‘الندم توبة’ حديث
لا أظنّ أنّي أغالي إذا قلت إنّ كثيرين مثلي، لاحظوا أنّه لم تكد تمضي سوى أشهر قليلة، على انتصاب المجلس الوطني التأسيسي وحكومة الترويكا بقيادة ‘الإسلاميّين’، حتى أخذت فئات غير قليلة من التونسيّين نلتقي بهم في السوق أو المقهى أو محطّات النقل، أو في أيّ مكان عموميّ، يعبّرون صراحة، ودون مواربة، عن ندمهم لانتخاب النهضة وحلفائها.
وقد لا يخفى أنّ كثيرا من هؤلاء الحلفاء من حزب المؤتمر خاصّة هم من ذوي الميول’الإخوانيّة’ وليسوا ب’العَلمانيّين’ كما يزعمون أو يزعم الرئيس المؤقّت. فقد فاجأَ التونسيّينَ الأداءُ السياسي والإداري الضعيف لهؤلاء الذين انتخبوهم، ومنحوهم ثقتهم، فإذا هم ينحرفون عن الغاية المنشودة التي من أجلها اُنتُخبوا. فضلا عن رقاعة بعضهم، وصلفه وعنجهيّته؛ وخاصّة هؤلاء القادمين من مدن المنافي الأوروبيّة وبعض الذين أفرجت عنهم ‘ثورة 17/14′(محرزيّة العبيدي ـ لطفي زيتون ـ حسين الجزيري ـ سليم بن حميدان ـ سهام بادي ـ محمّد بن سالم ـ رفيق بن عبدالسلام ـ الصحبي عتيق ـ وليد البناني ـ الكحلاوي ـ الدايمي ـ…) الذين قلّما أخذوا أنفسهم بشيء من التواضع أوالاعتدال. بل تراهم في البلاتوهات وفي الاجتماعات العامّة، مزهوّين مستعلين، يتحدّثون دائما بنبرة عالية ولهجة قاطعة حاسمة. وتعجب كيف أنهم يشتركون جميعا في صفة كأنهم أجمعوا عليها، أو هي جينة فيهم توارثوها، ونعني هذه القدرة على مقاطعة محاوريهم،دون أن يكلّفوا أنفسهم حسن الإصغاء لهم، حتى يستكملوا آراءهم وأفكارهم، ويسوقوا حججهم. بل هم خارجون أبدا على القواعد المرعيّة في الحوار وآداب العيش معا، دون أن يغيّروا ـ على فشلهم في إدارة الشأن العام ـ من أسلوبهم ولهجتهم أو يُطامِنوا من عنفهم وشدّتهم. وقد تتذكّر، إذا كنت من الذين أصابتهم حرفة الأدب، قول أبي تمّام:
مََن لي بإنسانٍ إذا أغضبتــــــــــهُ / وجهِلتُ، كان الحِلمُ ردّ جــــوابهِ
وإذا طربتُ إلى المُدامِ شربتُ من / أخلاقهِ،وسكرتُ من آدابـــــــــــه
وتراهُ يصغي للحديثِ بقلــــــــبهِ / وبسمعــــــــــهِ، ولعلّـــهُ أدرى به
وهذه أبيات،تُكتب بماء الذهب. ويُروى أنّ الخليفة العباسي المأمون، قال لبعض جلاّسه إنّه يمنح نصف مملكته، لمن يتحلّى بهذه الصفة: حسن الإصغاء. وهذا صنيع لا يأتيه إلاّ ذوو الحكمة العاقلة التي تُقرّ بحدودها، ويدرك أصحابها أنّهم ليسوا من المدلولين على الصواب أبدا، ولا المعصومين من الخطإ أبدا.
والغريب أنّ كثيرا من قياديّي النهضة عاشوا في الغرب الديمقراطي، ولكنهم من التعصّب الشديد والتحيّز العجيب، وضيق الذهن الأعجب، حتى أنهم يرون أنّ الإسلام وقـْـف عليهم. لقد فشل الإسلام السياسي أو هو في طريقه إلى الزوال، فيما استطاع البوذيّون الذين عاشوا في الغرب، أن يحقّقوا توازنا يصفه بعض الباحثين ب’السعيد’، بين التراتبيّة أو الهيراركيّة الروحيّة والمثل العليا الديمقراطيّة، وأن يصرفوا همّهم إلى المجتمع بدلا من الأديرة(أو المساجد عندنا)،وإلى إعادة تقييم الدور المَنُوط بالنساء. بل إنّ كثيرا من جماعات الأديرة في آسيا، شكّلت دعْما للمجتمع العَلماني غير الكهنوتي، دون أن تبرح ‘تعاليم’ بوذا في ‘حديقة الغزلان’ أو الحقائق النبيلة المخصوصة بالمعاناة والتأمل.
‘ ‘ ‘
أمّا وقد ذهبتْ لمْعةُ ذهبِهم الزائف، وغاض رونقه، بعد أقلّ من عام من حكمهم؛ دون أن يستمسكوا بالأرض التونسيّة على نحو ما يستمسك أهلها، من قديم الزمان، فقد كان ندمُ التونسيّين على ما فعلوه بأنفسهم، عندما منحوا أصواتهم لهؤلاء، أشدّ وقـْعا وأقوى أثرا حتى أنّه يتحوّل إلى كراهيّة أو يكاد؛ على نحو ما رأينا في ثلاث مناسبات كُبرَى: جنازة الشهيد شكري بلعيد، فجنازة الشهيد محمّد البراهمي، فاعتصام الرحيل. والندم هو في الظاهر ردّ فعل سلبيّ لكنّه واعٍ. ذلك أنّ التونسيّ الذي يعرب عن حزن أو أسف على فعل أتاه، إنّما يعرب في حقيقة الأمر عن شعور بالذنب؛وقد تبيّن له أنّ هؤلاء ليسوا مطبوعين على التديّن، كما أوهموه،بل ليس لهم عبقريّة تذكر في المسائل الدينيّة. والدين في أجلّ معانيه وأوسعها، هو إضفاء معنى على الحياة،واعتقاد في قوّة غيبيّة علويّة تعمل من أجل البشر،وليس من أجل حركات سياسيّة تسلك طريق الدهاء والمراوغة والدسّ والغِيلة، حتى إذا عزّ لجأت إلى التهديد والتخويف والتلويح بالشدّة والجبروت(روابط حماية الثورة) أورفع شعار تطبيق الشريعة. والغريب أنّ النهضة تلوّح بهذا الشعار،وكأنّه شعار تهديد،ثمّ يزعم قياديّوها أنهم تنازلوا لخصومهم، فصرفوا النظر عنه. والحقيقة أنّه ليس أكثر من شعار سياسي لتخويف الخصوم وحشْد السلفيّين، كما هو الشأن في مصر الثمانينات’حيث لم يبق حزب واحد بما في ذلك حزب التجمّع اليساري إلاّ ونادى بتطبيق الشريعة الإسلاميّة’ بعبارة غالي شكري في’أقنعة الإرهاب’. ويعرف زملاؤنا من المتخصّصين في ‘الإسلاميّات’ أنّ الشريعة مدوّنات فقهيّة تختلف باختلاف المذاهب، وحتى داخل المذهب الواحد، أكثر ممّا تأتلف؛ وأنّه لا وجود لمفهوم اسمه’ القانون الإسلامي العام’ تحت مسمّى ‘الشريعة الإسلاميّة’. وفي كلام أشقائنا المصريّين على ضرورة ‘تقنين الشريعة’،مقدار كبير من الصواب؛ إذ لا يعدو الأمر أكثر من تنسيب المدوّنات الفقهيّة وصياغتها في قوالب قانونيّة غربيّة. ومن نافل القول التذكير بأنّ النص القرآني شأنه شأن أيّ نص مقدّس لا يفسّر نفسه بنفسه، وإنّما يفسّره بشر ويؤوّله بشر. وليس بميسور أيّ منهم أن يدّعي أنّ تفسيره أو تأويله، قد سلِم من الأهواء أو هو لم يتقيّد بجملة من المصالح الدنيويّة وبالمؤثّرات التي ألمّت بالمفسّر.
ما نرجوه هو أن لا يفضي هذا الندم، إلى نوع من الرهاب الذهني، أوالخوف من الانعكاسات الاجتماعية، أو اضطراب الشخصية والعقل، أو العجزعن التكيف المجتمعي أو مع الاوضاع الجديدة الطارئة. ومن ثمّة الثبات في قناعات ولّى زمانها.
‘ ‘ ‘
يُسمّى ‘كتاب الموتى’ في بوذيّة التبت بـ’باردو’،ويشبّهه البعض بـ’كتاب الموتى’ عند الفراعنة رغم الاختلاف البيّن بينهما. فـ’باردو’ عند التبت تعني مسافة أو هوّة أو حالة بين حالين. وهو كتاب يصوّر تحلّل العناصر في حال الموت وما يرافق ذلك من تجارب نفسيّة وجسديّة. ومع ذلك فهو كتاب للأحياء حتى يكون تحرّرهم ممكنا إذْ يكون وعي المحتَضَرـ كما نفهم من هذا الكتاب ـ مختلطا، وتتسلّط عليه رؤى جليّة واضحة قد تكون بردا وسلاما، وقد تلقي في قلبه الرعب وتقذف الفزع؛ ولكنها تكون طريقه نحو الميلاد مرّة أخرى .
أمّا ‘باردو’ التونسيّة(وهو اسم قصر بُني في العهد الحفصي خلال القرن الخامس عشر) فقد اشتقّ اسمه من ‘برادو’ الاسبانيّة التي تعني الحقل والبستان. وقد ذكره ليون الإفريقي في رحلته. ولكنه يتخذ اليوم مع اعتصام الرحيل، هيئة رمز أو أيقونة:بداية تحرّر التونسيّين من هذا’الإسلام السياسي الإخواني’ المسلّط على إسلامهم السمح.
‘ كاتب من تونس
لأنهم بهذا السوء الذي لا ينتهي سينفض من حولهم كل الناخبين، هنا المبررات كافية ليصبر المختلفين معهم بعض الأشهر لقطف الثمار ناضجة وليس قبا أوانها.