في الماضي القريب كان الجنوب خريطة موتنا، أما اليوم فقد انتقلت خريطة الموت اللبناني إلى الشمال.
لا يزال الجنوب خريطة موت مؤجل، رغم الهدنة غير المعلنة التي نشأت بعد حرب تموز 2006، لكن الموت في جنوبي الجنوب، لا يزال يشكل الخريطة الفلسطينية ويتشكل بها.
الموت الجنوبي حمل بذور الحياة، ففي مواجهة الاحتلال والظلم تنبثق معاني إشراقة الحلم في العيون.
أما هذا الموت الشمالي الأزرق فهو موت مجرد ومطلق.
المأساة التي حلت بالزورق المبحر من المنية إلى إيطاليا، والذي ابتلعه الموج في بحر طرطوس، لم تقتل المهاجرين وحدهم، بل قتلت البحر أيضاً.
بحرنا الأبيض مات، ولا نملك ما يكفي من الدموع للبكاء عليه، ولا ما يكفي من الكلمات كي نكتب مرثية تليق به.
من يجرؤ على رثاء البحر؟
في الموت الشمالي لا يواجه الضحايا عدواً كي يقاتلوه بالكلمة والسلاح، بل يواجهون البحر.
من يجرؤ على منازلة البحر؟
ضحايا الموج ماتوا وهم يشنون حربهم الأخيرة.
لكنهم قتلوا البحر الأبيض.
من يجرؤ اليوم على السباحة في بحر الموت؟
من يجرؤ على تحويل البحر إلى استعارة شعرية أو أغنية حب، أو فسحة لاستراحة القلب؟
من يجرؤ على النظر في مرآة البحر، والتأمل في جمال الكائنات؟
زورق المنية قتل كل هذه الاحتمالات، فصار البحر مقبرة شاسعة يغطيها أزرق السماء.
ماذا لو قررت السماء حجب أزرقها عن هذا اليم الشاسع؟ كيف سنُخفي جثث موتانا، وأين سندفن آلامنا؟
تخيلوا معي بحراً بلا سماء، أنظروا فسترون كيف سيتحول لون البحر إلى أسود. نحن نسميه البحر الأبيض، وأضفنا إليه كلمة المتوسط بتأثير اللغة الكولونيالية التي سادت في بلادنا.
الأبيض والأسود من الأضداد. يعرّف علماء البديع الأضداد بأنها مشترك لغوي، أي لفظة واحدة تدل على معنيين متناقضين كالجَوْن التي تدل على الأبيض والأسود معاً، وغيرها كثير.
يجب أن نغير اسم البحر ونسميه بحر الجَوْن، وفي جَوْنه ينتصر السواد.
مقبرتنا ليست زرقاء، كما يوحي عنوان هذا المقال الذي استعرته من فيلم، يحمل العنوان نفسه، عن المخطوفين والمخفيين قسراً في لبنان، أخرجه طلال خوري سنة 2000. ينتهي هذا الشريط السينمائي برمي الزهور في البحر، مثلما نضع الزهور أمام قبور من نحب.
مقبرتنا سوداء، أما اللون الأزرق الذي نراه فهو مجرد خدعة بصرية.
المفارقة العجيبة أن هذا البحر وحّد بلاد الشام للمرة الأولى في تاريخها. انتصر البحر على مملكة فيصل السورية البائسة التي فشلت في توحيد البلاد في مشروع نهضة سياسية وُلدت مُجهضة على يد قابلة بريطانية.
لبنانيون وسوريون وفلسطينيون، كانوا معاً في اليأس، وصاروا معاً في الموت. لم يجدوا مكاناً فصاروا واحداً في قبر شاسع ابتلعهم.
هاربون من الفقر والمذلة في طرابلس وعكار، وهاربون من الخيانة واليأس في مخيمي نهر البارد وشاتيلا، وهاربون من الوحش الذي أذلّ السوريين وحطم كراماتهم. اجتمعوا حول مهرّب نصاب قادهم إلى حتفهم.
صار المهربون قادة شعوب تعبر بها صحراء التيه. مهربون يقودون اليأس إلى اليأس، وسط اضمحلال الأفق، بعد انتفاضات مغدورة لم تنجح في التحول إلى ثورات تبني نصاباً ديموقراطياً وإنسانياً للمجتمعات العربية.
يهربون/نهرب من الموت إلى الموت.
انتحار جماعي بلا بطولة، لقد انتهت البطولة وقُتل الأبطال، ولم يبق في الساحة المشلعة الأوصال سوى اللصوص والدجالين والأنبياء الكذبة.
الضحايا اختنقوا في الماء، الموت اختناقاً اسمه الموت الأسود، أما نحن الأحياء فنموت موتاً لا لون له ولا يملك اسماً يتوارى خلفه.
تعالوا نطلق على هذا الموت اسم الموت اللبناني.
هل تذكرون كيف دخلت كلمة «لبننة» قواميس لغات مختلفة لتدل على التفكك والانقسام والحروب الأهلية الحمقاء.
موتى زوارق الموت حققوا إنجازاً لغوياً، لكنه ليس إنجاز اللبنانيين وحدهم. فالموت غرقاً بدأ مع النزوح السوري الكبير، واليوم يتجدد مع نزوحين بحريين جديدين، نزوح لبناني ونزوح اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، إضافة إلى النزيف السوري المستمر.
على المصابين بفوبيا التوطين أن يهدأوا، انتهت أسطورة التوطين غرقا في البحر، ولكن عليهم أن ينتبهوا، فعدوى البحر قد تصيبهم هم أيضاً وسط هذا الخراب، فيجدون أنفسهم يصارعون موج الموت إلى جانب فلسطينيين وسوريين يئسوا من يأسهم. حزننا أخرس.
هل نستطيع أن نستنبط لغة تحكي مع الموتى؟ هل نستطيع أن نعيش مع الضحايا وهم يختنقون بالملح والماء، وتغطيهم الأمواج؟
نرى الصور ومقاطع الفيديو، فنتلهى عن المأساة بمشاهد المأساة. نحن في موقف الرثاء، لكننا عاجزون عن رثاء أنفسنا والبكاء على أطلال بحرنا.
البحر القاتل والقتيل يحتلنا، وعندما تحتل المقابر بيوت الأحياء ينتهي الكلام.
المصيبة يا أستاذ هي باعتقال الفلسطينيين والسوريين الذين تم إنقاذهم بطرطوس !
أدعو مكتب الأمم المتحدة بلبنان لإنقاذهم من إجرام النظام السوري !!
ألا تكفي مصيبة الغرق حتى تضاف إليها مصيبة الإعتقال !!!
ولا حول ولا قوة الا بالله
المشكلة الكبيرة هي من الناس اللي ما عم تقدر تستوعب انه بعد ألف مصيبة ومليون حالة غرق بهيك قوارب ما بتحمل 10 أشخاص، بيركبوا 400 شخص فيها، كيف واحد بعقله الكامل بياخد أولاده وزوجته وبيخاطر بحياتهم وآخدهم ع موتهم المحتّم ، بعدين اللي معه 5000 دولار ليش ما بيسافر بفيزا وبالطيارة، الويلات جايي كمان من الناس المستهترة بحياتها وكانت عايشة ببيتها بأمان وراحة بال، ملايين البشر اليوم عايشين كل يوم بيومه، لا بل كل ساعة بساعتها، بسبب الأزمات والحالة الإقتصادية المتدهورة بس لما تحلّ اللعنة ويصير اللي صار، مين قادر يرجع بالزمن لورا ويردوا اللي ماتوا… ؟!
أختي لبنانية-فرنسية الضحية دائمًا هي المذنبة! في مثل (في سوريا) يقول اللي بيعرف بيعرف واللي مابيعرف بيقول باقة عدس!
1. سلم نبض قلمك نحيي جهودكم مع بالغ الشكر والتقدير ..
شكرًا أخي الياس خوري. شاهدت مقطع الفديو حيث يموت البحر وأقسم أن من الصعب أن يقول الإنسان كلمة عن حالنا وهذا الموت. ميف يمكن لحاكم مهما كان صغيرًا أوكبيرًا أن يترك البشر تموت هكذا دون أن تهتز شعره في رأسة. أوربا لاتريدهم وتغلق أبوابها وترغمهم على الغرق وحكامنا فقدنا أن تكون كلماتنا لها أثر في ضمائرهم الميتة. في الحقيقة لايخطر إلى ذهني إلا هذا التعديل لبيت شعر معروف. نحن قوم لنا قادة إذا ضرب الحذاء برأسهم صاح الحذاء بأي ذنب أضرب. هكذا صرخ الحذاء الذي مر قرب رأس بوش وهكذا يصرخ اليوم.