صدمت الأوساط الأدبية الأردنية بالرحيل المفاجئ للأديب الأردني إبراهيم العجلوني، الذي ولد في سبتمبر/ أيلول من العام 1948، في بلدة الصريح، من أعمال محافظة إربد، نشأ فيها، ودرس اللغة العربية وآدابها في جامعة بيروت العربية، التي ظفر منها بالشهادة الجامعية الأولى عام 1976، واشتغل بالتدريس بادئ الأمر، ثم في العلاقات العامة والثقافية في الجامعة الأردنية. انتقل بعدها لدائرة الثقافة والفنون التابعة لوزارة الثقافة والإعلام، وترأس تحرير مجلة «أفكار» الشهرية لبضع سنين، وأنشأ مع بعض الإعلاميين مجلة أسبوعية باسم «الرائد»، التي تواصل صدورها بضع سنوات. وبعدها أنشأ مجلة فصلية باسم «المواقف»، اهتمت بنشر الدراسات الثقافية، والفكرية، ذات الطابع الفلسفي والإسلامي.
وعمل في الوقت نفسه باحثاً في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية. وفي مجال الصحافة تنقّل من جريدة لأخرى، قبل أن يستقر في «الرأي». وعهد إليه المرحوم محمود الكايد بالإشراف على ملحقها الأدبي الثقافي. وإلى جانب ذلك عرف بصفته كاتب عمود شبه يومي، قبيل أن تتخذ الجهات المختصة بمراقبة الحريات العامة قرارها بمنعه من النشر، بسبب آرائه التي لا تطيب لبعض المسؤولين.
بدأ العجلوني مسيرته الثقافية شاعراً، فقد نشر أول مجموعة شعرية عن دار عويدات ببيروت 1973 بعنوان «تقاسيم على الجراح». وفي العام 1980 أصدر مع بعض الشعراء السوريين ديواناً مشتركاً بعنوان «وحينما نلتقي». وفي 1992 أصدر ديوانا آخر بعنوان «طائر المستحيل». وفي العام 2018 جمع الدواوين المذكورة في واحدٍ نشره بعنوان «الأعمال الشعرية». وفي العام الحالي 2022 صدرت مجموعته الشعرية الأخيرة، وهي بعنوان «مقامات الصحو والشهادة»، وتضم بعض أشعاره التي لم ترد في الأعمال المذكورة.
من يقرأ أشعار العجلوني يلاحظ أن له صوتين مختلفين، أحدهما جهوري قوي، تغلب عليه الجزالة، وثانيهما خفيض تغلب عليه نزعة التجريب، والخوض في ما لا يتفق مع طباعه الذاتية، وسجاياه الأدبية. ونعني بذلك تلك القصائد التي اعتمد فيها وحدة التفعيلة بدلاً من الوزن التقليدي المعروف. ففي واحدة من غُرَر شعره يستعيد العجلوني الكثير الجمّ من الرموز المرتبطة بالفروسية العربية، والشهامة، والقوة، مستبعدًا ما ينم على الحنين والبكاء والحسرة. فهو يخاطب بغداد بما يتناسب وأحوال حربها مع مجوس العصر، مذكراً بالرماح، والسيوف، والدياجير، والليوث، التي تغير على الأعداء إغارة الأسْدِ على الفرائس، في يوم الروع الأكبر:
دعوتُ رماح العُرْبِ من كل مأسدٍ
وخضت بأقماري دياجيرها قُترا
ومنْ يجهل الجلّى فهذي ليوثنا
ومن يستبين الموت يشقى به خُبرا
وما هي إلا صوْلةُ الحق صالها
وما هي إلا الروح والفتنة الكبرى
فالراحلُ لم يستطع أن يتحرَّر من المعجم الشعري القديم وتأثيره. فألفاظ الشعراء المتقدمين تتواتر في الأبيات: مأسد، الروع، ليوث، دياجير، جُلّى، صولة الحق، وهي كلمات تطغى على قصائده الأخرى، مثل: المكابد، وطريق الرجال، وآن الأوان، وجبل النار، وسيزيف والعبث، ودموع صعبة المراس.
في المقابل، لا يجد القارئ في أشعاره الحرة -إذا جاز التعبير- ما هو قويٌ، جزل، بمثل هذه الجزالة والقوة. وقد سُئل عن اختلاف شعره التفعيلي عن شعره الخليليّ – نسبة للخليل بن أحمد- فقال إن ما أستطيعه من الشعر لا أرتضيه، وما أرتضيه من الشعر لا أستطيعه. يذكرنا ما يؤثر عنه بهذا الشأن بالأصمعي الذي قيل له: “أنت تروي الكثير من الشعر فلمَ لا تقوله؟ فأجاب: الذي أريده لا يواتيني، والذي يواتيني منه لا أريده. أنا كالمِسنّ، أشحذ ولا أقطع “.
وفي مجموعته الشعرية الأخيرة يجد القارئ نماذج لافتة للنظر. ففي مقام القرين يذكّرنا بما كتبه المرحوم إحسان عباس عن قصيدة لسعدي يوسف تحت موضوع القرين. فالقصيدة “لنبي يقاسمني شقتي”، وهي من ديوان «الأخضر بن يوسف» صورة جيدة لحلم الشاعر في أن يكون له نظير، وهو يخوض في القصيدة صراعاً مع نظيره. لهذا كانت القصيدة في رأي الناقد إحسان عباس جيدة لما فيها من التوتّر بين صوت الشاعر وصوت القرين. وهو توتر يشدّ القارئ. ووجد بعض الدارسين قصيدة كقصيدة سعدي يوسف من حيث توظيف القرين، وهي قصيدة “مرثية الغبار” لشوقي بزيع. وفي “مقام القرين” يفترض العجلوني أنّ له قريناً، وأنهما مختلفان، ويظهر هذا الاختلاف في الجدل بين الاثنين:
هوَ صاحبي وأكادُ أنكرهُ
لما بدا في عمق مرآتي
من أين جئتَ وأيُّ مظلمةٍ
أمضَتْكَ في قهري وإعناتي
قيدتني مذ كنتُ في قرنٍ
ومنعتني أنْ أجتبي ذاتي
وإذا سموْتُ وشاقني أملٌ
أطفأتَ في أفقي عزيماتي
ألزمتني ما ليس أقبله
وبعثتَ في قلبي عِماياتي
بئس القرينُ وبئس ما احتملت
هذي الملامحُ منْ خطيئاتي
وأيًا ما كان أمر شعره، فإن انصرافه إلى الفكر والبحوث والقراءات الفلسفية والمقالات شغله عن العناية بذلك الجانب من آثاره. فهو مشغول بالخطاب القرآني تارة، وتارة بالفكر القومي. وطوراً بالثقافة، وعلاقتها بالحاضر والمستقبل وبالديمقراطية وأنظمة الحكم والسياسة، وطوراً آخر بجدلية العلاقة مع الآخر. وهذا ما أوحى له بمادة الكتاب “نحو حوار مع الأمريكان”. وشغل أيضاً بالصحافة ومقالاتها التي جمع منها كتباً نشرت بعنوان الشذرات. وشغل بأعلام الأدب والفكر والشعر فنشر «كتبٌ وشخصيات» عام (2004) و«شعر وشعراء» (2004) وكتب القصة القصيرة وله منها «الوجوه» 1986 و«من مفكرة رجل يحتضر» 2000.
ومن مظاهر اهتمامه بالصحافة ما نجده في كتابه «في الإعلام ومسؤولية الكلام». أما الفلسفة، فقد صنّف فيها وألّف: قطوف دانية، وصفوة الاعتبار، ومسلمون وصهاينة وأمريكان (2021) وشيء من الفلسفة (2019) والوعي المتمرد (1994) ودفاعا عن العقل (1992).
وإذا كان الأديب العجلوني قد فارقنا جسداً، فإنه باق بيننا روحاً وشعراً وفكراً، رحم الله أبا سلطان وغفر له وعفا عنه ولترقد روحه بسلام.
*ناقد وأكاديمي من الأردن
رحمة الله تعالى عليه وأسكنه فسيح جناته ويلهم أهله وذويه الصبر
رحم الله أستاذنا إبراهيم العجلوني، وبفقده فقدنا عَلَمَاً ومفكراً وشاعراً رائدا، وسلم قلمك أستاذنا الكريم الدكتور إبراهيم خليل
بسم الله الرحمن الرحيم
رحم الله صديقي العزيز الشاعر إبراهيم العجلوني وكل المواساة لأهله وأحبائه.
لقائي الأخير معه حيث دعوته لفنجان قهوة وقال لي عندما قلت له ان أصولي بدوية تركية :في كل مكان تكون فيه الصحراء تجد فيه المروءة! وليس حكرا على الصحراء العربيه.
وشكرا لوفاء الكاتب الصديق د. ابراهيم خليل
[email protected]