النرجسية اللغوية

فكرة تملك اللغة، هي فكرة مأثورة عن اللساني الفرنسي إيميل بانفنيست، عرضناها في مقال سابق، تقول الفكرة إن الإنسان حين يتكلم في محاورة يتملك الخطاب ويصبح مركزا في الكلام، بأن يضحى المكان محددا بالنسبة إليه قربا وبعدا، ويصبح الزمان مرسوما بالنسبة إلى اللحظة التي فيها يتكلم ويصبح الآخر حاضرا في المقام أو غائبا عنه.. لكن فكرة تملك اللغة ليست هي التي تعنينا في هذا المقال بقدر ما تعنينا فكرة قريبة منها هي النرجسية اللغوية.
يعني النرجسي في المفهوم المشترك بين الناس، شخصية تغالي في حب نفسها، وهي تنسب إلى نرسيس في الأسطورة اليونانية، الذي قضى هياما في حب صورته المنعكسة على الماء. وقريبا من جثته نبت زهر النرجس، لكن النرجسي في التصور الدقيق هو أقرب إلى الشخصية المرضية التي لا تعيش انعكاسا على ذاتها، بل إنها تتصيد غيرها كي تصلح ما بها من عطب نفسي وتلحق به الأذية. أخطر أنواع النرجسيين هو النرجسي المُغْوِي Narcissus Seducer وهو ضرب من الشخصيات النرجسية، الذي يغويك ويجعلك تهواه وتصدقه بكل جوارحك، ثم يصطادك ويضيق عليك كما يضيق العنكبوت في سدى بيته على ما تصل إليه شباكه من ضعيف الكيانات.
وفي هذا السياق لا بد من ذكر ما يعرف بالانحراف النرجسيNarsassatic Perversion هو فكرة علمية مهمة تعود إلى الطبيب والمحلل النفسي الفرنسي Paul-Claude Racamier في مجال علم النفس المرضي. يتميز المنحرفون النرجسيون بأنهم يمتلكون صورة سلبية عن ذواتهم؛ ولذلك حتى يجدوا نوعا من التوازن الباطن، وحتى يشعروا تجاه أنفسهم بالاحترام، يقللون من شأن الآخرين. هم يتصرفون وكأنهم أفضل من غيرهم الذين هم في فلكهم، ويحتاجون إلى أن يعجب بهم الآخرون وهم متلاعبون بارعون في التلاعب بالآخرين، ويشعرون بالفخر في أنهم أوقعوا بهم في أحابيل الحياة والعاطفة وغيرها. أقوى ما فيهم إنهم لا يشعرون بأي تعاطف حين يرون الآخرين يعانون. وعلى الرغم من أن هذا المفهوم قد بسطه راكامياي وعمم في بحوث كثيرة، إلا أن الأوساط العلمية لم تعترف به فهو لا يحتسب اليوم في قائمة الأمراض النفسية.

ما يعني اللساني في هذا السياق أن النرجسية تنعكس على سطح اللغة، لكن اللغة ليست دليلا على نرجسية، أو انحراف نرجسي، بل هي تبني تصور هذه الفئة من البشر للكون. يكفي أن تنظر في كلامهم حتى تتراءى لك صورة كصورة نرسيس الأول، وهي منعكسة على سطح الكلام أو عمقه: ذات عاشقة لكيانها هازئة من محيطها، موقعة بمن تريد غواية وإغراء وتلذذا بالعذاب. ضمير المتكلم المفرد أو المثنى أو الجمع هو الضمير المثالي في الإسناد، أما ضميرا المخاطب والغائب فهما ضميران هامشيان. صحيح أن تملك الخطاب يبدأ من استعمال المخاطب لضميري (أنا /نحن) لكن النرجسي يشعر وهو يستعمل هذا الضمير وكأنه على بساط الملك الساحر. حين تستعمل أنت ضمير أنا يمكن أن يمر بلا لمح، سريعا كغيره من الضمائر، لكنه حين يستعمل على لسان النرجسي يكون مُضَمخاً بأرقى عطور النفس، فتجد ذلك الضمير يحيل على من كان منفوش الريش، طاووسا بين الغربان في ثقافة تكره الغربان. هذه هي مثلا أنا التي في قصيد المتنبي التي تقول (أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي // وأسمعت كلماتي من به صمم) وهي غير أنا المنكسرة التي في قصيدة نزار (أنا لست آسفةً عليك … لكن على قلبي الوفي) رغم ما يظهر فيها من استقواء بالخطاب.

يحتاج الخطاب لغة النرجسيين ولغة الناقصين ولغة المستويين لأن اللغة جعلت متاعا للجياع والمحتاجين وللمتكبرين الصلفين وللمتواضعين وللمنافقين كل يصنع بها كونه الذي يريد أن يبني به ما ينوي، أو ما يتظاهر بأنه ينويه، والله هو العالم بالسرائر، لكن اللغة كاشفة لا عن سرائر النفوس وخباياها، بل عن أنها وسيلة لبناء رؤية للكون يكون فيها النرجسي نرجسيا شيطانيا مرة، ولابسا لباس الملائكة مرة أخرى.

تسمية الشخص نفسه بالاسم، ونسبة الأفعال إليها ليست في هذا السياق ضربا من إبعاد الذات كما يبدو، بل هي عشق للاسم وتلبس به حتى لكأنه زينة الأسماء وأفضل من ينسب إليه فعل. الاسم العلم لا يختصر المسمى في هذا الاستعمال النرجسي، بل يضخمه هو الموازن الأصلي لثقل الجوهر المضخم، هو لا يعين ذاتا بل يعين كونا سحريا لا مثيل له. على الرغم من أن (زكريا المرسنلي) بطل «الياطر» للروائي حنا مينة قد بدأ الأحداث بتعريف نفسه تعريفا لا يظهر لها الرضا، إلا أنه كان رغم ذلك منخرطا في الخطاب النرجسي بامتياز يقول: «أنا زكريا المرسنلي لست راضيا عما حدث، وأقسم على ذلك ما كنت أريد أن يقتل ابني فؤاد المرسنلي، الصياد حسن الجربيدي لكنه قتله» النرجسية في التقصي من الابن بما هو شكل إجرامي من الذات، هو تطهير للنسل وإعلاء من قيمة الوالد فلم يبق بعد هذا إلا طهر الاسم زكريا.. قتل الابن للصياد كان حدثا مرويا، لكن قتل زكريا لابنه كان بداية فاجعة لخطاب يتنصل من الولد ومن لقبه المرسنلي الذي يجمعه به وبالقبيلة.
من أمثلة الخطاب النرجسي ما ورد في القرآن على لسان الشيطان وهو يحاجج ربه في رفض السجود، بحجة رفعة مادة الخلق لدى من يراد له أن يسجد، وضعة مادة الخلق لدى المسجود له.. «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ منْهُ خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» (الأعراف 12] ما نسميه هنا نرجسية سماه بعض المفسرين «استكبارا» وهم يعنون أن إبليس لم يكن كبيرا على الرغم من رفعة مادته، بل كان يرى نفسه كذلك. الخطاب هو الذي صنع هذا الاستكبار لأن الامتناع من السجود وتبريره بالخطاب بادعاء رفعة مادة الخلق، هو الذي أوجب العقاب. إبليسية النرجسي ثابتة في رمي الآخرين بالنقص وادعاء التفوق العنصري والمادي والعقلي. الخطاب النرجسي هو الذي فيه تصريح بالتعالي والأفضلية في عنصر أو أكثر من الخلق، هو خطاب كاشف لكل من يعمل فعلا، أو يدفع الآخرين إليه، من أجل سيرورة للحدث تبرهن أن النرجسي أفضل خلقا من غيره. يكشف الخطاب في آخر المسار أن المستكبر فعل ما فعل شعورا بأنه الأفضل، يفعل ذلك حتى لو كان في محضر الرب.

العصيان هو ضرب من التمرد النرجسي على حق الربوبية في الإخضاع، بمنطق لا دخل فيه لمادة الخلق، بل لمشيئة الرب. حين عوقب النرجسي إبليس بالخروج من الجنة، كانت الحجة أنها مكان لا يسكن فيه المتكبرون وهذا ما يفهم من قوله تعالي في الآية اللاحقة (13) من الأعراف (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أن تَتَكَبرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنكَ مِنَ الصاغِرِينَ) كأن الجنة لا مكان فيها لنرجسي، أو لمن قلل من شأن نفسه وتصاغر، بيد أن الأرض بنيت لتجمع هذين الرهطين، ففيها مسترسل كامل من المستوين وغير المستوين: من الصاغرين والمستكبرين النرجسيين.
يحتاج الخطاب لغة النرجسيين ولغة الناقصين ولغة المستويين لأن اللغة جعلت متاعا للجياع والمحتاجين وللمتكبرين الصلفين وللمتواضعين وللمنافقين كل يصنع بها كونه الذي يريد أن يبني به ما ينوي، أو ما يتظاهر بأنه ينويه، والله هو العالم بالسرائر، لكن اللغة كاشفة لا عن سرائر النفوس وخباياها، بل عن أنها وسيلة لبناء رؤية للكون يكون فيها النرجسي نرجسيا شيطانيا مرة، ولابسا لباس الملائكة مرة أخرى.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فاعل خير:

    ما يعرف بالانحراف النرجسي Narsassatic Perversion >>
    ما يعرف بالانحراف النرجسي Narcissistic Perversion
    وليس
    ما يعرف بالانحراف النرجسي Narsassatic Perversion

  2. يقول طاهر ألعرب امازيغي:

    مقال رائع ?
    شكرًا ??

إشترك في قائمتنا البريدية