الرباط ـ «القدس العربي»: بعد مضي أكثر من سنة من العمل المتواصل، انتهت اللجنة المكلفة بإعداد مشروع متكامل لخطة التنمية في المغرب إلى إنجاز تقرير عام، يتضمن محاور تصوراتها الاستراتيجية للنهوض بمختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، وكذا خلاصات لقاءاتها مع الأحزاب والنقابات والهيئات المهنية والحقوقية والمجتمع المدني وتفاعلات المواطنين المغاربة، فضلاً عن الزيارات الميدانية التي قامت بها إلى مختلف مناطق البلاد.
واستقبل العاهل المغربي، الثلاثاء في فاس، شكيب بنموسى، رئيس لجنة “النموذج التنموي” الذي قدم له نسخة من التقرير، ووجه الملك محمد السادس اللجنة لإجراء عملية واسعة لتقديم أعمالها، وشرح خلاصاتها وتوصياتها للمواطنين ومختلف الفاعلين في كل أقاليم المملكة.
وأفاد بيان وزعته وكالة الأنباء المغربية أن الحكومة ومختلف الفاعلين والمؤسسات مدعوون، كل في مجال اختصاصه، للمشاركة والمساهمة الفعالة في تنفيذ التوصيات الوجيهة الواردة في هذا التقرير، من أجل خدمة هذا الطموح والأفق التنموي الجديد، والارتقاء به لمستوى التطلعات، كما أن الاقتراح المبتكر للجنة، الذي يهدف إلى ترجمة المحاور الاستراتيجية للنموذج الجديد في “ميثاق وطني من أجل التنمية”، يستحق اعتماده وتفعيله بروح بناءة وتوافقية، وبحس عال من المسؤولية والمصلحة العامة، كإطار مرجعي مشترك لجميع القوى الحية بكل أطيافها.
منهجية جديدة
التقرير الذي حصلت “القدس العربي” على نسخة منه والواقع في 150 صفحة، يقترح مساراً للتغيير ذا مصداقية وقابلاً للتنفيذ على أرض الواقع. ويرتكز هذا النموذج على مؤهلات المملكة وعلى منهجية جديدة عبر الإنصات والتشاور مع مختلف القوى الحية في المغرب. وتقول اللجنة التي أعدت التقرير إنه لا يشكل حلاً سحرياً للاختلالات التي تم الوقوف عليها، ولا تجميعاً لسياسات قطاعية ولا حتى دليلاً مرجعياً لبرنامج حكومي أو حزبي؛ وإنما يندرج النموذج المقترح ضمن الإطار الدستوري ووفقاً لتنظيم السلط الذي يحدده ويدعمه برؤية تنموية من شأنها أن تفعّل الوعود الدستورية على أرض الواقع.
وأضافت أن “النموذج التنموي الجديد، كدعامة المغرب الغد، جرى تصميمه من طرف المغاربة، مع المغاربة ومن أجل المغاربة؛ فهو نتاج تفاعل واسع مع عدة شرائح من الساكنة في أماكن عيشهم ولا سيما في المناطق المعزولة. ويشكل النموذج الجديد منهجية أخرى لتصور التنمية بكونها أكثر تشاركية. وقد مكنت هذه المقاربة أيضاً من الوقوف على الرغبة الملحة للمشاركة والاندماج والاستقلالية خاصة من طرف الشباب الذين يتوقون للتمكين من أجل تقرير مسار حياتهم بأنفسهم”.
ولتحقيق هذا الطموح والأهداف المترتبة عنه، فإن اللجنة دعت إلى تبني توجه تنظیمي جديد يكرس التكامل بين دولة قوية ومجتمع قوي، دولة حاملة لرؤية استراتيجية للبلاد ولمواطنيها وتحرص على تنفيذها، دولة تكفل حماية وكرامة وحريات المغاربة وتحميهم من الهشاشة والأزمات وتمنح الإطار الكفيل بإشراك كافة الطاقات، خدمة لتنمية البلاد ولفائدة المنفعة المشتركة والمصلحة العامة. كما يتوخى هذا التوجه مجتمعاً تعددياً ومعبأ ومسؤولاً يعزز استقلالية الأفراد والمجموعات المكونة له؛ مجتمعاً يلتزم بالدفاع عن المصلحة العامة، ويكرس جهوده من أجل دعم قيم المواطنة واحترام الآخر، بدون استثناء. وهو أيضاً مجتمع أكثر قدرة على مواجهة التعقيدات المتزايدة التي يشهدها العالم، ويأخذ بعين الاعتبار تداخل تحديات التنمية والحفاظ على توازنات الأنظمة البيئية، لا سيما فيما يرتبط بندرة بعض الموارد كالماء.
ويضيف التقرير أن “تجويد الرأسمال البشري من أجل مغرب الكفاءات” يشكل أمراً ضرورياً لتحريك آليات الارتقاء الاجتماعي ولتمكين المغرب من التحسين الكبير لترتيبه ضمن التصنيفات العالمية ذات الصلة وذلك بفضل الترسيخ القوي لاقتصاد المعرفة.
وتقترح اللجنة في مجالي الصحة والتعليم، التعزيز الجوهري لعرض الخدمات العمومية بمجموع مجالات البلاد، وضمان الولوج المنصف إليها، وذلك إلى جانب قطاع خاص كشريك مسؤول ونزيه، وكذا التركيز على جودة الخدمات وتقييمها انطلاقاً من المعارف المكتسبة من طرف التلاميذ ومن مستوى كفاءات الطلبة وقابليتهم لولوج سوق العمل، وأيضاً عبر عرض صحي يواكب التعميم الفعلي للتغطية الصحية، بالإضافة إلى تثمين الموارد البشرية وتقوية قدراتها، سواء بالنسبة للمدرّسين والباحثين، أو الأطباء والعاملين في القطاع الصحي.
إشكاليات أزمة كوفيد
وتطرقت اللجنة إلى الإشكاليات التي طرحتها أزمة كوفيد-19 على مستقبل القطاعات الاقتصادية، خصوصاً فيما يتعلق بقضايا السيادة والقدرة على مواجهة الأزمات. ويتعلق الأمر بكل من قطاعي الفلاحة والسياحة. بالنسبة للقطاع الفلاحي، فإن الأزمة الصحية الراهنة أبرزت الرهانات المرتبطة بالسيادة الغذائية وضرورة تطوير فلاحة عصرية وذات قيمة مضافة عالية، دامجة وتكرس معايير المسؤولية الاجتماعية والبيئية.
فيما يتعلق بقطاع السياحة، فإن آثار الأزمة الصحية تجعل من الضروري إعادة التفكير في تطور هذا القطاع وفق مقاربة ترتكز على الاستدامة ودعم قدرات الصمود أمام الأزمات. ويحتاج هذا القطاع إلى نفس جديد، يمتد على المدى المتوسط والبعيد، ويرتكز على تثمين مؤهلات كافة مجالات البلاد، بهدف تحفيز السياحة الداخلية، وكذا الرفع من جاذبية القطاع لبعض مكونات الطلب الخارجي.
ومن أجل تسريع وتيرة التغيير، تدعو اللجنة إلى تحديث الجهاز الإداري فيما يخص الكفاءات وطرق العمل والاعتماد الكبير على الرقميات بالنظر إلى آثارها من حيث تحقيق التحول السريع. ويتطلب التحول الرقمي للمغرب تحديثاً سريعاً للبنية الرقمية عن طريق ربط مجموع البلاد بشبكة الإنترنت وبصبيب عال وتدريب عدد كاف من الكفاءات واستكمال الإطار القانوني والتوافقية بين الأنظمة من أجل رقمنة المرافق والخدمات العمومية وتعزيز الثقة الرقمية.
ولتنفيذ تصوراتها المتضمنة في تقرير خطة التنمية، توصي اللجنة باعتماد آليتين، تتمثل أولاهما في “ميثاق وطني للتنمية” يهدف إلى تكريس التزام كافة القوى الحية للبلاد اتجاه أفق تنموي جديد ومرجعية مشتركة. ويتمثل المقترح الثاني في إحداث آلية، تحت إشراف العاهل المغربي لتتبع وتحفيز الورش الاستراتيجية وقيادة التغيير وتعزيز الأداء العام.
نموذج تنموي جديد
وتعتبر اللجنة الخاصة بخطة التنمية بنية ذات طبيعة استشارية، مهمتها وضع الخطوط العريضة لنموذج تنموي جديد من شأنه تمكين المغرب والمغاربة من استشراف المستقبل بهدوء وطمأنينة. وتضم هذه اللجنة، التي أشرف العاهل المغربي محمد السادس، في كانون الأول/ ديسمبر 2019 على تنصيب أعضائها، 35 عضواً بالإضافة إلى رئيسها، وتروم القيام بكل صراحة وجرأة وموضوعية بحصر إنجازات المغرب، والإصلاحات التي جرى إطلاقها فيه، مع مراعاة تطلعات المواطنين والسياق الدولي وآفاق التنمية.
ويتعلق الأمر أيضاً بتحديد معالم نموذج تنموي جديد يضمن للمواطنين حقوقهم الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، فضلاً عن حقوقهم المدنية والسياسية.
ونظمت اللجنة جلسات استماع للتشاور وتجميع مساهمات الأحزاب السياسية والفاعلين الاقتصاديين والنقابات ومختلف مكونات المجتمع المدني والإدارة العمومية والجامعات والمنظمات الدولية المتخصصة. وأجرى أعضاؤها حوالي 30 زيارة ميدانية، وعقدوا لقاءات مع 70 من المسؤولين حضورياً أو عن بعد بتقنية الفيديو، كما نشطوا 113 ورشة عمل ودرسوا 6600 مساهمة مكتوبة من منظمات مختلفة، علاوة على إنشاء قاعدة طموحة لتجميع تطلعات المواطنين وانشغالاتهم الأساسية في مجال التنمية، بالإضافة إلى مقترحاتهم على جميع المستويات من أجل مغرب أفضل.
وأنشأت اللجنة منذ بداية عملها منصة إلكترونية، لجمع مقترحات المغاربة، من داخل البلاد وخارجها الذين يرغبون في التقدم بتصوراتهم لمغرب الغد. وفي المجموع، تفاعل أعضاء اللجنة بشكل مباشر مع 9719 شخصاً، كما شمل تفاعلهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما يقارب الـ 20.3 مليون شخص.