فيلم “الممر”… ظلال النكسة وبطولات الاستنزاف وملامح أكتوبر

الزمن الفاصل بين نكسة 67 وحرب أكتوبر/تشرين الأول 73 هو الخط الدرامي الذي ربط بين الأحداث في فيلم «الممر» للمخرج شريف عرفة، بدءاً من اللحظة القاسية لهزيمة القوات المسلحة المصرية في الحرب المشؤومة، وقرار التنحي للرئيس جمال عبد الناصر واعترافه بمسؤوليته الكاملة عن ما حدث.
بهذا المفتتح الصعب جرت وقائع الفيلم، على خلفية مؤلمة لما تركته الهزيمة من آثار مدمره في نفوس المصريين على كل المستويات، إبان السنوات العجاف التي عاشها الشعب على صفيح ساخن، حيث كثُر اللغط حول الحقيقة والسراب في الوضعية الجديدة للجيش المصري، بعد اختفاء شعارات التحدي والانتصار، وفراغ ميادين القتال، وزيادة حدة النقد للقيادة السياسية ورجال الدولة الكبار، في ما اعتبره شريف عرفة كاتباً ومخرجاً خلفية تاريخية واقعية تجدر بالتسجيل والتوثيق، قبل أن يُظهر التباين ويدخل في عمق الملحمة القتالية، لتتغير الصورة بمعطياتها الكلية من النقيض إلى النقيض، فنكتشف المُدخر والمخبوء في السيناريو المكتوب باحترافية تراعي شروط التصعيد والإثارة، وفق المنطق السينمائي، والرؤية بعيدة المدى في مسألة التمهيد للحرب الحقيقية، ومعارك المواجهة العنيفة على تراب الوطن، في الفترة المنحصرة بين عامي 1967 و1973، وهي المرحلة الأهم التي اصطلح على تسميتها عسكرياً بحرب الاستنزاف.
من هنا تأتي البداية الموضوعية لأحداث الفيلم، حسب المستهدف والمنشود في السيناريو والحوار، حيث لم يخضع البناء الدرامي، كما في التجارب الحربية السابقة لقصص الحب الرومانسية، التي تتخللها انعطافات قليلة على الحرب، وإنما يضطلع الفيلم كله بإبراز الجانب البطولي، وتسجيل الحالة القتالية كرد فعل لهزيمة يونيو/حزيران في سياقات عسكرية وسياسية وفنية مدروسة بدقة، فقد احتوت المشاهد على صور أرشيفية للرئيس عبد الناصر مع الضباط والجنود على جبهة القتال، وهم في حالة تفقد، بما يوحي برفع درجة الاستعداد القصوى، وفي الوقت ذاته ينقلنا المخرج إلى الجبهة الداخلية، لنستطلع آيات اليأس والضجر من انكسارات الهزيمة، وتنبؤنا الحياة الاجتماعية بمتغيرات مأساوية يشار إليها بمجموعة مشاهد دالة، من بينها مشهد ضرب ضابط الجيش «أحمد عز» لموظف السنترال حجاج عبد العظيم، احتجاجاً على سوء المعاملة، وأيضاً عبثية الأداء المهني للصحافي أحمد رزق الذي بات نزيلاً في عُلب الليل ومشغولاً بنشاط فتيات المتعة.


وعلى جبهة القتال نفسها تتعدد الصور، بين التدريبات القاسية السابقة على عمليات الاستنزاف العسكرية، وحالة القنوط نتيجة عدم التصديق بوجود توابع للحرب ومفاجآت مذهلة ما زالت تنتظر العدو، الذي بات معتقداً أنه قد حسم المعركة لصالحة وقضى للأبد على الجيش المصري. وبالقطع يستخدم المخرج شريف عرفة الدلالات الدرامية المناسبة لهذا المفهوم، بدون الإفراط في السرد، أو فرد مساحات واسعة للتداول، والأخذ والرد، كي يركز بالأساس على مشاهد القتال والمناوشات بين طرفي الصراع ليعبر عن أجواء المعارك والتعبئة اللازمة لتنفيذ الطلعات المباغتة، خلف خطوط العدو التي يرمز إليها بواحدة من العمليات شبة الانتحارية لتفجير أحد المواقع الحصينة.

تظل الرؤية السينمائية للبطولات الحربية في فيلم «الممر» مرتبطة بشكل أساسي بتوثيق حرب الاستنزاف كنقطة جوهرية مضيئة في تاريخ العسكرية المصرية، كان لها الفضل في التمهيد لحرب أكتوبر.

ووفق الخُطة المرسومة تذهب فرقة من قوات الصاعقة المكونة من بعض الضباط والجنود، لتنفيذ عملية الهجوم، ويحدث الاشتباك، وتتجلى الصورة القتالية بشكلها التسجيلي، بعيداً عن المضامين الروائية، اللهم غير النزر اليسير من الحكايات، التي يتداولها الجنود في ما بينهم عن خلفيات حياتهم وذكرياتهم الخاصة، للترويح عن أنفسهم، والتخلص النسبي من الضغوط النفسية، في وصلات قصيرة من المرح والتفكه قبل الدخول في أتون الحرب، وتمثل هذه الحالة العارضة في السيناريو مجرد تأكيد للروابط الإنسانية التي تجمع بين المقاتلين.
وينفرد في هذا الإطار الفنان أحمد رزق، الذي لعب دور المراسل العسكري بأداء خاص، غلب عليه الطابع الكوميدي، وهو انفراد سلبي لشخصية لم يُحسن المخرج توظيفها، ولم يفلح الممثل في تجسيدها، لاسيما أنها جاءت مجافية للصورة الذهنية والواقعية للمراسل العسكري، بجديته ووقاره وشجاعته، وهي صفات توافرت بشكل حقيقي في المراسلين الذين أرخوا للحرب، كجمال الغيطاني وحمدي الكنيسي وآخرين كان لهم إسهامات مشرفة في هذا الخصوص.
وفي ما يتعلق بالأداء التمثيلي لبقية الأبطال فقد تفوق محمد فراج على نفسه في تجسيد الشخصية الصعيدية، بميراثها الثقافي والإنساني، وسماتها الأساسية من رباطة الجأش والشجاعة والعفوية، غير أن فراج ظل متمكناً من ضبط اللهجة الجنوبية المميزة طوال الأحداث، بدون خطأ واحد يذكر. كذلك إياد نصار في دوره الفارق والمهم كضابط إسرايئلي شديد الإقناع في أدائه وحركته وتقمصه للشخصية، بكل مستوياتها العسكرية والنفسية، ولا شك في أن أحمد فلوكس اجتهد اجتهاداً يحسب له في المساحة التي أتيحت له، وبالقطع لا بد من الإشارة إلى ضيوف الشرف، هند صبري وشريف منير وإنعام سالوسة فجميعهم كان على المستوى المطلوب أداءً وتأثيراً. ويبقى الدور الرئيسي لأحمد عز، فهو طبقاً للمواصفات الشكلية والجسمانية واللياقة البدنية يستحق درجة الامتياز مع مرتبة الشرف، وهو تقدير مستحق له أيضاً كممثل تم الرهان عليه وتفوق قدر استطاعته ليكون عند حُسن الظن.
أما الموسيقى التصويرية لعمر خيرت فهي ثيمة نجحت في إعطاء التأثير المطلوب، لكنها افتقدت إلى التعميق، لتكون مُكملا حقيقيا للأحداث، وليس مجرد إطار وحلية للزخرفة، وطبقاً لمعادلة التكوين فإن التصوير كان هو البطل الحقيقي في مكونات الفيلم، بجانب الديكور والإضاءة والمونتاج وبالطبع الميزانية الإنتاجية الوفيرة.
وختاماً تظل الرؤية السينمائية للبطولات الحربية في فيلم «الممر» مرتبطة بشكل أساسي بتوثيق حرب الاستنزاف كنقطة جوهرية مضيئة في تاريخ العسكرية المصرية، كان لها الفضل في التمهيد لحرب أكتوبر، وهي الإشارة الأخيرة التي أنهى بها شريف عرفة الأحداث لحظة الإعلان عن عبور قناة السويس ليبقى المعنى الدلالي مفتوحاً كناية عن بداية مرحلة جديدة لا وجود فيها لدموع أو أحزان، أو ظل من ظلال النكسة.

٭ كاتب من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالله المصري:

    الم ينتبه السيس ان حرب الاستنزاف و قبلها حرب 1967 و حتى حرب 1973 جائت بسبب جزر تيران و صنافير الذي باعهم للسعودية

إشترك في قائمتنا البريدية