يَكرُبُ جاهِداً
فَتَعلَق ظَلفَيهِ الشَوابِكُ وَالهُلبا
وَأَضحَت نَعامُ الجَو بَعدَ سُموها
سُدىً في نَعامِ الدَو لا تَأمَنَ الغُلبا
وَأَنزَلَ حوتاً في السَماءِ فَضَمهُ
إِلى النونِ في خَضراءَ فَاعتَرَفَ السُلبا
وَأَسكَنَ في سُك مِنَ التُربِ ضَيقٍ
نُجومَ دُجىً في شَبوَةٍ أَبَت الثَلبا
وهذه الكواكب والأبراج والنجوم، تنتظم كلها في صور استعارية ذات جذر أسطوري، يديرها أبو العلاءعلى معنى أو فكرة أو حالة، أساسها قاعدة من التبادل بين «داخلي» و«خارجي» حيث «الشعري يقاسم الأسطوري» اللعب بالرموز، وإن اختلف المقصد من هذا إلى ذاك.
فالأسطوري يفلت بحكم قاعه «الحلمي الطوباوي» من سطوة التاريخ، لكنه يغالب أي غياب للمعنى. ولذلك لا غرابة أن تقترن الكواكب في هذا الشعر بجملة من المعاني، وأن تتخذ مصدرا من مصادر المعرفة أكثر منها موضوعا من موضوعاتها. والحق أن أبا تمام سبق المعري في هذا النوع من «اللعب» الشعري بالمعنى النبيل للكلمة، فأضاف الكبرياء والسعود إلى المشتري، والغضب والسورة إلى برهام، والظرف والحسن إلى عطارد، مما لا علاقة له بالنجامة أو «علم النجوم» الذي اختص بدرس أحوال النجوم وطرق سيرها في سبيل ضبط المواقيت والأنواء:
له كبرياء المشترى وســـعودهُ /// وسورة بهرام وظرف عطاردِ
وذكر الشراح أن «المشترى» هو كوكب العظماء والملوك، و«بهرام» هو المريخ، وهو كوكب السلطان، و«عطارد» كوكب الكتاب والأدباء. وخلصوا إلى أن المقصود بالقول إن للممدوح كبر الملوك، وبطش السلطان، وظرف الأدباء. لكن المعري كان أوسع خيالا وتخيلا، فالليل مثله مثل الإنسان يخاف ويرتعد من الموت:
كأنما الليل لخوف الردى/// تأخذه من فرَقٍ رعدة
وهو مع ذلك، لا يبرح دائرة العقلانية التي ميزت سيرته. من ذلك سخريته اللاذعة من الذين يجعلون للنجوم منطقا وعواطف ومشاعر ورغبات، أو أضفوا عليها العقل والتمييز:
وقد زعموا بأن لها عقولا /// وأقضية المليك مؤكداتِ
وأن لبعضها لفظا وفيها /// حواسد مثلنا ومحسداتِ
أو تعريضه بخرافات العامة، كزعمهم أن الشمس تهان وتضرب، كلما أزف وقت الشروق:
وقد كذَبوا حتى على الشمس أنها /// تهان إذا حان الشروق وتضربُ
وفي الهوامش التي شفع بها كامل كيلاني تحقيقه لرسالة الهناء، شواهد دقيقة من غرائب المحال العلائية؛ وكأننا في حرب الكواكب والنجوم؛ أو في «آخرة العالم» فالفناء يدرك زحل وهو عنده أعلى الكواكب دارا، ونجوم الثريا تتبدد، ونار المريخ تنطفئ، بعد أن طال اشتعالها:
زحلٌ أشرف الكواكب دارا /// من لقاء الردى على ميعادِ
والثريا رهينة بافتقاد الشمـــل حتى تظل في الأفراد
ولنار المريخ من حدثان الدهــر مُطْفٍ وإن علت في اتقاد
ويتصور زحل زارعا مسكينا يسعى وراء الرزق، ويحرث وهو يستحث بقرته؛ والمريخ وقد برد، يحتطب بحثا عن الوقود، أو حفرة يوقد فيها النار؛ والمشتري تاجر يسوم البضائع، وينادي «ما أرخص وأغلى» وعطارد كاتب تاجر، والحمل يرتعي النبات الرطب، والثريا التي في السماء، مثل ثريا القناديل في المنازل، والدبران راع من رعاة العرب؛ و«سعد الذابح» يذبح حملا؛ وهو من منازل القمر التي تزعم أساطير العرب أنه سمي كذلك لأنه ذبح كوكبا كان يتقدمه؛ وأن تصبح الحيتان من سواكن الصحراء. ويقول أبو العلاء إن كل هذا «ليس بالمطلب المحال، وما هو بخادع من كاذب الآمال، فقد يصبح بإذن الله، حقيقة تراها العين؛ لا كذبٌ فيها ولا مينٌ».
كاتب تونسي
الشكر الجزيل للأستاذ على هذا الإبحار الغير معلن ، دون تحديد الوجهة و الزمان نحو موروثنا القديم الذي سُلب منّا مرارً على حين غرّة .
في الحقيقة، لا تعبير «الخيال العلمي» ولا تعبير «التخيل العلمي» كما يفضل الكاتب، لسبب بسيط هو تمييز مفردة Fiction بالذات في اللغة العربية.. كما يرد في أغلب الأحيان، تعبير «قصص الخيال العلمي» /والترجمة الأصح هنا هي «القصص العلمي» بالحاف، لأن لفظ «القَصَص» يتضمن معنى الخيال أصلا/ كان شائعا في العشرينيات من القرن الماضي، وهيوغو غيرنسباك قد يكون المسؤول الأول عن هذا الشيوع من خلال مؤسسته النشرية المعروفة.. غير أنه ليس معروفا على وجه الضبط من هو المبتكر الأول لعبارة Science Fiction، ومن هو المؤسس الأول لها بالتالي في اللغة الإنكليزية كمصطلح يشير إلى جنس أدبي قائم بذاته.. ومن المحتمل جدا أن يكون غيرنسباك قد استمد التعبير بنحو أو بآخر من نصوص إتش جي ويلز الذي يُعتبر «شكسبير القصص العلمي» أو حتى من نصوص ماري شيلي التي تُعتبر «الأم الحقيقية للقصص العلمي» من خلال روايتها الشهيرة «فرانكنشتاين»، وقد كتبتها حين كانت في ربيعها التاسع عشر.. فهل يا ترى هناك «نبوءة» غير مباشرة أو غير مقصودة تتعلق بالتحوُّرات «الفرانكنشتاينية» لهذا الفيروس المُسمى بالرقم في كوفيد 19.. ؟؟