الرباط ـ «القدس العربي»: ما إن صادقت الحكومة المغربية، على الصيغة الجديدة لمشروع قانون “المسطرة الجنائية”، حتى بدأت تظهر ردود الفعل المنتقدة لمحتوى الاقتراحات التي تبنّاها وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، منفّذًا بذلك ما كان يلوّح به لشهور عديدة، في معركته مع جمعيات حماية المال العام، وكذا سعيه إلى “تحصين” الوزراء وكبار المسؤولين من المتابعات القضائية إذا ثبتت في حقهم تهم جنائية.
مشروع القانون المثير للجدل الذي اطلعت عليه “القدس العربي”، يحصر الجهات المخوّل لها المطالبة بإجراء أبحاث قضائية بخصوص جرائم المال العام، ويمنع المجتمع المدني من التقدم بشكايات بهذا الخصوص. إذ جاء فيه: “لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، إلا بطلب من الوكيل العام للملك (المدعي العام) لدى محكمة النقض بصفته رئيساً للنيابة العامة، بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك”.
واعتبر محمد الغلوسي، رئيس “الجمعية المغربية لحماية المال العام”، أن الهدف الحقيقي من هذه الخطوة هو “تجريد المجتمع، أفراداً وجماعات، من كل الأدوات والإمكانيات القانونية والمسطرية والحقوقية للتصدي للفساد ولصوص المال العام، والمطالبة بربط المسؤولية بالمحاسبة، بعدما اتضح للمستفيدين من واقع الفساد أن الظرفية الحالية تسمح بتمرير قوانين كهذه تشكل في عمقها ردة حقوقية ودستورية”.
وأوضح في تدوينة على “الفيسبوك” أن الفقرة المذكورة من مشروع القانون “تكثف وتترجم الإرادة الواضحة للتوجه المستفيد من الإثراء غير المشروع وواقع الريع والفساد واستغلال مواقع المسؤولية العمومية، والهادفة إلى إغلاق الحقل الحقوقي والمدني وإفراغه من محتواه، لإنهاء أي إزعاج أو تهديد او تشويش على مصالح شبكات ومافيات الفساد والريع”.
وخلص إلى أن تلك التعديلات “تشكل تقويضًا للدستور ولاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب وللقانون رقم 10-37 الخاص بحماية المبلغين عن جرائم الفساد، فضلًا عن كونها تقيد وتقلص مهام ودور النيابات العامة والشرطة القضائية فيما يتعلق بالتصدي لمخالفات القانون الجنائي كما هو وارد في المسطرة الجنائية المعمول بها حاليًا”.
صحيفة “الأخبار” المغربية ذهبت إلى القول في عدد أمس الجمعة إن وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، حقق وعيده “بتضييق الخناق على المبلّغين عن جرائم الفساد المالي”، فبعدما هاجم سابقاً جمعيات حماية المال العام واتهمها بتقديم شكايات كيدية لابتزاز المسؤولين، نفّذ الوزير وعوده بإدخال تعديلات على قانون المسطرة الجنائية، يمنع بموجبها جمعيات حماية المال العام من تقديم شكايات تتعلق بجرائم الأموال.
وأشارت الصحيفة نفسها إلى أنه سبق للوزير وهبي التأكيد، في جواب عن سؤال كتابي بمجلس المستشارين (الغرفة الثانية للبرلمان المغربي)، أن موضوع الشكايات الكيدية والوشايات الكاذبة ضد السياسيين ورجال الأعمال محط اهتمام وزارة العدل. ولهذه الغاية، يضيف الوزير، فإن مشروعي مراجعة القانون الجنائي والمسطرة الجنائية نصَّا على عدة مستجدات وتعديلات بهذا الخصوص تهدف بالأساس إلى تقييد إجراءات البحث الجنائي بناء على ضوابط محددة، تضمن الاستثمار الأمثل للوشاية والشكاية كمدخل من مداخل البحث والحد من حالاتها الكيدية وكذا التشديد في العقوبات المقررة لها.
على صعيد آخر، ولم تتضمن الصيغة الجديدة لمشروع قانون المسطرة الجنائية أي تعديلات بخصوص المادة 265 من القانون نفسه المعمول به حاليًا، والتي تنظّم مسطرة “الامتياز القضائي” التي يستفيد منها الوزراء وبعض المسؤولين. وتنص هذه المادة على أنه “إذا كان الفعل منسوبًا إلى مستشار الملك أو عضو من أعضاء الحكومة أو كاتب دولة أو نائب كاتب دولة مع مراعاة مقتضيات الباب الثامن من الدستور أو قاض بمحكمة النقض أو المجلس الأعلى للحسابات أو عضو في المجلس الدستوري أو إلى والٍ أو عامل أو رئيس أول المحكمة استئناف عادية أو متخصصة أو وكيل عام للملك لديها، فإن الغرفة الجنائية بمحكمة النقض تأمر بناء على ملتمسات الوكيل العام للملك بالمحكمة نفسها، بأن يجري التحقيق في القضية عضو أو عدة أعضاء من هيئتها، وبعد إنهاء التحقيق يصدر قاض أو قضاة التحقيق، حسب الأحوال، أمرًا قضائيًا بعدم المتابعة أو بالإحالة إلى الغرفة الجنائية بمحكمة النقض، وتبت الغرفة الجنائية بمحكمة النقض في القضية، ويقبل قرار الغرفة الجنائية الاستئناف داخل أجل ثمانية أيام وتبت في الاستئناف غرف محكمة النقض مجتمعة باستثناء الغرفة الجنائية التي بتت في القضية، ولا تقبل أية مطالبة بالحق المدني أمام محكمة النقض”. ومن ثم، تراجع عبد اللطيف وهبي عن تعديلات المسطرة الجنائية المتعلقة بـ”محاكمة الوزراء”، مثلما سجلت صحيفة “الأخبار”.
وجاء في بيان صحافي صدر عقب اجتماع مجلس الحكومة، الخميس، أنه جرت المصادقة على مراجعة القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، بعد مرور أكثر من عشرين سنة على صدوره في إطار تحديث المنظومة القانونية الوطنية، والذي يعتبر من أهم محاور تحقيق المشروع الشامل والعميق لإصلاح منظومة العدالة في المغرب الذي ما فتئ العاهل محمد السادس يدعو إليه في عدة مناسبات. كما يأتي في سياق ما شهدته البلاد من مستجدات حقوقية هامة، تمثلت بالأساس في صدور دستور المملكة سنة 2011، وإقراره لمجموعة من الحقوق والحريات ووضع آليات لحمايتها وضمان ممارستها”.
وأضاف البيان الذي تلقت “القدس العربي” نسخة منه أنه “روعي في مشروع مراجعة قانون المسطرة الجنائية تحقيق التوازن بين وقاية المجتمع من الجريمة وحماية أمنه واستقراره وحماية حقوق وحريات الأشخاص، حيث شملت هذه المراجعة ما يزيد عن 420 مادة”.
وأوضح أن هذا المشروع “يتضمن مجموعة من المستجدات الهامة التي تتمثل في تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، عبر ترشيد اللجوء إلى الحراسة النظرية (الاعتقال الاحتياطي) واعتبارها تدبيرًا استثنائيًا، مع تحديد ضوابطه القانونية بدقة، وتعزيز حقوق الدفاع، وتحديث آليات العدالة الجنائية ومكافحة الجريمة بوسائل حديثة وحماية الضحايا. بالإضافة إلى مستجدات تهم السياسة الجنائية من خلال وضع ضوابط جديدة لتأطير السياسة الجنائية كجزء من السياسات العامة للدولة، مع تعريفها وتحديد أشكالها التنفيذية وحماية الأحداث وتبسيط شكليات الطعون ونقل اختصاصاتها لتعزيز استقلالية النيابة العامة. كما تضمن هذا المشروع مستجدات قانونية تهم تنفيذ العقوبات من خلال توسيع صلاحيات قاضي تطبيق العقوبات وتحفيز السجناء على الانضباط عبر نظام التخفيض التلقائي للعقوبة”.