رغم أن هناك استقرارا موضوعيا على أهمية الموسيقى التصويرية كعنصر داعم في عملية البناء الدرامي، وأداة تنشيط قوية للإحساس بالمشهد والإيقاع العام للعمل الإبداعي، إلا أن البعض يختلف على مُسمى الموسيقى التصويرية، فهي من وجهة نظرهم ليست سوى مفردة من مفردات العمل، ولا علاقة لها بفكرة التصوير الدرامي، فالدراما حسب آرائهم غنية عن التصوير السمعي، بوجود عناصر أقوى كالتصوير بالكاميرا والمونتاج والإضاءة والديكور وخلافه، فضلاً عن العناصر الأساسية كالسيناريو والحوار والإخراج.
وهذه دعاوى تتعارض مع ما يُسمى بالهارموني، أو الانسجام الضروري بين كل العناصر الفنية المذكورة، وتسعى إلى تهميش العنصر الموسيقي واعتباره مجرد حلية لتزيين العمل الفني فقط، وبالقطع هو توصيف خاطئ وفهم مغلوط لأهمية الموسيقى، كعنصر دلالي حتمي لرفع درجة الإحساس بالمشهد السينمائي أو التلفزيوني. فالجملة الموسيقية ليست هي التنغيم حسب، وإنما يأتي وجودها داخل النسيج الدرامي في معظم الأحيان مُكملاً للمعنى، ومُثرياً للخلفيات غير المرئية كدواعي الحزن والبكاء والأرق والقلق والخوف والحيرة والتردد، أو الحالات الأخرى المُغايرة كالفرح والضحك والعواطف والسخرية، إلى آخر ما يصدر عن الإنسان من ردود أفعال نفسية ووجدانية، ولا تستطيع العناصر التقنية التقليدية توضيحها إلا بإضافة العنصر الموسيقي، الذي يوقظ الشعور الداخلي للمُتلقي فينتبه إلى المُتغير النفسي والسيكولوجي الطارئ على الشخصيات عند تعرضها لموقف ما، إذ لا يغني التمثيل وحده عن التعويض لو افترضنا غياب الموسيقى. وكذلك يستلزم الإحساس بالمشاهد الأخرى المُختلفة كالمُطاردة والجريمة والصدام والأكشن، وجود الموسيقى كعنصر قوي يرفع من درجة الانتباه، ويضع المُتفرج في أجواء الحالة الدرامية، تماماً مثلما يحدث في حالات العلاج بالموسيقى، التي تقوم مبادئها الطبية على خلق مناخ ملائم للمرضى النفسيين للاسترخاء والتكيف وخلافه، حيث التأثير يكون غير مُباشر، لكنه مُعضد لوسائل الاستشفاء التقليدية الأخرى.
وللوقوف على أدلة الاستفادة من الموسيقى التصويرية سنورد بعض النماذج من أهم الأفلام والأعمال الدرامية، التي كان للموسيقى فيها حضور قوي، وأول هذه النماذج فيلم «البريء» الذي وضع موسيقاه التصويرية عمار الشريعي مُعتمداً في لغته على المسحة التراجيدية بوصفها الأنسب للموضوع، حيث أجواء الاعتقال والترهيب والتعذيب، وللتعبير الدقيق عنها لجأ الشريعي إلى أبسط الثيمات فاستخدم إيقاع الكفوف على الجدران للدلالة على رغبة السجين في تحطيم الحواجز التي تفصل بينه وبين الحرية. وفي حالة البطل «أحمد سبع الليل» وهي الشخصية التي جسدها أحمد زكي ببراعة، كان الناي هو نديمه ومؤنسه في عتمة الليل والاغتراب الموحش داخل أسوار المُعتقل، ولم يكن هذا التوظيف من جانب الموسيقار عمار الشريعي إلا إدراكاً جوهرياً لطبيعة الصوت الحزين لآلة الناي، واعترافاً منه بأهمية أن يكون هناك بُعد موسيقي للحالة الدرامية المأساوية.
وفي فيلم «شفيقة ومتولي» اعتمد المخرج علي بدرخان بشكل أساسي على الموسيقى للتعبير عن حالة البطلة سُعاد حسني «شفيقة» التي باعت نفسها للبك جميل راتب مُقابل رفاهيتها وخلاصها من الفقر، وقد لخصت أغنية بانوا ـ بانوا على أصلكم بانوا جُملة ما استهدفته الأحداث لاستبيان فساد السُلطة ووطأة الفقر القاسي على الشخصيات الهامشية من الأجراء والبؤساء والمساكين، بمن فيهم الفتاة الجميلة التي انتُهكت إنسانيتها وصارت لُعبة في يد من يمتلكها من أصحاب النفوذ.
وفي هذا الفيلم تضافر الصوت الشعري لقصائد صلاح جاهين مع الصوت الموسيقي المُميز لفؤاد الظاهري فخلق العنصران ما يشبه الملحمة الشعبية لمأساة شفيقة الإنسانية. وفي فيلم «دعاء الكروان» للمخرج هنري بركات كان لموسيقى أندريه رايدر أثر كبير في تصوير محنة الشقيقتين، هنادي وآمنة اللتين لعبت أدوارهما فاتن حمامة وزهرة العُلا، ففي مشهد قتل هنادي كانت الموسيقى هي الأغنى إبداعياً وإنسانياً، فلم يكن للحوار محل من الإعراب أمام فاجعة القتل. وكذلك حملت مشاهد المراودة والتحدي بين فاتن حمامة وأحمد مظهر الكثير من العمق التعبيري والبلاغي لطبيعة العلاقة الضدية بفضل الموسيقى المُصاحبة والدالة بقوة على الرسالة المعنية الواردة في رواية طه حسين.
وبمقاييس التأثير نفسها برزت أهمية الموسيقى في أفلام أخرى سياسية كفيلم «غروب وشروق» و«الكرنك» و«القاهرة 30 » وغيرها، ولم يقتصر ذلك التأثير على السينما فقط، لكنه شمل الدراما التلفزيونية أيضاً ووضحت سماته في مسلسل «الأيام» للمخرج يحيى العلمي، حيث الموسيقى والألحان والأغاني بصوت علي الحجار لعبت دوراً رئيساً في بلورة السيرة الذاتية لعميد الأدب العربي، وترجمتها على النحو المُقنع وبكل جدارة.
وفي مُسلسل «ليلة القبض على فاطمة» المأخوذ عن قصة الكاتبة سكينة فؤاد، حرص المخرج محمد فاضل على حضور العنصر الموسيقي لأهميته القصوى في مُضاعفة الإحساس بالحدث الدرامي وتفاصيله، فجاءت موسيقى عمار الشريعي مُختلفة في صياغتها عن موسيقى عمر خيرت الذي قام بوضع الموسيقى التصويرية للفيلم، الذي حمل الاسم نفسه، لكن بأبطال آخرين هم شكري سرحان وفاتن حمامة.
النماذج الموثقة للدور الموسيقي الدرامي والسينمائي كثيرة ومُتعددة وتحتاج إلى المزيد من الكتابات والسطور، لكننا سنكتفي بهذا القدر مع التأكيد على وجود موسيقيين كبار مثل، راجح داود ومودي الإمام وياسر عبد الرحمن وآخرين تميزوا وأبدعوا وأضافوا.
كتتب مصري