الناقد الجزائري لونيس بن علي: الرواية العربية ما زالت تبحث عن شرعية الكلام الحر

حاورته: فريدة حسين
حجم الخط
0

يعرف الناقد الجزائري لونيس بن علي كيف يمازج بين العمل الأكاديمي والأدبي والنقدي والثقافي، فهو الذي وعى مبكرا أزمة النخب الجامعية في الجزائر، فارتأى الانخراط في النقاش الثقافي العام، إدراكا منه بأن الأكاديمية مجرد سجن أيديولوجي خطير، والحياد باسم النزعة الأكاديمية ترحيل للعقل خارج العالم، وأن النخب الجامعية لم تعد تمتلك موقفا، وهو المقتنع بأن العقل الذي لا ينتج موقفا هو مجرد ثلاجة لحفظ الجثث، لذلك يؤكد بن علي على أهمية الكتابة بكل أشكالها، فحتى الصمت فيها يعتبره كتابة مضاعفة، مع إصراره على اعتبار الفلسفة معقلا من معاقل المقاومة، وخطابا يُبقي على شرعية طرح الأسئلة ووحدها القادرة على إحداث اليقظة اللازمة، دون أن يغفل دور الرواية التي تقدم وعيا مضادا عن الحقيقة التي يعرفها الجميع، وكذلك الناقد الذي يملك – حسب بن علي – عقلا جنائيا يبحث عن الأجوبة.
بين طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة يقرّ الكاتب لونيس بن علي بالالتباس بين الأدب والسياسة، ويؤكد أن الكلام الأدبي لا يخلو من السياسة، والحديث عنها هو أن تتخذ الكتابة موقفا ما من العالم، منتقدا تحكّم ثقافة الصمت في المجتمعات العربية باعتبارها اللغة الوحيدة التي تتقنها شعوبها. وفي هذا السياق، أكد بن علي نجاح الرواية الجزائرية في طرح الأسئلة الموجعة، لكنه تساءل هل تهيأت الظروف لتقبّلها، في المقابل يرى أن الرواية العربية ما زالت تبحث عن شرعية الكلام الحر.
في هذا الحوار مع «القدس العربي» يسترسل الناقد لونيس بن علي في الإجابات على الأسئلة لتقريب المعاني وتشريح الوقائع وتقديم التفاصيل حول الأدب، والنقد، والرواية وغيرها.

□ في ظل هيمنة الثقافة الاستهلاكية، يجزم النقاد بأنه ليس أمام الإنسان المعاصر إلا الفلسفة للاحتماء من مشاريع تدجين الوعي واستعباد العقل. هل هذا الذي ناديت به في كتابك «كتابات على جدار الفلسفة»؟
■ الفلسفةُ اليومُ هي معقل من معاقل المقاومة إلى جانب الفنّ ضد أجهزة تدجين العقل؛ في هذه الأزمنة السائلة، صار الإنسان مُهددا في فرادته وفي خصوصيته، وليس هناك ما هو أخطر على الوعي من العبودية المُختارة والناعمة، التي ألقت بالإنسان داخل بلورة زجاجية، متوهما أنه يقبض على العالم، في حين أنّه يعيش عزلة لا نظير لها. الفلسفة اليوم، هي الخطاب الذي يبقي على شرعية طرح الأسئلة وإضرام نيران الارتياب في الإنسان؛ وعود الحداثة والعولمة والتطور العلمي والتقني، ليست إلاّ طريقة لاستدراج الوعي نحو سبات طويل الأمد، ووحدها الفلسفة قادرة على إحداث اليقظة اللازمة.

□ تميل إلى الروايات التي تتّخذ حياة الكتّاب أو الفلاسفة موضوعا للسردِ، ما الذي يستهويك في هذا النوع من الكتابة؟
■ بما أنّي أميل أيضا إلى البعد المعرفي في الرواية؛ فالرواية ليست مجرد سرد طويل لأحداث متخيلة تحركها شخصيات لا توجد إلا في هذيانات الروائيين؛ بل على العكس من ذلك تماما، وأنا أؤمن أن داخل كل رواية يمكن العثور على حقيقة ما، في شكل معرفة. والمعرفة التي تقدمها الرواية أحيانا تنتمي إلى تلك المعرفة الهامشية والمقصاة أو المستبعدة، وقد تقدم وعيا مضادا عن الحقيقة التي يعرفها الجميع. اهتمامي بهذه الروايات نابع من رغبتي في معرفة ما لا أعرفه عن هذه الشخصيات الفلسفية. مؤخرا شرعت في قراءة رواية عن رولان بارت بعنوان «الوظيفة السابعة للغة»؛ فأنا بصدد اكتشاف بارت لا أعرفه.

□ يقال إنك أنزلت الأدب إلى عامة النّاس، فوضعته في مكانه الصحيح، ما الذي دفعك للتخلي عن البرج العاجي الأكاديمي؟ وهل احتضنك الناس في فضائهم العام؟
■ شخصيا، وقبل ظهور فيسبوك كنت أساهم بمقالات في نقد الرواية والثقافة في الصحافة المكتوبة، بعد أو وعيتُ بأنّ الانتماء إلى الجامعة لا يمنعني من الانخراط في النقاش الثقافي العام. إلى اليوم، ما زلتُ أؤمن بأنّ الأكاديمية مجرد سجن أيديولوجي خطير، لأنّ الحياد باسم النزعة الأكاديمية هو ترحيل للعقل خارج العالم، وبذلك أتساءل: ما فائدة الكتابة عن البراديغمات في وقت نعجز عن كتابة جملة بسيطة وواضحة تقول الواقع وتبني موقفا. لقد وصلنا، للأسف، إلى أن النخب الجامعية اليوم لم تعد تمتلك موقفا ما. فالعقل الذي لا ينتج موقفا هو مجرد ثلاجة لحفظ الجثث.

□ ترى فرجينيا وولف «إن قراءة الرواية فن صعب ومعقد جدا. يجب أن لا تحوي قدرا كبيرا من الإدراك فقط، بل خيالا جموحا وجريئا». من وجهة نظر النقد، كما الكتابة فنٌ القراءة أيضا فنٌ. برأيك، ما هي عتبة الاختلاف بين فني الكتابة والقراءة؟
■ لا تستطيع قراءة الرواية، إلا إذا كنتَ تفهم الروايةَ من الدّاخل، وفهمها من الداخل لا علاقة له بمدى امتلاكك لأدوات التحليل النظري، بل يتعلق الأمر بما تمتلكه من قابلية على التخييل والتذوق. إننا نتعامل في الأخير مع مجال ينتمي إلى الحساسية الجمالية؛ قراءة رواية هي قراءة عمل فني لا ينتمي إلى الخطاب العقلي أو التجريبي أو الميتافيزيقي، لذا تستدعي أدوات خاصة، لعل أهمها التخييل. التخييل جزء من عملية تأويل الرواية، لأن الرواية نفسها تؤول العالم من خلال تخييله. يطرح في عالم التحري عن الجرائم سؤال جنائي كبير: من هو القاتل؟ ويُطرح في فضاء النقد الأدبي ثلاثة أسئلة كبيرة: من هو الكاتب؟ من هو القارئ؟ وما العلاقة بينهما؟ كناقد، ما هي إجاباتك؟ كتبتُ مرّة بأنّ وظيفة الناقد تشبه وظيفة المتحري؛ وما يجمعهما هو البحث عن حقيقة غائبة من خلال القراءة الذكية للعلامات والإشارات الظاهرة والخفية. يمتلك الناقد هذا العقل الجنائي، من جهة أنه بمجرد أن يدخل في رواية ما فهو بطريقة ما سيتورط في عملية بحث مستعصية عن أجوبة لأسئلة الرواية ولأسئلته هو. الروايات لا تفصح عن الحقيقة، إنها تعرف جيدا كيف تخفي الجثث عن الأنظار.

□ القارئ، أمام نصوصه، حر تماما في أن يحلم. هل هذا يعني صدق مقولة موت المؤلف في حضرة القارئ؟ أم أن للكاتب دورا بشكل أو بآخر في رسم فضاء الحرية لقارئه؟
■ لا أؤمن تماما بموت المؤلف. المؤلف حاضر في نصوصه. النص ليس كيانا عاقلا ولا ذاتا تمتلك إرادة ما. لا أحب التعامل مع المؤلف كمفهوم تقني، ما زلتُ أؤمن بحضوره بوصفه ذاتاً تنتمي إلى العالم، وتتفاعل معه، وعبر ذلك التفاعل أنتج نصوصه. الذين ما زالوا إلى اليوم ينادون بموت المؤلف، هم عصبة من الذين ما زالوا يظنون أنّ النص هو العالم. في حين أن اختزال العالم في نص هو استهتار حقيقي.

□ قال الكاتب النرويجي جون فوس في مقابلة صحافية مؤخرا: الأهم في مسرحي ما يتم التعبير عنه من خلال الصمت النشيط. في رأيك، كيف يمكن للكاتب توظيف الصمت في نصه لتنشيط قارئه؟
■ الكتابة ككل، هي توتر بين الصوت والصمت، بين التجلي والخفاء، بين البناء والمحو. بالنسبة لي، كثيرا ما أبحث عن المعنى في ما لم يقله الكاتب، أي في تلك المساحات البيضاء التي يتركها في شكل حقائق ناقصة أو جزئية. الصمت في الكتابة هو كتابة مضاعفة.

□ كتبت في منشور عبر صفحتك على فيسبوك: «الكتابة، في أعراف بن تومي، هي الخروج من دائرة الخوف؛ خوفه الشخصي، والخوف المعمّم الذي أصبح ثقافة ترسم الحدود بين الكلام والصمت» هل من الممكن تقديم توضيح أكثر لـ«ثقافة الخوف المعمّم»؟ وكيف تؤثر هذه الثقافة على جودة الكتابة؟
■ نحن ننتمي إلى مجتمعات جعلت من الصمت محمدة. الكلام هو الاستثناء، في حين أن الصمت هو اللغة الوحيدة التي نتشبث بها حتى ننجو من شيء ما. تحكمنا للأسف ثقافة، أن الصمت من ذهب، وأن الذي لا يتكلم هو الذي تقل أخطاؤه. سياسيا، الصمت هو اللغة الوحيدة التي تتقنها هذه الشعوب. أما الكلام فهو أقصر الطرق إلى المشنقة.

□ قال الكاتب النيكاراغوي سيرخيو راميريث: «إنّ الموضوعات النبيلة في الأدب هي الحب والجنون والموت والسلطة، لكن الأهم هو السلطة، وفي نظري فإنّ السياسة هي مهنة متناقضة تماما مع الأدب، فالسياسي هو وكيل علاقات عامة للنظام الذي ينتمي إليه، والرواية فضاءُ نقدي مشبع بالحرية». هل استطاعت الرواية العربية عامة والجزائرية خاصة الفصل في كل هذه التناقضات؟
■ طبعا، الأدب غير السياسة؛ لكن هناك التباس في العلاقة بينهما. لا ننسى أيضا أن الكلمة النقية مجرد خرافة، كل كلامنا، بما في ذلك الأدبي لا يخلو من السياسة، هذا إذا اعتبرنا الحديث عن السياسة هو أن تتخذ الكتابة موقفا ما من العالم. كان حلم بلزاك أن يكون سكرتير المجتمع، لكن أتصور أن الأمر لم يعد ممكنا اليوم، لأن وظيفة الرواية تغيرت. الرواية اليوم أصبحت أكثر جرأة في نقد المجتمع والسياسية والأخلاق. في عالمنا العربي، ما زالت الرواية تبحث عن شرعية الكلام الحر. الأمر مع الوقت لم يعد متاحا. قال أنطون تشيخوف في إحدى رسائله: «إن الأدب الروسي لا يجيب على أي أسئلة، بل يطرحها بشكل صحيح». ما موقع الأدب العربي والجزائري من هذا القول؟
أتصور أن وظيفة الرواية هي طرح الأسئلة. لكن قيمة السؤال الروائي هو طبيعة الشكل الذي سيقترحه لذلك السؤال، ثم لتلك الإجابة التي سيقدمها. الإجابة هي النص ذاته، وليست الحقيقة في شكل مرافعة. جزائريا، هناك روايات نجحت في تحريك الأسئلة الموجعة، لكن هل تهيأت الظروف لتقبلها؟ ربما هذا هو السؤال الحقيقي للنقد اليوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية