لا يمكن تغطية المعرض الاستعادي الجماعي المعنون بـ«الواقعية السحرية في جمهورية فايمار الألمانية» الذي ينظّمه التيت غاليري في لندن لأنه يضم 72 لوحة وعملا طباعيا لأربعين فنانا ألمانيا ونمساويا ينتمون إلى تيار الواقعية السحرية، لكنهم لم يجدوا ضيرا في الانتماء إلى حركات فنية أخرى مثل الرمزية، والتعبيرية والموضوعية الجديدة، وما إلى ذلك من مدارس وتيارات فنية معروفة تقترن بألمانيا قبل غيرها من الدول الأوروبية.
ارتأينا أن نسلّط الضوء في هذا المقال النقدي على حركة «الموضوعية الجديدة» Neue Sachlichkeit التي تعني باللغة الألمانية كل ما هو «حقيقي، واقعي، عملي، دقيق وغير متحيّز»، وثمة فرق ضئيل بينها وبين ترجمتها الإنكَليزية New Objectivity . وجدير ذكره أن أول من استحدث هذا المصطلح هو غوستاف فريدريك هارتلوب، مدير متحف مانهايم الذي يقع في القسم الجنوبي الغربي من ألمانيا.
من بين الفنانين الأربعين المشاركين في هذا المعرض الاستعادي هناك أكثر من 15 فنانا ينتمون إلى حركة الموضوعية الجديدة أبرزهم، أوتو ديكس، جورج غروز، ماكس بيكمان، ألبيرت بيركل، رودولف شليختر وجين مامِن، وقد أُدرجت الأعمال الفنية لغالبية أعضاء هذه الحركة في قائمة «الفن المنحّط» حينما وصل أدولف هتلر إلى سُدّة الحكم في يناير/كانون الثاني 1933 حيث صادرت السلطات النازية آلاف الأعمال الفنية، وأحرقت قسما كبيرا منها في الساحات العامة بحجة «تشويه الذوق العام وإهانة مشاعر الشعب الألماني»، كما مَنعت العديد من الفنانين من عرض أعمالهم الفنية مثل، كارل هوبوخ، أدولف أوزارسكي، وأوتو ناغِل، والأغرب من ذلك أن بعضهم قد مُنع من الرسم نهائيا، الأمر الذي دفع بعضهم إلى الهجرة حيث غادر جورج غروز إلى أمريكا وتبنى هناك الأسلوب الرومانسي، فيما ذهب ماكس بيكمان إلى منفاه الاختياري في أمستردام، قبل أن يرحل إلى أمريكا ويقيم في سانت لويس في ولاية ميزوري. وهناك منْ لاذَ بالهجرة الداخلية كي يتوارى عن عيون الغستابو وينجو من بطش النازيين الذين حولوا البلاد إلى جحيم لا يُطاق.
سنختار عددا من الفنانين الذين ينتمون إلى تيّار الموضوعية الجديدة، وأولهم جورج غروز الذي عُرف برسوماته وتخطيطاته الكاريكاتيرية للحياة البرلينية في العشرينيات من القرن الماضي. جُند غروز في الجيش الألماني خلال عامي 1914- 1915 لكنه أمضى السنوات اللاحقة في برلين ورسم فيها لوحات مناهضة للحرب منتقدا فيها الفساد الاجتماعي، الأمر الذي أفضى إلى محاكمته بسبب التجديف وإهانة الجيش الألماني. وفي عام 1932 زار أمريكا وعُين مدرسا في رابطة طلاب الفن في نيويورك، ثم قرر البقاء والعيش هناك، حيث تحوّل إلى رسّام للمناظر الطبيعية والحياة الساكنة. احتضنت الصالة الأولى لوحة «انتحار» التي أنجزها عام 1916 حيث تظهر فيها الكلاب وهي تتجول إلى جانب الجثث الميتة في الشوارع الليلية الحمراء. وفي خلفية اللوحة ثمة رجل كبير السن يرتاد منزلا للمسرات العابرة في إشارة واضحة إلى التحلل الأخلاقي، الذي أصاب المجتمع الألماني في أثناء الحرب العالمية الأولى. وبما أن الصالة الأولى مخصصة لثيمة «السيرك» فحري بنا أن نتوقف عند لوحة «البهلوان شولتس» لألبيرت بيركل الذي وضع اللمسات الأخيرة عليها عام 1921. وعلى الرغم من أن الموضوعية الجديدة جاءت كرد فعل على التعبيرية إلاّ أن المتلقي لا يغفل الانفعالات وعلامات الدهشة المرسومة على وجه البهلوان، وهي إشارة جليّة إلى هيمنة المنحى التعبيري على هذه اللوحة المميزة التي تشدّ انتباه الداخلين إلى هذه الصالة تحديدا. تُحيل هذه اللوحة أيضا إلى الواقعية السحرية الألمانية ومن أبرز خصائصها الاقتصاد في الخطوط، والتركيز على تفاصيل الوجه، والإحساس بالقلق والغرابة.
يعتبر أوتو ديكس من أبرز رسّامي الموضوعية الجديدة إلى جانب جورج غروز، ونظرا لأهمية أعماله الطباعية فقد عُرض له 16 عملا طباعيا يصوّر فيها قساوة الحياة البرلينية ووحشية الحرب. ولم تنجُ أعماله الفنية من وصمة «الفن المنحط» أسوة بغيره من الفنانين الألمان الذين ينتمون إلى الموضوعية الجديدة.
انتمى بعض الفنانين إلى الحزب الشيوعي الألماني الذي سوف يناصبهم هتلر العداء حينما يصل إلى سُدة الحكم، ومن بينهم كونراد فليكسمولر الذي كان في الأصل رساما تعبيريا قبل أن ينتمي إلى حركة الموضوعية الجديدة. تتناول رسوماته غالبا الحقائق الاجتماعية لجمهورية فايمار الألمانية، لكنه أصبح أكثر موضوعية بعد العشرينيات من القرن الماضي. وبسبب تصويره لواقع الحال أدرجت أعماله ضمن قائمة «الفن المنحط» ودمرت العديد من أعماله الفنية، كما قُصف مرسمة في برلين عام 1944، الأمر الذي سبب في ضياع العديد من أعماله الفنية المهمة. تحتفي الصالة الثالثة لهذا المعرض بلوحة «شحّاذ براخاتيتسه» 1924 التي يصور فيها شحّاذا مُنهارا على أحد أرصفة براخاتيتسه التابعة إلى تشيكوسلوفاكيا، الدولة الوليدة آنذاك، ويبدو أن الشحاذ مسكون بذكريات الحرب المروِّعة، وأنّ الشارع المرصوف بالحصى يتعاطف مع هذا الرجل المُنهار.
ينتمي ألكساندر كانولت إلى تيار الواقعية السحرية الألمانية وأحد فناني الموضوعية الجديدة، وقد اشترك في الحرب العالمية الأولى وأمضى في جبهاتها أربع سنوات غير أن لوحات الحياة الجامدة التي رسمها لاحقا تكشف عن تأثره الواضح بأندريه ديران، الرسّام المبدع، صاحب الخطوط اللينة، والألوان الساحرة، كما تعلن عن تبنّيه للأفكار التكعيبية التي يمكن ملاحظتها في العديد من أعماله الفنية. وقد احتفت الصالة الثالثة أيضا بلوحة «كنيسة دير سابن» التي أنجزها الفنان كانولت سنة 1920. كما ضمت الصالة نفسها أكثر من لوحة للفنان كارل غروسبيرغ الذي اشتهر برسم المناظر المدينية والصناعية. وقد جُند في الحرب العالمية الأولى، ثم انتقل إلى أكثر من جبهة، لكنه واجه مصيره المحتوم بحادث سيارة في مدينة شمبانيا الفرنسية.
أشرنا إلى أن بعض الفنانين الألمان الذين ينتمون إلى تيار الواقعية السحرية والموضوعية الجديدة كانوا يهاجرون إلى المنافي العالمية، أو يكتفون بالهجرة الداخلية كي يتفادوا المعتقلات والسجون النازية، ومن بينهم الفنانة الرمزية جين مامِن التي هربت عائلتها إلى باريس عام 1916، وحينما انتقل أبواها إلى أمستردام قررت هي العودة إلى برلين. انغمست جين برسم وتجسيد المرأة الحسيّة، ومع ذلك فإن أعمالها الفنية الأخرى تُقارن بأعمال جورج غروز وأوتو ديكس خاصة ما يتعلق بصور الحياة المدينية. ومن أبرز أعمالها في هذا المعرض هي لوحة «الدُمى المملة».
إذا كان كريستيان شاد وماكس بيكمان، وكارلو مينس قد انشغلوا بالبورتريهات الشخصية فإن هناك من ذهب إلى العُري الباذخ مثل أوتو غريبيل وفرانز رادزيفيل وسواهما لكن هذه الأعمال في مجملها موضوعية، وتتوفر على رزانة، وحدّة بصرية خالية من الميوعة العاطفية. ولا يغرب عن ذهن القارئ الحصيف بأن ثيمات الموضوعية الجديدة تتمحور على الأحداث والوقائع اليومية ولا يجد الفنان حرجا في أن يعالج الموضوعات المتواضعة شرط أن تعيد للفن رصانته السابقة، ونظامه العتيد. لا شك في أن الموضوعية الجديدة تعالج ثيمات واقعية، قابلة للتفسير حتى إن كانت سكونية، وهادئة، ومرسومة على سطح شفاف لا يبقي أثرا لعملية الرسم الانفعالي الذي نجده في أي لوحة تعبيرة منفّذة بعنف الفرشاة التي تغيّر المعالِم الخارجية للفيكَر، وتبالغ في تشويه السطح التصويري للعمل الفني.