تعامل الناس مع مسألة لا تنطلق من مفهوم الأرض وحسب. مفهوم الأرض غير مفهوم لأن الأخير يطرح إشكالية تتعدى الجغرافيا والتاريخ لتطال مجموعة المعارف والمدارك والتصورات التي يملكها الناس كجماعة تتقاسم العيش سوية. يضم الأرض طبعاً لكنه لا يتوقف عندها. طريقة استعمال الأرض وتنظيمها وفق ثقافة الجماعة العامة اي المشتركة. قد يكون طريقة شعب ما في التعاطي مع مكانه عندما يندرج في زمانه. ولذا فهو يعبّر عن معارف البشر ودرجة تقدم الشعوب في الانتقال، بالتعاطي مع أرضها، من اللاعقلانية إلى العقلانية المتدرجة.
الأرض، بما هي معطى موضوعي لشعب ما، تحتاج الى ثقافة الشعب لتتحول إلى مكان يتفاعل مع المحيط ومع الناس ويعكسهم. الثقافة إذن واسطة الأرض إلى المكان. معاينة الثقافة ودرجتها تقاس من خلال وسائل متعددة ومن خلال ابواب مختلفة لا حصر لها. لكن طريقة استعمال الناس لمكانها لهي طريقة مثلى للكشف عن ثقافتها بخاصة في زمن يتكاثر الكلام فيه عن ثورات شعوب تريد تطوير زمانها السياسي ونوع علاقاتها بالسلطة. لكن السؤال يبقى يدور حول ماهية هذه العلاقة الجديدة في غياب ثقافة والتعاطي الفوضوي معه.
فعندما تنبت العمارات الشاهقة في مكان معيّن ويشقّ الناس الطرقات الجديدة فإنما يُخضعون أرضهم لنمط جديد من العلاقات فيما بينهم أولاً وقبل كل شيء. هذا النمط يخضع بدوره لرؤية محددة جديدة نابعة من ثقافة جديدة. لكن المشكلة التي نواجهها في بعض الأحيان تتمثل بتعايش انماط مختلفة ومتناقضة لا تتساوق بانسياب كما قد يبدو للوهلة الأولى. المشكلة هي في أن تضطر الشعوب، في بعض الظروف، إلى التعامل بثقافتين متناقضتين في آن معاً.
إنتقال السكان مثلاً من الريف إلى المدينة أو من البوادي إلى الحضر يفرض عليهم تنظيم بشكل مختلف عن السابق. فما يصح على البادية لا يمكن ان يصح على الجديد. فتعقد المدينة يفترض ثقافة تماشيها. أما إذا انعدمت هذه الثقافة، لسبب ما، تحوّلت الحياة اليومية في المدينة إلى جحيم حقيقي. المدينة بحاجة إلى تصاميم وخطط ورسوم وتنظيمات لتيسير حياة السكان الكثيري العدد. ولا تستقيم حياة السكان إذا ما تابعوا في استعمال ثقافتهم القديمة وتطبيقها على نمط حياتهم الجديد.
في هذا السياق من غير المفهوم أن تبقى الشوارع في المدن، على سبيل المثال، بدون اسماء تحددها فيما خلا بعض المحاور الكبرى. كما أنه من غير المفهوم كذلك أن تبقى العناوين مرتبطة ‘بفرن الحطب’ وحي ‘الصنوبرة’ و’مشاتل’ فلان و’أزهار’ علتان ومفرق ‘الريحة’ ومعمل ‘الفرنساوي’ وطريق ‘العين’ وعبد الوهاب الانكليزي ، خصوصاً بعد سنوات طويلة على اندثار فرن الحطب وقطع الصنوبرة ونضوب العين وإعدام المشاتل والزهور برائحة لا تقرب معمل ‘ريحة الفرنساوي’ بشيء على الإطلاق.
عندما تستمر الناس باستعمال دلائل متقادمة للوصول إلى مبنى ‘الطلّة الجميلة’ قبالة مستوعبات النفايات، فثمة مشكلة ما في الثقافة المدينية التي لم تنتج. عندما تعجز البلديات والوزارات المعنية عن اكتشاف نظرية إسم الشارع وأرقام مبانيه لتيسير تعاطي الناس مع المدينة، مكانهم الجديد، وعلى الرغم من وجود شخصيات على رأسها متعلّمة و’مسافرة وبارمة بلا مؤاخذة’، فمعناه الوحيد قد يكون بقاء ثقافة القرية مسيطرة على ثقافة المدينة.
بعثات تسافر إلى الدول الغربية وأخرى تأتي من الدول الغربية إلى بلادنا وشوارعنا ما تزال على إسم التينة التي كانت هنا منذ مئتي عام. طبعاً المسألة لا يمكن أن تكون مجرد تقصير تقني يحول دون تسمية كل شارع بإسم محدد والقيام بترقيم المباني بأرقام مفردة لخط اليمين ومزدوجة لخط اليسار لكي نرسم المدينة. فهذا التقصير إنما هو جزء من كلِ. هو جزء من تصور والمدينة. المدينة بحاجة إلى تجريد لم تتمكن الثقافة المسيطرة من الوصول إليه ربما. فأن يصير للشارع إسم وأرقام هو أن يصير لسكانه عدد وحاجات من المياه والكهرباء والصرف الصحي وطرق معالجته وكميات القمامة وعدد المدارس والكنائس والمستشفيات والجوامع والمستوصفات والحسينيات والأسواق والمتاجر والمطاعم والملاهي والبيئة والمواقف وممرات المشاة والرصائف، ما يوجب دراستها مسبقاً واستباق تطور حاجاتها. هو إذن جزء من صورة المدينة ومن تصورنا عن الذي أردناه مكاناً لنمط عيشنا.
أن تكون المدينة بدون صورة في رأس من يديرها ولا في رأس ساكنيها مشكلة ثقافية لا تقنية. لم تنتج عن عطب في الإدارة بل عن عطب في حركة الانتقال من عصر إلى عصر. الإنتقال هذا قد يكون حصل بناء على فرض من الخارج لا استجابة لحاجة من الداخل. لكن ذلك ليس موضوعنا اليوم.
الإشكالية التالية ههنا، والناتجة طبعاً، عن غياب الثقافة الجديدة تتمثل بالقفز عن تحديد التحديات الحقيقية أو الملموسة لمجتمعات تابعة مثل مجتمعاتنا والهروب دوماً إلى الأمام لاستظهار التجارب العالمية الكبرى واستقدامها لتطبيقها في رأس الهرم السياسي عندنا متناسين قانون عدم التناسب بين ثقافة المنقول وثقافة الناس المحلية. الأمر الذي ينتج هذه الهوة الكبيرة بين المثقفين المحليين وبين الناس. فكلما استزادت ثقافة النخب من الغرْف من مصادر علومها كلما زادت من الهوة الثقافية التي تفصلها عن جمهورها الطبيعي. وكلما أمعنت النخب بوصف دواء لا يتناسب مع حالة المريض كلما أوغرت في تعميق الهوة مع مجتمعها وخلق عينات من السلوك الكاريكاتوري الهزلي كالذي ذكرناه عن الناس التي تعيش في المدينة بـ’عقلية’ الريف، سواء كانوا مسؤولين أم رعايا. الثقافة ليست في وجود صفحة ثقافية أو أكثر في الصحف والجرائد بل في القدرة على الوصول الى عنوان محدّد بدون اللجوء الى سؤال سبعين شخصا عنه خلال الطريق.
لبان بلد جميل. وما يزيد في جماله طوائفه. ولكنه عبد في جزء منه للعكري ولكسرى.
تغير سلوكيات المجتمع ليست ممارسة إرادوية يمكن تفعيلها من خلال التوعية و الوعظ و الإرشاد بقدر ما هي نتاج لحالة نمط الإنتاج و الإكراهات التي يفرضها و خاصة في جانبها المادي فتراجع عدد الأسرة الواحدة في المجال الحضري مثلا ناتج بالأساس عن ضيق المسكن و ارتفاع تكاليف تنشئة الأبناء كما أن انتظام المواطنين في جمعيات و نقابات و أحزاب في مجتمعات يسود فيها نمط الإنتاج التقليدي مهمة شبه مستحيلة حتى بوجود عمل توعوي