دأب المغاربة في الغالب الأعم على أن ينظروا إلى أنفسهم من خلال «الآخر» الفرنسي، ما يكتبه صحافيوه وخبراؤه عن المغرب، وما يرد في تقاريره، ويضع هذا الآخر معايير التقييم، لأن لفرنسا النظرة العليا في شؤون المغرب، ولأن في المغرب آذانا صاغية لما يُكتب في فرنسا وبالفرنسية. قد لا تتسم تلك الكتابات بالموضوعية، وقد تشوبها الضحالة، وقد يغلب عليها الإسفاف في أحايين عدة، ولكنها ما يُقرأ وما يُعتد به، لذلك حين يكتب شخص من غير الفرنسيين عن المغرب، فهو أمر يسترعي الانتباه، ويستدعي الاهتمام، كما فعل الدبلوماسي التونسي صالح بكاري، الذي كان معتمدا كسفير في المغرب لعقد ونيف، في كتاب صدر في تونس هذا الأسبوع بعنوان «جواز دبلوماسي إلى المغرب.»
عرفت الرجل، مثقفا ألمعيا، ودبلوماسيا لامعا، وجمعتنا لقاءات منها، تلك التي أشار إليها في كتابه عن زوجة سفير لبناني تتعاطى الشعر، وأبت إلا أن تتلوه في حضور الشاعر محمود درويش في بيت الصحافي الفلسطيني محمود معروف، وكنت حاضرا في ذلك اللقاء، ولم يسَعِ الشاعر الكبير، كما الحضور، إلا التعبير عن تأففهم لقول ما هو بشعر، ولا هو مما يليق في ذلك المجلس.
كتب البكاري كتابه بلغة جميلة السبك، متقنة الحبك، يمزج فيها بين التحليل والطرائف، وهي أكثر من طرائف، لأنها شهادة عن مرحلة وأسلوب عمل، حيث تتمايز خدمة الدولة عن النظام، والعمل الدبلوماسي عن الأسلوب البوليسي، في نظام بوليسي، هو نظام زين العابدين بن علي؟ يُسِر الكاتب أنه طلب في زيارة مسؤول المخابرات المغربية الخارجية حينها المرحوم عبد الحق القادري، في زيارة مجاملة، لكي يدس له، في غمرة زيارة «المجاملة» تلك، انزعاج السلطات التونسية من تنظيم فعاليات حقوقية، وقفة احتجاجية أمام مبنى السفارة. وحققت زيارة «المجاملة» غايتها، إذ بلّغ وزير الداخلية حينها إدريس البصري السفير بمنع التظاهرة، بأمر من الملك الحسن الثاني. وأشياء أخرى مما طرحه عَرضا عن علاقته بالصحافة المغربية، ولم يعرض له كله، ما كان يسبب إزعاجا للصحافة كما للمسؤولين، بل لمتابعات الصحافيين.
التزم البكاري الموضوعية في تحليله للأوضاع، وتقييمه للأشخاص، بل حتى حينما مال إلى الذاتية في تقديره لحكم الملك محمد السادس، لم يُخف ذلك، وهو ما لم يفعله مع الحسن الثاني، في شيء من التجني، حينما ألصق به كتابا لفرنسي عن «الملك المفترس»، ولم يصدر كتاب عن الملك الحسن الثاني، بذاك العنوان.
يظل الكتاب مفيدا كمرآة للمغرب، وشهادة عن تجربة، تطفح بقواعد في العمل الدبلوماسي. استطاع البكاري أن ينفذ إلى الرقم السري للمغرب، لأن هناك تماثلا ما بين الثقافة الحضرية السارية في تونس، والثقافة الأندلسية السائدة في دواليب الحكم في المغرب. بيد أن المغرب لا يمكن اختزاله في عالم الحواضر وثقافتها السارية. هناك مغرب آخر، لا ينسكب بالضرورة في القوالب المخزنية، يتمترس أحيانا في قضايا ثقافية، أو اجتماعية، لكن مُضمرَه غير منطوقه، قد يلبس عباءة الدين، ويتزيا بجلباب الحقوق الثقافية، ويتذرع بالمطالب الاجتماعية، وهو في الحقيقة يروم الانسلاخ عن الثقافة المخزنية، ويتأرجح ما بين من يروم التبرؤ منها، ولو بالإبقاء على صورة المخزن، ومن يرى أنه لا يمكن فصل هذا عن ذاك، وللتبرؤ من الثقافة المخزنية لا بد من الانعتاق من المخزن. يظل هذا «العمران البدوي» تعبيرا عن الفجوة السرمدية، إن لم يكن الجفاء البنيوي، ما بين المخزن وعالم الأطراف، مما يسميه المخزن بـ«السيبة»، وهو ما عز على البكاري أن ينفذ له، ولو أنه عرف بعض أقطاب الحركة الأمازيغية.
هناك تماثل ما بين الثقافة الحضرية السارية في تونس، والثقافة الأندلسية السائدة في دواليب الحكم في المغرب
قال البكاري رأيه في الكتاب بوضوح، عن تجربة ما سمته الصحافة المغربية بحزب السلطة، أو الوافد الجديد، وأسباب نزوله، حينما أشار إلى ما بثه فؤاد عالي الهمة، المستشار الحالي للملك، حين اعتبر الصعوبات القائمة عابرة «ضاربا المثل بالحنفية التي إذا فتحت بعد طول إغلاق، يسيل ماؤها مختلطا بالصديد ثم يصفو». ويعلق البكاري: «لكنه يبدو أنه أدرك (المستشار) أن المنبع كدِر وأن الماء المنساب منها سيظل عكرا.» يبدأ صالح البكاري في كتابه بتحليل عميق عن أوضاع التعليم في المغرب، ليست في حقيقة الأمر قصرا على المغرب، وعن أدوائه العميقة، التي تجعل الإصلاح ينصرف إلى الشكليات، من دون أن يتصدى لمصدر الداء، كما في تحليله عن الحركة الإسلامية وقد أخذ البعض فيها بالقشور عوض الجوهر.
يعرض للعلاقات الثنائية المغربية التونسية في مرحلة لم تكن بالود ذاته الذي كانت عليه مع بورقيبة، وكان يتردد، ما يُنسب للملك الحسن الثاني، وما كان يصل لسلطات قرطاج حينها، من أن ابن علي أوفقير تونسي نجح. وكانت سابقة أوفقير العسكري الذي قاد انقلابا ضد الملك الحسن، قد خلفت ندوبا غائرة في دار المخزن، لأنه كان من أخلص المخلصين «للعرش العلوي» وانقلب عليه، وأضحى اسمه منبوذا، وكل ما قد يقترن به. أتى البكاري في ظرفية مشحونة ليصلح ما أفسدته النزوات والأحكام المسبقة والتوجسات والهواجس. تكللت بداية عهدة البكاري بزيارة بن علي إلى المغرب في مارس/آذار 1999، وهي مثلما يقول البكاري تعبير عن استراتيجية كبرى من لدن الحسن الثاني، في أفق تسليم المشعل إلى الخلف وترك الفضاء صافيا.
لعل كتب التاريخ تسفر يوما عن أن هذه الرغبة قد حدت بالملك الحسن الثاني، للتطبيع مع الجار الشرقي، وأن القنوات لم تكن منعدمة حينها، رغم الجفاء الظاهر، وكانت الجزائر مقبلة على انتخابات رئاسية جرت في إبريل/نيسان سنة 1999. كان أول درس تلقاه البكاري وقد حل في المغرب، وهو ما أدلى له به واحد من الوزراء القدامى المغاربة من نصح قائلا، إن مائدة «سيدنا» لم تكن تخلو في شهر رمضان من زيت تونس وتمورها، إبان بورقيبة، ما كان يبعث به. كان لتلك الأشياء الطفيفة أهميتها في ثقافة المخزن، وهو ما أدركه البكاري، حيث الرسم ينوب عن الخطاب، والخطاب عن الفعل. لا يتسع المجال للحديث عن كتاب مفيد للمغاربة والتونسيين وحتى للجزائريين، لكني أود أن أقف عند حالة عرض لها البكاري في ابتسار، هي ما كتبه عقب وفاة فاضل الجمالي، الذي كان رئيسا للحكومة في العراق إبّان الملكية، وعاش في تونس بالمنفى، لم يشر إلى ما كان كتبه المرحوم عبد الكريم غلاب مدير جريدة «العلم» في شيء من العتاب من الأوضاع المزرية التي عاشها فاضل الجمالي بتونس، في أخريات حياته، ورد البكاري في جريدة «العلم»، في أسلوب هو أقرب للسجال واللجاج منه إلى أسلوب الدبلوماسي الحصيف، واستشهد بمقولة للملك الحسن الثاني، هي لربما ما أشار له من استحسان حاشية السلطان، مفادها «لقرون لم يعد يربطنا بالمغرب والشرق سوى التوجه للقبلة والحج».
عرفت فكر فاضل الجمالي، هذا الذي بدأ ثورة ثقافية في العراق، وكان سباقا لتطبيق نظريات ديوي في بلده قبل أن تطبق في الولايات المتحدة، وكان مصيره أن حكم عليه بالإعدام، لولا شفاعة الملك محمد الخامس وأريحية بورقيبة. كان حريا بالبكاري أن يصمت حينها، وكان عليه وقد انزاح ظل النظام البوليسي، وهو يكتب مذكراته خلوا من أي رقابة، أن يقول الحقيقة كلها، ويُعرّف بمكانة فاضل الجمالي، السنونو الذي كان يحمل الربيع، ووئد، ووئد معه الربيع.
كاتب مغربي
# الحرية للصحافي الراضي.
كيف يمكن شراء الكتاب في الدول الأوروبية؟