الموت بالغلط…

حجم الخط
12

«هل عانيت من إهمال أو من خطأ طبي؟ نحن نُحصّل لك حقوقك، لقد حصل زبوننا على تعويض مالي كبير، لقد اقترحوا عليه نصف مليون فقط، ولكن نحن حصّلنا له ثلاثة ملايين».
عندما تضع كلمات مثل «إهمال» أو «خطأ طبي» على محرك البحث، تجد مئات الشركات والمحامين الذين يقترحون عليك التواصل معهم لتقديم شكوى، وإذا ما مررت بتجربة خطأ طبي أو إهمال أو ما تظنه كذلك، يعدونك بربح كبير، مع أمثلة على نجاحات حققوها ضد هذا أو ذاك من المستشفيات، أو ضد وزارة الصحة.
هذه المكاتب تسعى إلى الحد الأقصى من الربح، لأن أجرتها عبارة عن نسبة مئوية معينة مما تحصّله لزبونها، ولهذا نقرأ في الصحف والمواقع الإلكترونية: «خالص الشكر والتقدير إلى المحامي الفلاني الذي عمل بإخلاص ومهنية وحصّل لي تعويضًا من المستشفى الفلاني، نتيجة خطأ طبي ارتكب بحقي»، أو بحق أحد أبناء الأسرة.
وللمستشفيات ووزارة الصحة محاموها وشركات تأمينها، وهكذا فإن قضية الإهمال والأخطاء الطبية صناعة هائلة، تدير مليارات الدولارات عبر دول العالم بتفاوت بين هذه وتلك، وذلك حسب قوانين كل دولة، وهذا يتعلق أيضًا بالمستوى الصحي والاقتصادي والقضائي العام.
قد يحدث الخطأ الطبي في تشخيص الحالة، كذلك ممكن وقوعه في نوع العلاج المقدّم أو كميّاته، وممكن أن يقع أثناء تقديم العلاج، مثل التأخّر في تقديمه، أو تعقّد العملية، مثل إصابة عصب أو عضو آخر غير العضو المعني أثناء عملية جراحية، أو حصول مضاعفات لم يجر إخبار المريض مُسبقًا بإمكانية حدوثها ولا بنسبة نجاح العملية أو فشلها، ولم يأخذوا موافقته الخطية، أو أن علامة معيّنة واضحة بقيت في جسده نتيجة العملية لم يخبروه مُسبقًا بإمكانية بقائها، خصوصًا إذا كانت امرأة قد تؤثر على مظهرها.
كذلك فقد يكون الخطأ أنهم أجروا للمريض فحوصا كثيرة، ثم حرّروه دون العثور على سبب معاناته، ثم اتضح بأنه كان مريضاً، ولكنهم لم يكشفوا مرضه مبكرًا، رغم وجود إمكانية موضوعية للكشف عنه، من ناحية المعدات والقدرات العلمية المتوفرة في البلد، كذلك هناك حالات شكاوى ضد سيارة وطاقم الإسعاف الذي تأخر كثيرًا في الوصول لنقل مصاب، أو أنه وصل ولم يكن مزوّدًا بعتاد كافٍ لإجراء عملية إحياء اصطناعية، الأمر الذي أدى إلى وفاة شخص كان إنقاذه ممكنًا.
ما كان الإنسان ليكتسب المعرفة إلا من خلال تراكم التجارب وتناقلها بين أبناء البشر، وما زال الإنسان يتعلّم ويُجري التجارب، وفي أحيان كثيرة يُدخلون دواء جديدًا للتجريب على البشر بعد نجاجه على الفئران، ويستشيرون المريض إذا ما كان موافقًا على استعمال دواء جديد لمرضه، الذي قد ينجح وقد يفشل، وعادة ما يجري التجريب على أولئك المرضى الذين يثقون ثقة عمياء في الطبّ والأطباء، ولا يدرسون الموضوع من كل جوانبه، فإذا ما اقترحوا عليهم دواءً جديدًا، وافقوا فورًا، واعتبروا الأمر هدية لهم، ويرون فيه فسحة أمل أخيرة للنجاة، ولسان حالهم يقول: «وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون».
تحتل الوفيات نتيجة الخطأ الطبي في أمريكا المرتبة الثالثة في أسباب الوفاة، وهذا رقم هائل، وهذه النسبة ترتفع أكثر بكثير في الدول التي تملك جهازًا صحيًا أقل تطورًا من أمريكا وأوروبا، ولكن لا توجد إحصاءات رسمية بصددها، وأعتقد أن النسبة العالية في أمريكا وأوروبا تعود أولاً إلى الكشف عن هذه الحالات، ووجود رقابة ومعايير مشددة في هذا الجانب، بينما تعتبر شبيهاتها لدى كثير من دول العالم الثالث قضاءً وقدرًا، ولا يجري البحث عنها، فلا تعتبر إهمالاً أو خطأ طبّيًا، بل تعتبر حالة وفاة في فترة العلاج.
أكثر من مرة سمعت أن طبيبًا قال لمريض: من الذي أعطاك هذا الدواء؟ من الذي نصحك بهذا؟ يجب أن تكف عن تناوله فورًا، هذا سبب معاناتك،
كيف تحمّل جسدك كل هذه الأدوية؟ إنها تقتل حصانًا. ويصمت المريض، فهو يفعل ويتناول ما يقولون وما يقدمون له.
وكثيرًا ما سمعنا مريضًا يقول: «الطبيب الفلاني كاد يقتلني، وعندما انتقلت إلى طبيب آخر غيّر لي الدواء فارتحت على يديه». الحقيقة أن الطبيب الثاني أو الثالث استفاد من فشل من سبقوه.
أخيراً، في الوقت الذي تحوّل الخطأ والإهمال الطبيان في الدول المتقدمة إلى تجارة وصناعة ودورة مالية يشارك فيها ملايين البشر بتكلفة مليارات الدولارات، وبات الكشف عنها أحد أسس الأنظمة المتقدمة، فإن هناك مئات الملايين من أبناء البشر الذين ما زالوا عاجزين عن الوصول إلى المستشفيات، وإذا وصلوها فهم عاجزون عن دفع تكاليفها، وإذا حدث خطأ أو إهمال طبي فلا أحد يعلم به، وإذا عُلم، فلا يملك المواطن الأدوات التي تجعله قادرًا على مواجهة الوزارات وإدارات المستشفيات، وهذه الشعوب الفقيرة هي بالذات التي يتعالج قادتها وأسرهم ويجرون لهم «الفحص الروتيني» في أرقى مستشفيات أمريكا والغرب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    بالنسبة للنرويج فإن الخطأ الطبي نادراً حدوثه لعدة أسباب منها: المرور بكافة الفحوصات اللازمة للمريض قبل العملية, وعدم جرأة الطبيب على المغامرة بحياة المريض لخوفه من الفصل! أما الدواء فيتم تسجيله بالكمبيوتر, ولا تختلف الوصفة من طبيب وآخر فالجميع يدخل في دورات تحديثية بشكل دوري!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    كنت بزيارة أقرباء لي بسوريا قبل عقد من الزمن, ونصحني أقربائي بطبيب عظمية شاطر لغرض إزالة قطعة من الغضروف بركبتي من خلال ثقبين بالركبة فقط! بعد العملية أخبرني هذا الجراح بأنه تعلم هذه العملية من جراح صديق (تعلم ثلاث سنوات بفرنسا) من خلال مشاركته العملية لثلاث مرات فقط!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول كمال - نيويورك:

    لابد من معاقبة من يخطئ و خاصة في المجال الطبي حتى يأخذ الطبيب بكل الأسباب عند العلاج. سمعة المحامين في امريكا سيئه بسبب جشعهم و لعبهم بالقانون لربح القضية بغض النطر عن العدل و الحق. المحكمة دائما تنظر بعين العطف على المريض الفقير و عادة الجاهل في المجال الطبي و بعين الشدة على الطبيب الغني و المتعلم القادر على دفع الغرامة. تحصل تسوية في معظم هذه القضايا خارج نطاق المحكمة لانها اسرع و اقل تكلفة. الطبيب الذي بعمل في الجيش الأمريكي لديه حصانة و لا يمكن مقاضاته مهما اخطأ في علاج الجنود.

  4. يقول محمد شهاب أحمد:

    أرعبتني!

    ليس صحيحاً أن الخطأ الطبي يتسبب بثلث الوفيات في أمريكا ، فهذه نسبة غير معقولة
    نظرت في كوكل للأسباب العشرة للوفيات في العالم و أمريكا : تبدأ بأمراض القلب و السرطان و تنتهي بالإنتحار ، و هذه تشكل حوالي ٧٥٪؜ من الوفيات .

    1. يقول سهيل كيوان:

      الأخ محمد شهاب أرجو أن لا أكون أرعبتك بالفعل، هذه المعلومات نشرت في مجلة نقابة الأطباء الأمريكيين، وهذه معلومات منتشرة في عشرات المواقع. الإهمال والأخطاء تشمل متابعة المرضى بعد العمليات وعمليات لم يكن حاجة ماسة لإجرائها، وأدوية لم تكن ضرورة لإعطائها للمرضى وهي بدورها تؤدي الى مضاعفات، إضافة إلى الموت بسبب تلوثات داخل المستشفيات، ويبلغ عدد من يموتون في الولايات المتحدة نتيجة هذه الأخطاء والإهمال الى 250 ألف في كل عام، وهذا هو السبب الثالث للموت في الولايات المتحدة، تحياتي ومنحتي لك والشكر الجزيل لجميع المعقبين .

  5. يقول محمد ابو الصغير:

    لجميل في كاتبنا سهيل انه يتطرق تاى مواضيع تكاد ان تكون منسية او بديهية كموضوع الأهمال الطبي وكيف الأهمال الطبي اصبح تجارة مربحة ..ومن ذاكرتي انني عندما اتوجه لمشفى معين لزيارة مريض اجد محامين مع بدلات جميلة ينتظرون في غرفة الأنتظار , وعند الأستفسار اي مريض يبحثون الأجابة تكون انهم لا يزورون مرضى بل ينتظرون مرضى عولج وتسبب من اهمال طبي .. مكتب محامين داخل المشافي.

  6. يقول رسيله:

    مقاله تحليليه نقديه رائعه تعتمد على سبر عميق لقضية مهمة تشغل الرأي العام قمت من خلالها كاتبنا بتناول الأحداث تفصيلا رباطا بينها وبين أحداث أخرى ثم استنبطت منها آراء واتجاهات مفسرة ومقيمة للقضية العلمية المطروحه ( الصحة) وذلك من أجل نشر الوعي بين جموع القراء .
    انا أؤمن بأن الصحة كما يقول انايس نين هي :”توازن كل القوى و إنسجامها معا لذلك فالصحة لها أوجه عدة منها العقلية والنفسية والجسمانية وجميعها ترتبط ارتباطا وثيقا ببعضها البعض واي خلل في إحداها يسبب خللا في توازن الأخرى.
    جبران خليل جبران يقول “وقاتل الجسم مقتول بفعلته.. وقاتل الروح لا تدرى به البشر “.فماذا عن قضية صحة النفس والروح كاتبنا ؟؟ فهنالك الكثير من البشر سليمي الجسد سقيمي القلب والروح والنفس.

  7. يقول رسيله:

    ( التكمله)وماذا عن اضطراب ما بعد الصدمه والذي يحدث عادة بعد تعرض الفرد لحادثة مروعهمروعه تشعره بأنه في خطر أو بان حياته مهددة لأسباب عدة منها: تشخيص وجود مرض قد يهدد الحياة أو حدوث معاناة في علاج طبي او تعقد في عملية ولادة طفل ( اكتئاب ما بعد الولاده)بحيث ان أعراض هذا الاضطراب التي غالبا ما تكون فسيولوجيه كالشعور بالحزن و الاكتئاب و القلق و الذنب وأحياناً بالغضب، ألم العضلات ، الاسهال،عدم انتظام النبض، الصداع، مشاعر الفزع والخوف، قد تودي بحياة وصحة صاحبها اذا لم يجد الدعم النفسي والمعنوي والطبي.هذا وقد تطرقت في مقالك استاذ سهيل لقضية أخرى هي تراجع الخدمات بالمستشفيـات والمراكز الصحية ، ونـقـص بالكـوادر الطبـيـة والتمريـضيـة ونقص في الأدويـة وهي تعبر عن معاناة الكثير من الشعوب التي ترزح تحت وطأة الاحتلال او التشرد او اللجوء السياسي.
    موضوعك في قمة الروعه لطالما كتبت كل مميز وخارج عن المالوف، دام تميزك وروعة اختيارك.

  8. يقول بولنوار قويدر-الجزائر:

    السلام عليكم
    تحية طيبة (سي سهيل) ولكل قرّاء ومعلقي القدس وأسرتها الفاضلة
    بروائعك تجعل منّا قرّاء ومعلقين ننتظر إطلالتك لكي نرشف منها شذى وعسل مشهى
    لقد إستوقفتني أول عبارة من رائعتك (هل عانيت من إهمال أو من خطأ طبي؟ نحن نُحصّل لك حقوقك )الحقوق وما أكثرها قد ضاعت في هذا الزمن فأردت أن أصيغها باسلوب آخر (هل عانيت من تهميش أو رفض لعملك الأدبي؟نحن لا نستطيع رد لك جهودك) يفني الأديب جهد مضني وسهر ليالي من أجل رص كلمات وبلورة فكرة وبعد كتابة كلمات ومحوها وإعادة صياغتها ومحاولة تجميلها بحلة أدبية وأحيانا بعرضها على أهل الإختصاص لتنقيحها وإجتثاث غير الصالح منها تعرض على مطابع قصد رصف نصوصها عبر كتاب ثمّ تعرض على جرائد وصحف متخصصة من أجل نشرها أو التشهير لها وكل ذلك مقابل ما قد جمعته لتعول به نفقات عيالك لتجد عملك هذا في سلة المهملات لسبب واحد أنّك لم تسير مع الموجة التي تعلي ما شاءت وتطمر من لا يساير تيارها ..فتنتفض غضبا :( أيعقل الرداءة تنشر لتوزع عبر اكبر أبواق الدعاية المجانية لنشر الرذيلة لتمنع الفضيلة من أداء مهامها ) .هنا نجد صاحب الفضيلة ينظر للسماء فيراها بعيدة وينظر للأرض فيجدها صخورا خشنة فيدرك أنّ عمله لا يصلح لهذا الزمان الموبوء بالرداءة على حساب الكفاءة
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  9. يقول ختام قيس:

    مساء الخير
    اعتقد ان جميع القضايا التي تطرحها استاذ سهيل من معناة الشعوب تنحصر في دائرة واحدة وهي سلطة القوي على الضعيف حتى الموت،المرض والعلاج له خاصية وادوات تعامل مختلفة عندما نتحدث عن المواطن البسيط الذي لا حول ولا قوة له،المعاناه في انك ولدت لتكون الحلقة الاضعف التي تعلق السلطة غضبها وتمييزها..
    مهما تعدت المسميات فان الموت هو حق وقدر لو تأخر ساعة او تقدم.

  10. يقول Nazeera:

    مقال يستحق منا التقدير ..لا أحد يتطرق لمثل هذه المواضيع الا نادرا ..وجل من لا يخطيء فهو الواحد الاحد
    وسأعقب على الخاتمة خاتمة المقال ..من لم يثق ببلاده وقدرتها على التطور مهما كان لا يستحق ان يكون قائدا وحاكما لها ..واتعجب ممن لا يقدر من قدروه ونصبوه حاكما ومسؤولا عنهم ان يكونوا امينين على صحته ..
    يعجبني الثقة التي يضعها حكام المؤسسه الاسرائيلية في اطباءهم ومستشفياتهم حتى الحكومية منها ..
    دمت بخير استاذ سهيل ..

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية