على العكس من الدول المتخلفة التي وجد حكامها في جائحة كورونا فرصة ذهبية لزيادة الضرائب والرسوم على مواطنيها، بل والتضحية بأرواح عشرات الآلاف منهم نتيجة إهمال الرعاية الصحية، فقد التزم وزير الخزانة البريطاني ريشي سوناك في الميزانية الجديدة، التي يبدأ العمل بها اعتبارا من الشهر المقبل، باستمرار سياسة التيسير المالي وتقديم المساعدات لقطاعات الأعمال والأفراد، وتمديد العمل بنظام «فيرلو» الذي تتحمل الحكومة بمقتضاه نسبة 80 في المئة من أجور العمال في المنشآت الخاصة، وأجور العاملين لحساب أنفسهم، وتمديد العمل بكافة المزايا الضريبية والمالية الأخرى المرتبطة بتداعيات جائحة كورونا حتى نهاية ايلول/سبتمبر المقبل. كما التزم أيضا بعدم فرض أي ضرائب جديدة، أو زيادة الضرائب على الأفراد أو الشركات حتى نهاية العام المالي القادم 2022 على أن يبدأ بعد ذلك تنفيذ برنامج لسداد الديون المترتبة على برامج المساندة المالية اعتبارا من السنة المالية 2023.
توزيع غير عادل للأعباء
لكن سوناك تجاهل حقيقة أن تداعيات جائحة كورونا لم تسبب أضرارا لكل القطاعات والشركات والأفراد بالتساوي، وأن هناك قطاعات وشركات حققت مكاسب ضخمة من الجائحة، مثل شركات التكنولوجيا المتخصصة في التجارة الإلكترونية، وتسوية المدفوعات أونلاين، وخدمات التوصيل للمنازل، وقطاع الاتصالات، وشبكات تجارة السلع الغذائية. ونظرا لأن الشركات العاملة في هذه القطاعات حققت أرباحا استثنائية، فقد كان من الملائم فرض ضريبة أرباح استثنائية عليها، تستخدم حصلتها في إعانة الشركات الأشد تضررا. كذلك فقد أثيرت في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية قضية فرض ضريبة ثروة على الأغنياء الذين يزيد دخلهم السنوي عن 50 مليون دولار مثلا، واستخدام حصيلة ضريبة الثروة في تمويل العجز المالي الناتج عن برامج مواجهة تداعيات جائحة كورونا، لكن بيان الميزانية لم يتضمن أي إشارة لذلك، ومن ثم فإن عبء سداد فواتير جائحة كورونا لن يتم توزيعه بصورة عادلة.
ومع ذلك فإن برنامج سداد الأموال التي اقترضتها الحكومة لمواجهة تداعيات جائحة كورونا والتي تعادل 17 في المئة من الناتج المحلي، لن يبدأ بفرض أعباء أكثر على غير القادرين أو أصحاب الأعمال الصغيرة، وإنما بزيادة سعر الضريبة على الشركات التي تزيد أرباحها عن 250 ألف جنيه سنويا إلى 25 في المئة، مقابل 19 في المئة حاليا، أي بنسبة زيادة تصل إلى 31.6 في المئة، مع الالتزام في الوقت نفسه بعدم زيادة الضرائب على الشركات الصغيرة التي ستبقى عند 19 في المئة، وكذلك عدم زيادة أعباء الأسر الفقيرة وذوي الدخل المحدود، مع استمرار دعم فرص النمو وتمويل حزمة لتنشيط الاستهلاك والإنتاج تمتد لمدة عامين، وتقديم حوافز قوية للتحول من اقتصاد صناعي تقليدي إلى اقتصاد يعتمد على التكنولوجيا الرقمية، ويحركه النمو المتوافق مع البيئة، الذي يوفر فرص العمل والرفاهية للأغلبية العظمى. ومن المتوقع أن تدر الزيادة على ضريبة الشركات دخلا إضافيا للخزانة يقدر بحوالي 17 مليار جنيه سنويا.
قصور التدابير الاجتماعية
لكن استقبال مشروع الميزانية الذي تؤيده أغلبية المحافظين في مجلس العموم، كان متفاوتا بين الهجوم من جانب أحزاب العمال والقومي الأسكتلندي والأحرار الديمقراطيين، وبين الترحيب من جانب عدد كبير من قطاعات الأعمال ومراكز الدراسات المالية. ومع ذلك فقد اتفق الجميع على توجيه انتقادات حادة لوزير الخزانة ريشي سوناك بسبب القصور في التعامل مع الجوانب الاجتماعية للأزمة الاقتصادية الراهنة، التي انكمش فيها الاقتصاد بنسبة 10 في المئة، وارتفع فيها معدل البطالة إلى 6.5 في المئة، وزادت حدة الفقر والحرمان الاقتصادي. وأشار هؤلاء، وخصوصا كير ستارمر زعيم حزب العمال إلى غياب رؤية شاملة لعلاج التفاوت الاجتماعي، الذي اتسع كثيرا خلال العام الماضي، بسبب تفاوت تأثير تداعيات كورونا على المتعلمين وغير المتعلمين، وعلى الأغنياء والفقراء، وعلى كبار السن والشباب في سن العمل، كما تفاوت تأثير التداعيات أيضا على المواطنين من البيض، وغيرهم من الأقليات المختلفة. وحذر ستارمر من أن الحكومة ستلجأ إلى الاقتطاع من ميزانية الرعاية الصحية بدعوى أنه تمت السيطرة على الفيروس، خصوصا بعدما تبين أنها أوصت بزيادة مرتبات العاملين في الرعاية الصحية، بمن فيهم الممرضين، بنسبة واحد في المئة، بدلا من توقعات بنسبة 5 في المئة، الأمر الذي أثار غضبا كبيرا بينهم.
ومن الإجراءات التي تعرضت لانتقادات شديدة أيضا، الإعلان عن تجميد حدود الاعفاء الضريبي اعتبارا من الشهر المقبل، والسماح للبلديات بزيادة الضريبة على المساكن بنسبة 5 في المئة، وإلغاء الزيادة في الدعم النقدي للأسر المحدودة الدخل البالغة 20 جنيها أسبوعيا، وإنهاء العمل بنظام دعم أجور العاملين في القطاع الخاص المعرضين لخسارة وظائفهم والمعروف بنظام «فيرلو» الذي تتحمل فيه الدولة 80 في المئة من الأجر، اعتبارا من أول تشرين الأول/أكتوبر المقبل. كما تعرض وزير الخزانة للانتقاد من جانب المحافظين التقليديين من داخل حزبه، بسبب إعلانه عن زيادة الضريبة على الشركات، وتجميد حدود شريحة الدخل المعفاة من الضريبة، التي كان يتم زيادتها سنويا تقريبا لمواجهة الزيادة في تكاليف المعيشة، وهو ما أثار ضجة أيديولوجية صاخبة حول مدى التزام سوناك بأحد أركان السياسة المالية للمحافظين، وهو تخفيض الضرائب، خصوصا بعد بريكست. لكن الوزير رد على منتقديه بحجتين، الأولى أنه يواجه ظرفا لم يواجهه أي وزير خزانة سابق، والثانية انه يقدم في الميزانية حوافز ضريبة ضخمة تصل إلى خصم ما يصل إلى 130 في المئة من قيمة الانفاق على الاستثمارات الجديدة من الوعاء الضريبي للشركات، وهو ما يشجع على التوسع والاستثمار وزيادة القدرة على المنافسة.
حوافز لتنشيط السوق
وطبقا لبيان الميزانية فإن أهم إجراءات المساندة المالية لمساعدة المواطنين وقطاعات الأعمال لتحمل تداعيات كورونا والإغلاق الاقتصادي تتضمن زيادة الحد الأدنى للأجور إلى 8.91 جنيه استرليني في الساعة، وتقديم منح مجانية للتدريب، وإعطاء دفعة كبيرة لقطاع العقارات، بالاستمرار في وقف ضريبة الدمغة على التصرفات العقارية حتى نهاية ايلول/سبتمبر، وتوجيه البنوك لتمويل القروض العقارية بنسبة تصل إلى 95 في المئة من ثمن العقار حتى 600 ألف جنيه استرليني، بضمان من الحكومة، ومن ثم مساعدة المشترين للمرة الأولى على دخول سوق العقارات بنسبة مقدمة من الثمن تبلغ 5 في المئة فقط. كما تضمنت إجراءات المساعدة تمديد وقف تحصيل الضرائب على العقارات التجارية، والاستمرار في تخفيض ضريبة القيمة المضافة على المطاعم والفنادق والمنشآت السياحية، وعدم زيادة الرسوم على المشروبات الكحولية، وعدم زيادة ضرائب وقود السيارات. وتقدر وزارة الخزانة أن تكلفة مواجهة تداعيات مرض كورونا ستتجاوز 407 مليارات جنيه الاسترليني منذ بدء الجائحة حتى نهاية العام المالي المقبل. تم توجيهها لتنشيط الاقتصاد والمحافظة على الوظائف ودعم العاملين لحساب أنفسهم، واعانات الدخل للأسر الفقيرة، ومساعدة قطاع الأعمال من خلال تأجيل تحصيل الضرائب وتخفيضها، وتعزيز الاستثمارات في مجال البحوث والتطوير في صناعة الأدوية من أجل إنتاج لقاح للوقاية من المرض، وزيادة عدد المستشفيات والممرضين. ويطالب بعض قيادات الأعمال بتمديد العمل بنظام «فيرلو» حتى نهاية العام على الأقل، مع توسيعه ليشمل عناصر أخرى للتكاليف غير أجور العمل، مثل الإيجارات وضرائب البلديات.
ويؤكد معهد الدراسات المالية أن الإجراءات الواردة في الميزانية، للوقاية من التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا وتنشيط الاقتصاد لن تكون كافية، وأن وزير الخزانة سيلجأ بالضرورة إلى الاقتطاع من ميزانيات أجهزة حكومية من أجل تغطية الاحتياجات. وذكر بول جونسون مدير المعهد أن الحكومة وقعت في خطأ التهوين من شأن تكاليف خطة الانعاش الاقتصادي في العام الماضي، عندما رصدت لذلك 12 مليار جنيه استرليني فقط، وهو ما يقل عن 5 في المئة من قيمة التمويل الضروري. ومن ثم فقد اضطرت إلى تقديم حزم تمويل أخرى متتالية. كما يقدر مكتب الميزانية أن الاقتصاد لن يعود إلى ما كان عليه قبل الجائحة قبل منتصف العام المقبل، وليس في صيف العام الحالي كما تتوقع الحكومة. ويقدر سوناك أن معدل النمو المتوقع للعام الحالي سيبلغ 4 في المئة، ثم يرتفع إلى 7.3 في المئة في العام التالي، وهو ما يبرر التخلي عن إجراءات المساندة المالية في نهاية ايلول/سبتمبر، مع الاستمرار في تمويل إنعاش الاقتصاد حتى بداية العام التالي.
وقد أشار بعض قيادات الأعمال إلى أن افتراض سوناك بعودة الاقتصاد إلى التعافي في منتصف العام الحالي سيظل خاضعا للاختبار حتى يتحقق بالفعل. لكن بعض الصناعات ستظل تعاني من تداعيات كورونا لفترة أطول مثل صناعات محركات ومكونات الطائرات وقطاع السياحة والفنادق، التي ستحتاج على الأرجح إلى مساعدات ممتدة حتى يتعافى الاقتصاد تماما، وهو ما قد يجبر وزير الخزانة على فرض ضرائب وتخفيض الإنفاق العام أو زيادة الاقتراض.
بنك للتنمية التكنولوجية
وتتضمن الميزانية أفكارا جديدة في بريطانيا، وإن كان بعضها قد أخذت به بلدان أخرى مثل إنشاء الموانئ الحرة، التي تتمتع بمزايا جمركية وضريبية وتأمينية تختلف عن النظم المعمول بها، في مقابل توجيه أنشطتها الصناعية والخدمية للتصدير، وهي تجربة طبقتها سنغافورة والصين من قبل. وقد تم اختيار 8 مناطق في أقاليم مختلفة من المملكة المتحدة لتطبيق هذا النظام منها ليفربول في شمال غرب انكلترا، وساوثهامبتون في الجنوب الغربي، وتي سايد في الشمال الشرقي. ومن المتوقع أن تسهم الموانئ الحرة في زيادة فرص العمل ورفع معدل النمو وإدخال صناعات جديدة تحل محل الصناعات القديمة المتهالكة. كما عرض ريشي سوناك في الميزانية عددا من الحوافز لزيادة الاستثمارات وبرامج زيادة مهارات العمالة خصوصا في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة. وأبدى اهتماما كبيرا في تنمية مدن شمال انكلترا أو ما يطلق عليها سياسا «منطقة الحزام الأحمر» وهي المنطقة التي اقتحمها حزب المحافظين في الانتخابات العامة الأخيرة، للمرة الأولى بعد أن كانت تاريخيا معقلا لحزب العمال. وفي هذا السياق فقد تعرض سوناك لاتهامات قوية بأنه يستخدم الميزانية لتحقيق منافع سياسية لحزبه تتضمن محاباة المدن والبلديات التي يسيطر عليها المحافظون. كما أعلن وزير الخزانة أن الحكومة قررت إنشاء بنك متخصص لتمويل مشروعات البنية الأساسية التكنولوجية برأسمال يبلغ 12 مليار جنيه استرليني، وبقدرة تمويلية تصل إلى 40 مليار جنيه، وذلك لتمويل مشروعات جديدة في قطاع الطاقة الخضراء مثل إنتاج توربينات توليد الطاقة من الرياح، والمشاريع الكبرى في مجالات الألياف الضوئية وتكنولوجيا المعلومات والكمبيوتر وغيرها. وقال سوناك أنه لن يتوقف عن زيادة الاقتراض الحكومي في العامين الحالي والقادم، مع العمل على تخفيض نسبة الزيادة سنويا حتى لا يتجاوز الدين العام نسبة 97.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2023/2024. وذكر في بيان الميزانية أن تكلفة الدين العام تعتبر منخفضة حاليا نظرا للانخفاض التاريخي لأسعار الفائدة، لكن ذلك لا يجب أن يكون إغراءا للتوسع في الاقتراض، لأن كل زيادة في أسعار الفائدة بنسبة واحد في المئة ستكلف الخزانة العامة 25 مليار جنيه استرليني.