أسئلة كثيرة تطرح نفسها هذه الأيام، تتعلق بغياب الشارع العربي عن المشاركة في قضاياه المصيرية، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، وحتى ما يتعلق منها بالأمن القومي، في الوقت الذي تنتفض فيه الشعوب من أقصى بقاع الأرض لصالح القضايا العربية، خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وحرب الإبادة الدائرة الآن في قطاع غزة، لم يعد الأمر يتعلق بغياب المواقف الرسمية العربية فقط، بعد أن أصبحت الحالة الشعبية مشابهة إلى حد كبير، سكون تام في الشارع، رغم الحراك العالمي الذي لا يهدأ.
المثير للدهشة، أن طبول الحرب تدق في المنطقة، وأنباء القتل والإبادة تفرض نفسها، إلا أن مهرجانات الإلهاء الفنية لا تتوقف، من العلمين في مصر، إلى قرطاج في تونس، وموازين في المغرب، والترفيه في السعودية، والرقص المعاصر في الجزائر، والفنون والسينما في الإمارات وغيرها، قد تكون الأنظمة الرسمية هي المحرك أو المنظم، إلا أن الجماهير في نهاية الأمر هي العامل الرئيسي لرواج هذه الفعاليات من عدمها، وهو ما يضع المراقبين أمام حالة غريبة من المهم التوقف أمامها، خصوصاً بعد أن غابت الأغنية الوطنية عن عمد، مع تزييف الإنتاج الدرامي، وتغريب الفنون الشعبية، وتشويه كل ما له علاقة بالعروبة والقومية العربية.
كلمة السر الآن، هي المناهج التعليمية أو المقررات الدراسية، كم من المرات تابعنا، في الآونة الأخيرة، بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي، وهو يتحدث عن ضرورة تغيير المناهج الدراسية لتلاميذ قطاع غزة، على خلفية ما أطلقوا عليه في الكيان: اليوم التالي للحرب فيما بعد حماس، في إشارة إلى أهمية السيطرة على مناهج التعليم في الصراع الدائر، وكم من المرات قرأنا تقارير أمريكية تتحدث عن التدخل الفعلي المباشر – خلال السنوات الماضية – في مناهج التعليم في العالم العربي، فيما يتعلق بالمواد الشرعية والتاريخية بشكل خاص، وما يتعلق منها بالحالة الإسرائيلية، وغير ذلك من موضوعات تتعلق بالأخلاق في الشريعة الإسلامية، إلى أن تصل إلى ذلك المتعلق بالمثلية والشذوذ، وما شابه ذلك.
الحوارات الأمريكية – الإسرائيلية في هذا الصدد، لم تعد تخجل من التحدث علناً عن القرآن الكريم، والمطالبة بحذف بعض الآيات، وتعديل البعض الآخر، وهكذا الحال فيما يتعلق بالأحاديث النبوية الشريفة، وظهرت بالأسواق بالفعل، مصاحف باللغتين العربية والإنكليزية، بها من العبث الكثير، وأشارت إلى ذلك علناً برامج حوارية تلفزيونية إسرائيلية، تحدث فيها الضيوف، عن أهمية ذلك من أجل استمرار الوجود الإسرائيلي، ومدى المساعدة بتسهيل تحقيق الوعد المزيف بالتمدد والسيطرة، من النيل إلى الفرات، بوجود أجيال عربية مهترئة لا تعي أمور دينها أو تاريخها. على خلفية ذلك، أصبحنا نكتشف، بين الحين والآخر، ما يشبه الكوارث، في المناهج التعليمية، من بلد عربي إلى آخر، خصوصاً في مواد التربية الدينية، والتربية والوطنية، والتاريخ، وكانت البداية حذف ما يتعلق بغزوات الرسول عليه الصلاة والسلام، من المناهج تماماً، ثم حذف الأحاديث النبوية التي تتحدث عن الشرك والمشركين، وأصحاب الديانات وغيرهم، والفصل بين دخول الجنة مع الإيمان بالله والعمل الصالح، أو دخول النار مع الكفر بالله وشرب الخمر، ثم حذف تعبير «كفار قريش» تماماً من سيرة الرسول، وإطلاق تعبير «المعارضة» عليهم وغيرها. أما ما يتعلق بالشأن السياسي، فلا يقل خطراً عن الشأن الديني، خصوصاً عندما نكتشف أن خرائط كتب التاريخ، في بعض المناهج الدراسية، أصبحت تشير إلى «القدس المحتلة» باعتبارها عاصمة للكيان الصهيوني، كما يساوي السرد التاريخي بين الضحية والجلاد، أو بين المحتل وأصحاب الأرض، حينما يعتبر أن ما يجري في فلسطين المحتلة، مجرد خلاف وصراع، بين شعبين، دون الإشارة إلى أن أحدهما جاء من أوطان متفرقة في العالم، للاحتلال والاستيطان، على حساب شعب آخر، كان يعيش آمناً آلاف السنين، أو دون الإشارة إلى دور الاستعمار البريطاني في هذا الصدد، من خلال ما كان يعرف في ذلك الوقت بالانتداب البريطاني.
المناهج الدراسية «المزيفة» في العالم العربي، يجب النظر إليها في حقيقة الأمر باعتبارها، جرس إنذار، يهدد البنيان المجتمعي
نحن أمام تزوير صارخ، للحالتين الدينية والسياسية، يتعارض على الأقل مع ما هو مخزون في ذاكرة أجيال عديدة موجودة على قيد الحياة من جهة، ومن جهة أخرى فهي تتعارض مع ما هو مدون بالفعل في كتب الدين والتاريخ، من خارج المناهج الدراسية، وهو ما يجعلنا أمام أجيال مشتتة، سوف تبحث عن الحقيقة، إلى الحد الذي ينذر بعواقب وخيمة، تتعلق بالتشدد والتطرف، بل الإرهاب، حتى إن كان هناك عدد من الدول أو الأنظمة، بدأت بالفعل في جمع الكتب المشار إليها من الأسواق، ومنع طباعتها أو تداولها، وحظر كتب مؤلفين بعينهم، صدرت بهم قوائم. ربما لا يعي هؤلاء، أن ذاكرة التاريخ، لم تعد ورقية فقط كما كان في السابق، في ظل التطور التكنولوجي الحاصل مع الشرائح الإلكترونية وغيرها، وربما لا يدرك هؤلاء أنه إذا كان هناك من يبذل جهداً في تزوير التاريخ، فإن هناك على الجانب الآخر، من الأفراد والجماعات، من يبذلون جهداً أكبر في الحفاظ على التاريخ، وهو ما يشير إلى أن ما يجري من مؤامرات، خارجية وداخلية، في هذا الصدد لم يعد يجدي نفعاً، في وجود وسائل إعلام ومواقع إخبارية ومواقع تواصل اجتماعي، تعمل خارج الحظيرة الرسمية على مدار الساعة هنا وهناك، وعلى سبيل المثال، فإن ما يتعلق بتزوير القضية الفلسطينية تحديداً، جاء طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، لينسفه من جذوره، وليفتح باب النقاش من جديد حول القضية بكامل أبعادها، خصوصاً حينما تصدر قرارات من الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، تؤكد الحق الفلسطيني، الذي تجاهلته، بل شككت فيه، المناهج الدراسية، في الوقت الذي تتوالى فيه اعترافات العواصم الأجنبية بهذا الحق، بالتزامن مع مسيرات ومظاهرات تضامن في أنحاء الكرة الأرضية، باستثناء العواصم العربية، التي حملت على عاتقها تزييف التاريخ.
أعتقد أن المناهج الدراسية «المزيفة» في العالم العربي، يجب النظر إليها في حقيقة الأمر باعتبارها، جرس إنذار، يهدد البنيان المجتمعي، في هذه الدولة أو تلك، في وجود أجيال «بلياتشو» تفتقر إلى الهوية الدينية والتاريخية والثقافية في آن واحد، بعد أن كانت هذه الهوية تمثل الدافع الرئيسي للانطلاق والتقدم والتطور يوماً ما، ساد خلاله العنصر العربي الإسلامي، شرقاً وغرباً، وإلا لما انتشر الإسلام بهذا الشكل، الذي أذهل العالم، ومازال، إلى الحد الذي يمثل فيه الآن الكثير من المخاوف، حال خروج المارد من قمقمه. ولا يمكن في هذه الحالة، الفصل بين ما يجري في المؤسسات الدراسية، وما يجري في بعض الأروقة الثقافية العربية، وبعض وسائل الإعلام، في آن واحد، من ترويج لهذا المشروع الخطير، حتى بلغ الأمر إنشاء مؤسسات في هذا الصدد، حملت على عاتقها في البداية، التشكيك في السنة النبوية، وصحيح مسلم والبخاري تحديداً، ثم الخوض في الصحابة والسلف الصالح بما لا يليق، إلى أن بلغ الأمر إلى القرآن الكريم، الذي لم يسلم من أذاهم، إن بالافتراءات الكاذبة، أو التفسيرات الخادعة، وكل ذلك تحت سمع وبصر الأنظمة الرسمية، التي دعمت هذه المؤسسات بوضوح.
أعتقد أن دور الشعوب يصبح مهماً، في مواجهة هذه الهجمة الشرسة، أو هذا المخطط الهمجي، في غياب دور المنظمات الرسمية، كمنظمة التعاون الإسلامي، أو حتى جامعة الدول العربية وغيرها من المنظمات، التي أصبحت رهينة حصص التمويل المالي السنوية، حيث تسيطر هذه الحصص على ممارساتها وقراراتها، ما جعل وجودها في حد ذاته داعماً لتلك السياسات والمؤامرات، وليس العكس، في الوقت الذي أصبحت فيه المؤسسات الأهلية، أو مؤسسات المجتمع المدني هي الأخرى، تعيش على المنح والعطايا الأجنبية، بما يفقدنا الأمل في الاعتماد عليها أيضاً، كحائط صد لمثل تلك المؤامرات على الدين والتاريخ في آن واحد، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
كاتب مصري