«ليست الملكيّة سوى الرباط الذي يشد رزمة (أو كيس) اللصوص». هكذا عرّف بيرسي شلّي النظام الملكي البريطاني ووظيفته السياسية والاقتصادية. قصد الشاعر الرومانسي ذو النزعة التحررية والميول الجمهورية أن الملكيّة هي النظام الذي يحمي استحواذ أقلية ضئيلة على معظم ثروات البلاد. كان ذلك أوائل القرن الـ19. فهل تغيرت الأوضاع في بريطانيا بعد أكثر من قرنين؟ نعم تغيرت، لكن في التفاصيل فقط. إذ إن ربع مجموع الثروات لا يزال مركّزا حتى اليوم في أيدي المنعّمين الذين يمثلون أقل من واحد بالمائة من السكان. أما قلب هذه الطبقة الأرستقراطية النابض فهم آل ويندسور الذين يملكون الأراضي الشاسعة في إنكلترا واسكتلندا ومساحات من الساحل البريطاني وقدرا معتبرا من أفخر الممتلكات العقارية في وسط لندن. على أن الأمر لا يقتصر على استفادة العائلة المالكة من هذه الثروات التي توارثتها منذ أجيال، بل إن ما يصدم العقل هو أن كل نفقاتها الواسعة ومتطلبات حياتها المرفهة إنما تسدد من أموال دافعي الضرائب!
وأعجب العجب أن البريطانيين لا ينفكون يعبرون للعائلة المالكة عن عرفانهم لها بالجميل لأنها رضيت أن تنعم برغد العيش على حسابهم (بمخصصات سنوية تبلغ 83 مليون جنيه)! إلا أن المؤرخين منقسمون بشأن مستقبل المؤسسة الملكية. فمنهم من يقول إنها أثبتت طيلة خمسة قرون قدرة دائمة على التكيف مع التغيرات، فقبلت على مضض، في سبيل الحفاظ على امتيازاتها، قيودا وحدودا آلت بها آخر الأمر إلى التحول إلى شركة تجارية أو وكالة سياحية يأتيها ملايين الأجانب سنويا للتفرج على خيولها وقصورها وفولكلورها. هذه القدرة على التطور دليل، في رأيهم، على أن الملكية البريطانية ملتزمة بالقاعدة التي ضمنت لبعض الأرستقراطيات الأوروبية الاستمرار والازدهار. إنها القاعدة التي خلدها الأمير تانكريدي في رواية «الفهد» لجوزيبي لامبيدوزا الصقلي: «حتى تبقى الأوضاع على حالها، لا بد أن يتغير كل شيء».
أعجب العجب أن البريطانيين لا ينفكون يعبرون للعائلة المالكة عن عرفانهم لها بالجميل لأنها رضيت أن تنعم برغد العيش على حسابهم (بمخصصات سنوية تبلغ 83 مليون جنيه)
ويبالغ المتمسكون بالتأويل التقليدي للدستور في نسبة شتى المناقب والمحاسن لآل ويندسور، فيمضون إلى حد الزعم بأن الطبقة الأرستقراطية تتخذ من العائلة المالكة قدوة تستلهم منها معاني التفاني في أداء الواجب وخدمة الصالح العام، أي أن العائلة المالكة تثبت صحة ما ذهب إليه أرسطو، في إشادته بحكم الصفوة، من أن أساس جدارة الطبقة الأرستقراطية بالحكم هو أنها تمتاز امتيازا فطريّا بسجايا المروءة والفضيلة. ولا حاجة بالطبع لتفنيد هذا الزعم، فقد تكفلت فضائح الأمير أندرو الأخلاقية بإثبات طوباويته أو سذاجته.
لكن الدفاع عن الملكية البريطانية يكون أكثر إقناعا عند القول بأنها كانت، وربما لا تزال، أحد أقوى القيود الدستورية المانعة لسلطة الاعتباط. ويشرح المؤرخ أندرو غيمسون هذا الرأي قائلا: بما أن الإطاحة بالملك في بريطانيا غير قابلة للتصور، فإن الاستبداد ذاته يصير غير قابل للتصور. أما البلدان التي أسقطت فيها الملكية لأسباب مفهومة (فرنسا عام 1789، وروسيا عام 1917 وألمانيا عام 1918) فإن الاستبداد فيها صار، أو عاد، واردا. ويستشهد غيمسون على ذلك بأن الملوك والأمراء هم أكثر شعبية في بريطانيا من السياسيين المتقلبين اللاهثين خلف الأصوات الانتخابية، وبأن الأمريكان والألمان يحترمون العائلة المالكة أكثر من الساسة البريطانيين. لكن أقوى شاهد يسوقه غيمسون، في نظري، هو أن الزعيم كلمنت أتلي، الذي قاد حزب العمال للفوز بانتخابات 1945 ثم ترأس الحكومة التقدمية التي أسست دولة الرعاية الاجتماعية في بريطانيا (نظام الصحة العمومية، والضمان الاجتماعي، والتقاعد، الخ.) صرح بأن «أكبر تقدم نحو الاشتراكية الديمقراطية التي أؤمن بها لم يتحقق في الجمهوريات، بل في الملكيات المحدودة» (أي الدستورية)، واستشهد على ذلك بممالك النرويج والسويد والدنمارك.
ومع أن مقولة أتلي هذه توحي بأن من الفكر السياسي ما يبلغ، بصفائه، بعض ما لا يبلغه الشعر الرومانسي، فإنها تستدعي ملاحظتين. الأولى: رغم أن أبرز مطاعن الملكية، حتى لو كانت دستورية، هو أنها تحتكم لعشوائية الصدف وليس لعقلانية الاختيار، فإن هذا لا يعني أن الإنسانية ستجمع يوما على النظام الجمهوري. بل المحتمل أن الملكية سوف تبقى سائدة في الممالك التي تتميز بالحرية السياسية أو الثراء الاقتصادي، والأرجح أن يكون مستقبلها أضمن وأدوم في الممالك التي تجمع الميزتين. الملاحظة الثانية: الفارق الجليل بين بريطانيا و«ممالك أتلي» هو أن الملكيات الاسكندنافية متواضعة متقشفة منتمية لروح الثقافة الديمقراطية الليبرالية حق الانتماء. من ذلك أن راديو «ان بي آر» الأمريكي أجرى عام 1988 مقابلة مع شرطية نرويجية فرضت على ملك بلادها، الذي كان يقود سيارته بنفسه، غرامة لأنه تجاوز حد السرعة الأقصى! سألها المذيع: ما الخطب؟ قالت: إنه انتهك قانون السير. دهش ابن الجمهورية الأمريكية وقال: إذن فيم تجشم عناء تتويج الملوك أصلا!
كاتب تونسي
شكرا أخي الكريم، مشكلة كبيرة نظام الحكم المطلق بإحتكار السلطات الثلاث في العالمين العربي والإسلامي، ولم نتعلم كيف يمكن قراءة تجارب الاداء الوظيفي للملكيات والجمهوريات في الغرب رغم الإعجاب والتقدير والاحترام لما عندهم، و التذمر بالمقارنة بما عندنا، حتى في موجات نزوح جماعية كبيرة، هربت نحو الغرب البعيد رغم مخاطر طرق الوصول، وسوريا في عقد ربيعها بما له وعليه مثال .
أعجبتي حلاوة الديموقراطية الجمهورية التونسية.