المَكان الذي نطل منه على الكون

من أفكار اللسانيات الحديثة العرفانية، أننا حين نتحدث عن وضعية من الوضعيات أو حين نصف شيئا أو حدثا أو واقعة، فنحن لا نصفها بشكل متطابق، بل علينا أن نختلف كثيرا أو قليلا في وصفها. يسمي Langacker هذا بزاوية النظر، ويعني به أننا نبني الأكوان من وجهات نظر مختلفة تختلف باختلاف البعد أو القرب من الوضعية الموصوفة، أو باختلاف نقلها نقلا ذاتيا أو موضوعيا. من الأفكار التي تطرح في هذا السياق، فكرة المُطلَع أي المكان الذي نطل منه على الحدث الذي نصفه ونطلع عليه منه.
عام 2008 أنتج فيلم يحمل عنوانه الأصلي Vantage Point أي المُطلَع للمخرج البريطاني بيتي ترافيس تدور القصة حول محاولة لاغتيال رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في سالامانكا في إسبانيا، ويتداول على رواية الحدث شهود عيان اطلعوا على محاولة الاغتيال من أماكن مختلفة، هم الذين وجدوا هناك لأسباب مختلفة وسرد الحدث سردا مختلفا، يضيف كل مرة تفاصيل ويغيّب أخرى، يفهم المشاهد أن غيابها أو حضورها نابع من اختلاف المطلع على الأحداث.
ما يحدث في هذا الفيلم هو عينة مما تعنيه اللسانيات العرفانية بالمطلع، فهو فيها آلية في بناء الموضوع في الخطاب. ذلك أن أي خطاب يبنيه المتكلم من زاوية نظر قد يكون الغرض منها التأثير في المستمع. ومثلما بينا مع الفيلم السابق، فمن الممكن أن تكون وجهة النظر آلية لدراسة السرد، وتكون بالتحديد شكلا من بناء الأحداث بناء ذاتيا. ويمكن أن تردّ اختلافات وجهات النظر إلى تأثير أجسادنا في إدراكنا للأحداث والأكوان؛ فوضعية الجسد من خلال موضع الرؤية هي التي تجعلنا نرى من الكون جزءا ويخفى عنا آخر. فحين تباع، على سبيل المثال، سيارة بثمن معين، فمن الممكن أن نبني هذه الوضعية من وجهات نظر مختلفة، كأن نقول مثلا (اشترى زيد سيارة بثمن معقول) أو (باع زيد السيارة بثمن معقول)؛ فالفرق بين وجهتي النظر يكمن في حكمنا على الحدث من وجهتي نظر (البيع والشراء) وفي رؤيتنا لمعقولية الثمن، إذ يعني المعقول أن من باع، باع بثمن باهظ، ومن اشترى اشترى بثمن باهظ. فالمطلع هو المكان الذي يطلع منه المتكلم ذهنيا على الوضعية أو على الحدث. وهذا يعني أن المطلع هنا لا يرتبط بعين ترى ولسان يصف، بل بذهن يعالج ما يراه البصر في التجارب الحسية والوضعيات ذات المرجعية الواقعية، أو تدركه البصيرة في المسائل المتعلقة ببناء الوضعيات الفكرية المعقدة أو المجردة.
نريد أن نشير ههنا إلى أن لمسألة المطلع قيمة في حملنا على رؤية الوضعيات والأفكار، كما يريدنا الآخرون أن نراها، ونحن أيضا نمارس الأمر نفسه مع الآخرين، فنحن لا ندرك في بناء الأكوان الفعلية أو المجردة، إلا ما يُراد لنا أن ندركه، ونحن لا نستثني في هذا السياق بناء الحقائق العلمية. فهذه الحقائق ليست إلا وجهة نظر علمية في وقتها، ستتغير بتغير الزمان وملابسات العلم، ولا يمكن أن تكون ثابتة على مرّ العصور، ولذلك تحدث الثورات العلمية وتعدل النظريات وتجد العلوم نفسها إزاء عوائق أبستيمية تدفعها إلى التحديث العلمي، بتغيير وجهات النظر إلى الظواهر المدروسة.

يقول جون كينيث وايت عالم السياسة ومحرر كتاب «الحلم الأمريكي في القرن الحادي والعشرين» «إذا نظرت إلى ثلاث قيم أساسية تدعم الحلم الأمريكي، فهي حقًا الحرية وحقوق الفرد – التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بذلك – وتكافؤ الفرص».

يمكن أن تعتمد فكرة المطلع في دراسة الأقوال أو الخطابات دراسة مقارنة، وهذا ما سنعمد إليه، ونحن نتحدث عن جملة صار لها تاريخ سياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت مع مارتن لوثر كينغ، وظلت فعالة في التفكير السياسي الأمريكي في عهد باراك أوباما، حين قال مارتن لوثر كينغ (أنا لي حلم) في خطابه عام 1963 أمام زهاء ربع مليون من المتظاهرين، كان يطلع على الحلم من مطلع فريد هو تحرير بني جلدته من ربقة العبودية. لو قال أريد أن تتحرروا، أو أريد أن أحرركم، لكان ينظر إلى التحرير من مُطلع آخر. كان سينظر إلى الأحداث من كوة الحقيقة، لكنه أراد أن يطل على التحرير من كوة الحلم، الذي يكون على مشارف الإمكان والاستحالة، ولا يمكن أن يقترب الممكن إلا إذا كان هناك عمل دؤوب ووعي بأن الحلم ممكن التحقيق.
الشاعرة الأمريكية من أصل أفريقي مايا أنجلو، أعادت في السبعينيات العبارة في قصيدة لها عنوانها «ما زلت أشرق» فقالت في سطر من أسطرها: «أنا حلم العبد وأمله» أطلت الشاعرة على حلم التحرر من كوة أخرى، لقد جعلت من نفسها الحلم ولم تجعل الحلم شيئا من ملكياتها، أو من رغباتها. هي تعبر عن المعنى نفسه، وهو تحرر الرجل الأسود من هذا الميز المتعدد الجوانب. هي ولوثر كينغ تحدثا عن الموضوع نفسه، ونقلا الوضعية نفسها وبنيا الكون نفسه، لكن لوثر كينغ كان في مطلع يجعله يفصل نفسه عن الحلم، ويجعل الحلم موضوع رغبة؛ فبين الذات المخاطبة والموضوع مسافة بعيدة لا يمكن أن تتحقق إلا بالاقتراب منها بالعمل. فإن تطلع من بعيد على حلمك فذلك يعني أن بينك وبينه مسافات فاصلة، وعليك أن تسير إليه كي تحققه. لكن أن تكون أنت الحلم مثلما هو الأمر في قصيدة الشاعرة الأمريكية، فذلك يعني اتحادا بين الذات والموضوع، وأن الاطلاع على الحرية بما هي حلم لا يمكن أن يكون شيئا منفصلا عن الاطلاع على الذات نفسها. الحلم هو نحن وليس الحلم ما هو ماثل فينا؛ والاطلاع علينا هو الاطلاع على الحلم مرآنا يعني مرآى الحلم نفسه.
عام 2013 وبعد خمسين سنة من خطاب لوثر كينغ، وفي المكان نفسه الذي قال فيه كلمته، ألقى باراك أوباما خطاب حملته الرئاسية، وكان شعارها أنا الحلم. صار الحلم متحققا فلم يتحرر الرجل الأسود من ربق العبودية، بل صار في الإمكان أن يصبح هو الرئيس على جميع الأمريكيين من جميع الألوان والأعراق والديانات. أن تكون أنت الرئيس، فذلك موضع تطل منه على الكون، وأن تكون أنت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية فذلك موضع آخر تطل منه على الكون، وأن تكون أنت الرئيس وأنت الحلم، ففي ذلك اختلاف كبير في تغير الوضعية التي كان يطل منها لوثر كينغ منذ خمسين عاما على الحقيقة. يستطيع شاعر أن يكون مع حلمه متحدين، لكن التحقيق يظل بعيد المنال وليس أن يكون الفاعل الرئيس متماهيا مع ما يريد عندها سيكون التحقيق واقعا كفلق الفجر. الحلم الأمريكي صار في حديث أوباما أكثر من أن يصبح شخص من أصل افريقي رئيسا، صار مشروعا أمريكيا متكاملا في الاقتصاد والثقافة والسياسة، وصار الجمهوريون يتحدثون عن هذا الحلم، وهنا تتغير مرة أخرى الوضعية التي يطلع منها على الموضوع، إذ تصبح رؤية من بوابة حزبية فيها تصور لرؤية سياسية شاملة تميز حزبا عن آخر.
يقول جون كينيث وايت عالم السياسة ومحرر كتاب «الحلم الأمريكي في القرن الحادي والعشرين» «إذا نظرت إلى ثلاث قيم أساسية تدعم الحلم الأمريكي، فهي حقًا الحرية وحقوق الفرد – التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بذلك – وتكافؤ الفرص». ويقول أوباما إن الحفاظ على هذا الحلم يتطلب موازنة بين المصلحة الذاتية والمجتمع.
المطلع هو بوابة نرى منها الأفكار التي نحلم بها، ولذلك يبنيها كل واحد منا بالشكل الذي يراها بعيدة أو قريبة اختيارية أو قدرية.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية