العجيب في فوز ترامب بالرئاسة ثانية أنه لم يحقق نصرا على منافسته وخصومه فحسب، بل إنه حقق فوق ذلك نصرا على المنطق المتعارف عليه وما كان يمليه من توقعات وترجيحات. فقد خاض الرجل انتخابات 2016 بحملة فوضوية يديرها هواة ليس فيهم محترف سياسي واحد. إذ كان في مقر حملة هيلاري كلنتون في حي بروكلين بنيويورك جيش من المساعدين المحترفين والمتطوعين المدرَّبين، بينما لم يكن مع ترامب إلا بضعة أقرباء ومساعدين ممن لا دراية لهم بإدارة الحملات الانتخابية. أما هذه المرة فإن نجاح حملة ترامب يدل، في رأي الكاتب جفري بلهار، على فهم لطبيعة المجتمع السياسي في أدق تحولاته، بل وفهم لروح العصر الأمريكي الراهن في أحدث تجلياته.
ذلك أن ترامب قد حقق، حسب قول بلهار، عودة هي أقوى وقائع الانبعاث السياسي إبهارا في التاريخ الأمريكي: عودة تتضاءل إزاءها عودة ريتشارد نيكسون الشهيرة عام 1968. وإذا كان فوز ترامب بولاية جديدة حدثا فارقا في رأي الكاتب، فما ذاك لأنه فاز رغم انحطاط أخلاقه ورغم كثرة الملاحقات القضائية ضده ورغم إدانته بعشرات التهم الجنائية فحسب، بل ولأن حملته تميزت أيضا بأنها شملت طيفا اجتماعيا بالغ الاتساع والتنوع. فقد نجحت في إنشاء تحالف من الناخبين أوسع وأنشط مما كان في عهد بوش وأقدر على منافسة الديمقراطيين في المدى البعيد. كما تمكنت من دفع الحزب الجمهوري دفعا متزايدا نحو تقبّل واقع التعدد العرقي، وتوجيهه وجهة جديدة تتمثل في الاهتمام بالمشاغل الاقتصادية والثقافية للطبقة العمالية. وقد حصل هذا كله على أساس إحساس ترامب الغريزي بأن ما يجمع شمل هذا الطيف العريض المتنافر من الناخبين إنما هو التوجس من «الدولة العميقة» وعدم الثقة في النُّخب.
نجاح حملة ترامب يدل، في رأي الكاتب جفري بلهار، على فهم لطبيعة المجتمع السياسي في أدق تحولاته، بل وفهم لروح العصر الأمريكي الراهن في أحدث تجلياته
وقد تعددت النظريات التي تحاول شرح صدمة، أو مفارقة، فوز ترامب. إلا أن من أقواها عندي اثنتين. الأولى هي التي عبرت عنها إليزابيث برونيغ: فقد كتبت أن ثمة إجماعا على أن سبب فوز ترامب الساحق إنما هو رد فعل الناخبين على سوء أداء الديمقراطيين في مسائل مادية مثل غلاء المعيشة وتكاثر المهاجرين، ولكن الحركة الترامبية، في نظرها، لم تكن لِتهتمّ أبدا بالمسائل الملموسة، بل إن أحد وجوه جاذبيتها هو عدم ملموسيّتها، أي تعلقها بالنوازع البشرية الأولية بإطلاق. حيث أعلن ترامب منذ البدء نزعة سياسية فريدة تخلو من أي رؤيا إيجابية، ولكنها تُغري بسلسلة من فرص الاستيلاء الشعبي على آليات الفعل الاجتماعي الليبرالي. وليست التفاصيل المفهومة للبرنامج السياسي بأولوية في هذا المشروع، بل هي في بعض الحالات منعدمة. ذلك أن مناط الأمر كله، في رأي برونيغ، إنما هو الغلبة على الأعداء إشباعا بذلك لـ«رغبة شبقية» قبَلية. وتلاحظ الكاتبة أن فهم ترامب قد ظل مستعصيا على المراقبين منذ أن أخذ هذا الرجل في إعادة عَجْن الحياة السياسية الأمريكية وخَبزها، ولكنهم لا بد قد أدركوا الآن أن شعبيته آتية من قرار بعيد يقع سحيقا تحت مستوى التحليلات الواعية. ولهذا تمزح برونيغ بكل جد: فمن لنا بِعَوْن على فهم الظاهرة الترامبيّة سوى فرويد؟
النظرية الثانية هي التفسير بوسائل الإعلام. من وجهين: الأول هو سرعة تأقلم ترامب مع تطورات البيئة الإعلامية. حيث كان يفعل في بداية حياته البزنسية كل ما ينبغي ليبقى وجها ثابتا على صفحات جرائد التابلويد الشعبية، وعندما صار تلفزيون الواقع هو الوسيلة الأكثر انتشارا صار وجها ثابتا على الشاشة الصغيرة. وقد أدرك أهمية تويتر زمنا قبل معظم الساسة، كما عمد عام 2016 إلى الظهور مرارا على قنوات الكيبل التي لا يلتفتون إليها. أما هذا العام فإن ترامب قد تأقلم مجددا مع أحدث وقائع الإعلام الجماهيري، ظاهرا على برامج البودكاست والبث التدفقي مع مشاهير ومؤثرين لهم شعبية بين الشباب بدل الظهور على برامج تلفزية معتمدة مثل «60 دقيقة». ولأن ترامب يستشعر، هكذا بالسليقة، جديدَ مواطنِ الانتشار الشعبي، فقد قال عنه مدير شبكة سي. بي. اس. السابق أندرو هايوارد إنه «مْعلّمْ» الصولان والجولان في ملاعب الميديا الناشئة!
الوجه الثاني تمثله حقيقةُ أن الإعلام اليميني في أمريكا هو الذي يحدد اليوم اهتمامات الجمهور وأولويات الشأن العام. ولهذا فإن الخبير الإعلامي مايكل توماسكي يجزم أن شبكات التلفزيون اليمينية، وعلى رأسها فوكس، هي التي أعادت ترامب إلى البيت الأبيض.
كاتب تونسي