كيف السبيل إلى ممارسة السوسيولوجيا اليوم؟ هذا هو السؤال الذي يُحاول كتاب «ممارسة السوسيولوجيا» لسيرج بوغام، الإجابة عنه. للإجابة عن هذا السؤال يفترض بوغام، أن أي محاولة لتعريف السوسيولوجيا بشكل توافقي، من خلال الممارسة البحثية لعُلماء الاجتماع أنفسهم، أيْ من خلال الموضوع، وليس من خارجها كما نألفه في التعريفات القاموسية والمُعجمية. ليخلص إلى أن الموضوع الأساسي لعِلم الاجتماع هو الإنسان الاجتماعي بعامة والرابطة الاجتماعية بصفة خاصة، وعليه يمكن تعريف السوسيولوجيا باعتبارها علماً للروابط الاجتماعية.
وصولاً إلى الجواب عن سؤاله المركزي بالقول: ليس هناك من سبيل لحرفة السوسيولوجيا إلا المَوْضَعَة. انطلاقاً من بناء الموضوع وتحديد الفرضيات، إلى رصد البيانات وتحليل النتائج. مع التركيز على اختيار الموضوع، اختيار موضوع البحث باعتباره أول خطوة من خطوات الموضعة وأهمها، فبه يكون فعل التباعد المنهجي ممكناً، وما يتطلبه ذلك من قطع مع الأفكار المسبقة بما هي عائق إبيستيمولوجي أمام بناء معرفة سوسيولوجية موضوعية. على أنْ يكون ذلك مرهوناً بعملية الأشكلة، التي لا مندوحة عنها في أي ممارسة علمية.
الممارسة السوسيولوجية
لكن ذلك لم يمنع صاحب الكتاب من القول بمحدودية الموضعة في الممارسة السوسيولوجية، وإذا كانت الموضعة أولى مراحل الممارسة البحثية في علم الاجتماع فإنه حري بعُلماء الاجتماع أخذ موقف نقدي تجاهها والوعي بحدودها الموضوعية. وهنا تأتي ضرورة ما يُسميه بيير بورديو بالانعكاسية العِلمية، أيْ موضعة الذات المُمَوْضِعة، ذات عالِم الاجتماع.
بعد هذا التحليل المكثف، يحق لنا أنْ نتساءل أولاً: أين هو الجديد في التعريف الذي قدمه سيرج بوغام للسوسيولوجيا؟ أولم يقدم لنا هو الآخر تعريفاً قاموسياً لعلم الاجتماع؟ ثم كيف يمكننا تقديم تعريف شامل وتوافقي لممارسة سوسيولوجية متنوعة ومتغيرة بتغير واختلاف الذوات والموضوعات، المناهج والأدوات، المفاهيم والنظريات، الإبدالات والمقولات، المدارس والاتجاهات؟
في نهاية المطاف ليس هناك تعريف نهائي للسوسيولوجيا، ولو كان من داخل الممارسة السوسيولوجية عينها. إن أي محاولة من هذا القبيل ستسقطنا في نوع من التناقض مع سيرورة الممارسة السوسيولوجية كما وقع في ذلك صاحب المؤلف المعني. فكل ما يُمكننا تقديمه بهذا الخصوص هو تعريفات إجرائية ومؤقتة، تتغير بتغير الممارسة السوسيولوجية التي تتعالق جدلياً بتغيرات الممارسة الاجتماعية.
أما عن التساؤل الثاني فهو يتعلق بفكرة الموضعة السوسيولوجية بما هي سبيل لممارسة حِرفة السوسيولوجيا: وإنْ كنا لا نختلف مع فكرة الموضعة في حد ذاتها كعملية مركزية في أي بحث علمي، كما نقر باعتراف بوغام بمحدوديتها، فإننا نتساءل عن إمكانيتها الأبيستيمولوجية في الحقل السوسيولوجي. نقول إنها عملية ممكنة، لكن بأي معنى؟
«الحس المشترك»
طبعاً ليس بالمعنى الوضعي المقنع الذي ساقه الكتاب موضوع القراءة. وإنْ كان صاحبه قد استند إلى أطروحات معاصرة نسبياً، كما هو شأن أطروحة بورديو، فإنه ظل سجيناً للنظرية الوضعية، بل إنه كان وضعياً أكثر من النزعة الوضعية نفسها. خاصة عندما يتعلق الأمر باختزال الموضوعية السوسيولوجية في المرور من «الحس المشترك» إلى «الحس العلمي» وما يفرضه ذلك من قطيعة وضعانية بينهما.
وعلى هذا النحو يمكن القول: إن المَوْضَعَة السوسيولوجية الممكنة هي مجاوزة الموضعة الوضعية المتطرفة، من خلال إعادة النظر في علاقة الذات العارفة بموضوع المعرفة، والذهاب بها من الانفصال إلى الجدلية والاتصال.
هنا بالضبط تكمن الأصالة الأنثروبولوجية في عملية الموضعة، أيْ التعامل مع الذات والموضوع كعلاقة متوترة بشكل مستمر، بين الذاتي والموضوعي، بين الداخلي والخارجي.
ومن هذا المنطلق تأتي الحاجة الملحة إلى ممارسة السوسيولوجيا الانعكاسية بما هي مَوْضعة للشروط الاجتماعية للموضعة بما فيها الذات المُمَوْضِعَة عينها، ذات عالِم الاجتماع والحالة هذه، على غرار الأنثروبولوجيا الانعكاسية.
كاتب مغربي