الملكية البريطانية: عروش الاستعباد والنهب والحروب

حجم الخط
25

أمرٌ أوّل، مشروع تماماً، أن يلتزم أناس بقاعدة أخلاقية أثيرة تقول أن لا شماتة في الموت، وأن يجد المرء في الحزن على الملكة إليزابيث الثانية سلوكاً مفهوماً، عاطفياً ذاتياً أو جَمْعياً طقسياً لا تغيب عنه عناصر التضخيم والتفخيم أو حتى الميلودراما؛ وأمرٌ ثانٍ، لا يقلّ شرعية بل لعله أكثر وجوباً من الوجهة الأخلاقية إياها، أن يلتزم أناس آخرون بإحقاق حقوق التاريخ ذات الصلة المباشرة بحصّة الملكة الراحلة في إرث عقود وقرون من تاريخ تاج استعماري، إمبريالي، عنصري، مجرم، لم يرتدع في مراحل أخيرة عن مغازلة الفاشية والفساد والانحطاط الجنسي، على مستوى الهرم الأعلى وليس الأدنى من أفراد آل وندسور.
الأميال من طوابير البشر الذين احتشدوا لمتابعة مراسم الجنازة، أو باتوا الليل وأمضوا ساعات طويلة في انتظار الفوز بفرصة إلقاء النظرة الأخيرة، لم يكن السواد الأعظم بينهم على جهل بالأمرَين معاً؛ والأرجح أنّ غالبية أخرى في صفوفهم كانت تدرك، جيداً أيضاً، جدل العلاقة بين تاج جرى تلميعه بعناية منهجية، وتجميل حاملته على مدار 70 سنة؛ والتاج ذاته، الملطّخ بدماء 57 بلداً ومستعمرة ومحمية على امتداد العالم، الملوّث بقبائح الإبادة والاستعباد والاستعمار والحروب ونهب 20% من ثروات الشعوب، على امتداد إمبراطورية تفاخر صنّاعها بأنّ الشمس لم تكن تغرب عن أطرافها.
ثمة، بالطبع، أولئك الذين يساجلون بأنّ صيغة الملكية البريطانية دستورية أوّلاً، وأنّ الملك يملك ولا يحكم؛ وهذه مغالطة فاضحة تتجاهل أنّ مؤسسة الحكم السائدة منذ 400 سنة لا تنهض أصلاً على فصل صريح بين التاج ومجلس العموم واللوردات، إذْ لا يوجد دستور مكتوب يُسقط المسؤولية عن واحد دون الثلاثة. مغالطة مماثلة يمكن أن تبدأ من التساؤل التالي: إذا كانت الدراسات والأبحاث والإحصائيات تبرهن، اليوم، على أنّ «شركة أفريقيا الملكية» احتكرت تجارة الرقّ وشحنت عبيداً إلى أمريكا أكثر من أية شركة استرقاق أخرى، فهل يصحّ فصل الشركة عن التاج، أو عن مؤسسة الحكم؟
فإذا ذهب المرء إلى فضائح آل وندسور السياسية أوّلاً (دور إليزابيث الثانية الشخصي في إسناد شاه إيران تمهيداً لإجهاض حكومة محمد مصدّق وتسهيل أدوار المخابرات المركزية الأمريكية في التخطيط للانقلاب عليه، وخروج الملكة عن «التحفظ» المزعوم لتأييد مارغريت ثاتشر في كسر حقوق الإضراب وأنشطة النقابات، وآراء زوجها فيليب ذات التعاطف الفاشي الصريح)؛ ثمّ الأخلاقية والسلوكية (فضيحة الأمير أندرو ابن الملكة وانكشاف تورطه مع مغتصب قاصرات أمريكي كانت واجهة موبقات خافية دفعت الملكة إلى تجريده من امتيازاته الملكية)؛ والقوموية الشوفينية (وعلى رأسها عواطف الملكة المناهضة للحقوق الاستقلالية لدى مواطني ويلز واسكتلندا وإرلندا الشمالية)…
غير خافٍ، إلى هذا، مقدار انحطاط غالبية ساحقة من المؤرخين وكتّاب السيرة، في بريطانيا والغرب إجمالاً، إلى حضيض صاعق في تحويل مساوئ التاج البريطاني إلى محاسن لصالح الشعوب، ضمن المقولة الأردأ والأشدّ زيفاً: «المهمة التمدينية»، التي افترضوا أنها أُلقيت على عاتق الإنسان الأبيض، وعلى رأسه ذاك البريطاني، تجاه «الهمج» و«البدائيين» والشعوب «القاصرة». وكان ونستون شرشل، رئيس الوزراء عند تتويج إليزابيث سنة 1952، وحامل جائزة نوبل، المثال الأعلى قحّة في التعبير عن قبائح الإمبراطورية؛ أوّل من أعطى الإذن باستخدام الأسلحة الكيماوية والغازات السامة ضدّ بدو العراق، تحت الذريعة الصريحة التالية: «الأسلحة الكيماوية تمثّل تطبيق العلوم الغربية على الحرب الحديثة. إننا لا نستطيع تحت أيّ ظرف الضغط باتجاه منع استخدام أية أسلحة متوفرة وقادرة على إنهاء الفوضى السائدة على الحدود».
ويبقى أنّ رحيل إليزابيث الثانية يطوي مجلدات في تاريخ الملكية البريطانية، لكنه في المقابل يعيد فتح المزيد من الأبواب، على مصاريعها؛ حول مؤسسة لم يشهد التاريخ أكثر منها مهارة في تهذيب الإبادة وتجميل الحروب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير:

    رغم المساوئ التي قد يكون يحتويها تاريخ النظام الملكي في بريطانيا، إلا أن المؤسسة الملكية (في رأيي المتواضع ) تبقى مكونا مهما من مكونات هوية البلد، عكس ماتراه بعض الفئات من المجتمع التي ترى في ميزانية البلاط الملكي البالغة 100 مليون دولار عبئا ثقيلا يستوجب التضحية بالملكية، وهو خطأ قد تقدم عليه هذه الفئات إذا توسعت قاعدتها فترتكب نفس زلة البريكزت، خاصة إذا ساءت الأمور داخليا أو تكاثرت مطالب الانفصال…وكيفما كان الحال، فالملك هو رأس الدولة، والمؤسسة الملكية تختزل جزء ا كبيرا من تاريخ البلد وكذلك هوية أكثرية السكان فيه، مما يقلل من خطر تميع هذه الأخيرة، كما يساعد على استيعاب الآخر المختلف ويقلل من التوجس منه، وهو عكس ما يحدث في بلد كفرنسا، قطعت رأس الدولة (رأس آخر ملك ) وعلقته بأمعاء آخر رجل دين، فأصبحت الآن تتوجس من الحجاب والبوركيني ومن أن يأتي مسلم أو إفريقي أو أحد مختلف إلى رأس سدة الحكم.

  2. يقول سامي صوفي:

    ما كتبه الاستاذ صبحي صحيح ?.
    فالملكة لم تقدم و لو اعتذار خجول للدور الاستعماري لبريطانيا. و لم تدعم اي حركة تحرر للشعوب في العالم، بما فيهم مواطني ويلز و اسكتلندا و شمال ايرلندا.
    الاميال من طوابير البشر، إن دلت على شيئ، فهي دلت على النفاق الفظيع و الانفصام عن حقوق الانسان. أو أن الروح الاستعمارية باقية و تتمدد من العائلة الى الشعب!

  3. يقول الشاعر السعيد:

    سلم حرفك. نص في منتهى الروعة

  4. يقول سامي:

    كلام جميل ورائع، ولكنه لا يختص او يقف عند العائلة المالكة في بريطانيا وحدها، حبذا لو كان المقال يرتكز علي قاعدة انسانية، ياخذ حادثة الوفاة ليلقي الضوء علي ما عانته البشرية طوال الالف السنين من حروب، وافتخارهم بملوكهم الاشد حبا للحرب والدم واستعباد الشعوب المجاورة وقسم كبير من شعبه. رحلت الملكة بما لها وما عليها، وختمت حياتها بشي من التكفير لما فعلت, فقد الغت تجارة العبيد حتي عندنا في بلادنا اجبرنا علي تحريرهم من طرف الاحتلال البريطاني. العبرة ليست ما فعلت من اخطاء، العبرة بالرجوع عنه والعمل المستدام لاصلاح ما خربت. ما زال كثيراً من المسلمين يعتقدون ان الرق مباح وان مكننا الله من خلقه لاستعبدانهم كلهم وارجعنا البشرية للقرون الوسطي. الامبراطورية الرومانية والفارسية والاسلامية والعثمانية كلها قامت علي النهب والاستعباد والابادة، كل حسب قدرته والسلاح الذي يملكه. فلننقد الكل حتي تسلم البشرية

    1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      أخي سامي، جميل وطبعًا من اللازم ولامانع في الحقيقة من أن ننتقد الكل وبعدالة وبكل حرية. وحبذا لو ننهض ونبني معاهد دراسية عالية تهتم بالأمر. مقال اليوم فقط يركز على الحدث الأخير وهو وفاة الملكة البريطانية.

  5. يقول عربي:

    انا اتعجب كثيرًا عند متابعة النشرات الاخبارية او حتى عند قراءة الصحف الصليبية عندما تتحدث عن الحزن والالم الذي( عم) الكرة الارضية لوفاة ملكة بريطانيا بينما الاحظ في الشارع وخاصة في دول الحلف الصليبي ان هذا الامر لا يهم أحدًا وحتى في النقاش مع البعض عن هذا الامر يسخر الكثير من البريطانيين الذين لايزالون يعيشون على امجاد امبراطوريتهم الاستعمارية بينما بعضهم يغرق في الديون وفي حالة اقتصادية مزرية اما الحديث عن طوابير العجائز والمثليين واشباه الرجال الذين سحبتهم زوجاتهم خلفها لكي يلقوا نظرة على جثته هامدة فهو حالة مرضية يجب دراستها مثلها مثل ظاهرة اغماء بعض المراهقين والمراهقات لدى رؤية مغنواتي او ممثل مشهور او تشبه حالة اوروبي متخم يقف امام مئة صنف من الجبنة في السوبر ماركت وبعدها يتحسر انه لم يجد الجبنة التي تعجبه هذا واحد من الملايين الذين اصابهم الملل والروتين وارهاق العمل والعائلة والمشاكل الزوجية ووجد في وفاة اليزابيث حدث كسر الخمول في حياته بعد ان ضحك الاعلام الغربي عليه بانه يعيش حدث استثنائي

  6. يقول عربي سوري:

    منظر الجماهير الغفيرة التي انتظرت ساعات وبعضهم تحمل البرد والالم والساعات الطويلة فقط لالقاء نظرة على جثمان اليزابيث جعلني يراودوني الشك في عقيدتي بعد ان اجبرت على مشاهدة بعض لقطات جنازة اليزابيث وحضور مئات الملوك والرؤساء واستنكار الصين الشيوعيه لمنع بريطانيا وفد صيني من مشاهدة جثة اليزابيث وحتى الناطقة باسم بوتين الذي ارسل الاف الجثث من الشباب الروسي الى الجحيم في حرب الوكالة البريطانية في اوكرانيا ( انزعجت) من عدم دعوة روسيا وبعد كل ذالك تتساءل اذا كان عالم يحكمه هذه المجموعة من التافهين والمهرجين تحركهم الة اعلامية جبارة كيفما تريد حتى انها جعلت من وفاة شخص حدثًا عالميا اذا كان يحق لنا ان نصف سكان غابات الامازون بالبدائية ؟ انا لايهمني اذا كانت امبراطورية اليزابيث واسعة وان الشمس لاتغرب عليها بل يهمني الرجال الشجعان في المستعمرات الذين كبدوا المستعمر خسائر فادحة واجبروه على الهروب واثبتوا للعالم بانهم ينتمون الى شعوب حرة بعكس الالاف الذين وقفوا طوابير طويلة فقط لالقاء نظرة على جثمان ملكية تكلفهم ملايين الجنيهات سنويا هؤلاء هم العبيد الذي من واجبنا ان نخلصهم من مرض العبودية ونقول لمجموعة الكومونولث بان عصر الامبراطورية البريطانية قد ولى ودفن

  7. يقول سنتيك اليونان:

    من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر

    1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      يبدو أنك لاتخطئ أخي سنيك! لا نريد (رأيي) رمي الحجارة عليها أو بالأحرى على جنازتها أو على جنازة فهذا مثلًا، من أفعال الصهاينة (لنتذكر جنازة شيرين أبو عقلة رحمها الله) ولكن نريد إزالة الأقنعة التي يستخدمها بعضهم (وهنا في الغرب) لتغطية الحقيقة!

  8. يقول Salem:

    أتمنى لو يقرأ هذا المقال من قبل كتاب القدس ليوم السبت,

  9. يقول Ali:

    حتى لا ننسي . في منطقة القبائل في الجزائر نؤمن انا كل من مات غدرا سيبقي صوته ينادي الأحياء حتى تحقيق العدالة. هل من حي يسمع صوت فلسطين المغدورة و المسلوخة من طرف بريطانيا. في كل اذن لكل مولود صوت واحد يجب أن نسمعه له اولا هو فلسطين حتي النصر. لا ننسي و اطلقو اسم اعميروش و بن مهدي و زبانة و حسيبة علي أولادكم.

  10. يقول سامي:

    اللهم يا الله ارحم الملكة اليزابيث واجعلها مع الشهداء والصديقين امين وممن قلت فيهم وبشرتّهم
    إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًار
    فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
    شوية تعقّل وهدوء، ما أكثر مساوئ وجرائم الملوك والحكام وما أقل حسنا،تهم، وللاسف كل ما يفتخر به الناس أن ملكهم انتصر على تلك الدولة أو قام بتأديب تلك، وليس هناك ملك واحد قام بشيء انساني مستدام ينفع البشرية ككل، ولنأخذ موضوع مهم للغاية وأساسي لصلاح أي مجتمع، وهو إلغاء الرق والعبودية، فلا يمكن لأي مجتمع أن ينادي بالحرية والعدل والمساواة كحق اساسي وهو يعتقد ان من حقه او معتقده الديني يسمح له باستعباد الاخرين، فذلك نفاق. إن المجتمعات الحرة الكريمة لا ترضى الاستعباد أو أن تستعبد مجتمع آخر….
    مواصلة….

    1. يقول سامي:

      يحسب للمملكة والعائلة المالكة من قبلها إنها أول من قام عمليا بإلغاء الرق قانونياً، ومن ثم محاربته بكل الوسائل الممنكة، ولقد تم تحرير الرقيق عندنا أمر ملزم من الاحتلال البريطاني، وهو شي مؤسف ومؤلم وكان يجب أن نقوم به نحن.يحسب لها ذلك وهو أمر عظيم لو كنتم تعقلون.الادهى من كل ذلك ما يزال بيننا من  أو يعتقد ان الاسلام احل الرق وأنه مقبول ان يمارس اذا قامت الدولة الاسلامية. وأقول لهم بكل صرامة ووضوح لا والف لا، ولا توجد آية واحدة في القراء تسمح باستبعاد انسان سوي كان أسير حرب أو غيره، أما ما كان من اتخاذ المسلمين للعبيد خلال الألف وأربعمائة سنة الماضية فإن صح فإنهم آثمون إثم عظيما ولو كانوا من صاحبة الجيل الاول، وندعو لهم بالمغفرة وأن يتجاوز الله لهم ذلك الخطأ الكبير 

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية