منذ إنتشار وباء أو جائحة كورونا، ومضاعفاته على الوضع الاقتصادي العالمي، في كل الدول بدون استثناء، ظهرت تحليلات كثيرة، من أناس مختصين بالشأن الاقتصادي، والذين يحذرون أو يُبشرون، كل حسب موقعه، من انعكاس محتمل على العالم، كنتيجة التضارب الأمريكي الصيني. فهناك من يرى أن الصين ستتجاوز أمريكا، وتنتصر بمعركة وجودية بالنسبة لها، ألا وهي أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى بالعالم، وهناك من يرى أن الحرب التجارية ستزيد بينهما، إلى درجة خطر العودة، لنوع من الحرب الباردة من جديد.
حرب باردة جديدة
المراقب لتطور العلاقات، بين القطبين الكبيرين، وبعد مراجعة العلاقات السابقة مع الاتحاد السوفييتي، قبل انهياره، يلاحظ أن هناك أوجه خلاف كثيرة، بين وضعية الاتحاد السوفييتي، ووضعية الصين، من منظار العلاقة مع أمريكا. الخلاف مع الاتحاد السوفييتي، كان عقائدياً بشكل أساسي، يهدف إلى احتواء الخطر الشيوعي، ومنعه من الانتشار، وهو ما أدى إلى حروب بالوكالة كثيرة، نتج عنها ملايين القتلى (حرب فيتنام، حروب أفريقيا، أفغانستان….ال) ، ولكن لم يكن هناك تقريباً أي تنافس تجاري، بين القوتين العظميين، فالاقتصاد الغربي كان متكاملاً، كذلك اقتصاد الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية التابعة له، هناك فاصل جغرافي بينهما والتبادل التجاري كان شبه معدوم.
العلاقة مع الصين هي عكس ذلك تماماً، فقد أُزيلت كل الحواجز بين الدولتين وأصبحت العلاقة الاقتصادية بينهما، الأهم على الإطلاق. لم تتوقف الصين، ومنذ أول اتفاقية، مع الولايات المتحدة، لعام 1979، عن زيادة التبادل، والاستفادة الهائلة من الاستثمارات الأمريكية، لبناء اقتصاد قوي، أولاً عن طريق تصنيع البضائع الأمريكية بالأراضي الصينية، واضعاً أسس مفهوم «الصين مصنع العالم»، ومنذ بداية القرن صناعات صينية بحتة، وبتقنية فائقة الجودة، بمفهوم الصين «تُصَنِّعْ للعالم»، وهو النموذج الياباني نفسه، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. هذا النظام التكاملي مع الولايات المتحدة، وصل لدرجة ربط الصين لعملتها المحلية بالدولار، ولم تتخل عن ذلك إلا تحت الضغوط الأمريكية.
إنتقل التبادل التجاري، من 2 مليار دولار عام 1979، إلى 5 مليارات عام 1985، ثم 231 مليار عام 2006، وحديثاً إلى 736 مليار لعام 2019، مع فائض تجاري لصالح الصين، بقيمة 354 مليار دولار، مقابل 380 مليار لعام 2018، أي ثلاثة أضعاف صادرات أمريكا للصين. يُضاف لذلك، امتلاك الصين أكبر جزء من الدين الأمريكي، قيمته 1241 مليار دولار لعام 2015.
السوق الاستهلاكي الأمريكي
السوق الداخلي الاستهلاكي الأمريكي، وهو أكبر سوق بالعالم، سمح للصين بهذه القفزة النوعية، وما تبعه من امتلاكها أرباحاً كبيرة، استطاعت بواسطتها، الدخول إلى أفريقيا والدول العربية، وباقي دول العالم. العلاقات الاقتصادية مع روسيا، مبنية فقط على استيراد الغاز الروسي، ففي عام 2014، تم توقيع اتفاقية بقيمة 450 مليار دولار، على مدة 30 عاماً لإستيراد الغاز، بالمقابل، لا يُمثل السوق الروسي الاستهلاكي الداخلي، أهمية استراتيجية للصانع الصيني بسبب ضعفه النسبي (معدل دخل الفرد حوالي 10.000 دولار سنويا مقابل حوالي 60.000 في الولايات المتحدة).
لا يمكن لأي دولة في العالم، أن تحل محل الولايات المتحدة بالنسبة للصين، لكونها أكبر قوة استهلاكية في العالم، وصاحبة أكثر التكنولوجيات تقدماً. نحن نرى إذاً، أن لا مصلحة للصين، أن تضر بالبقرة الحلوب الأمريكية، وأن تُضعف قوة مستهلكيها على شراء البضائع الصينية، والخلاف الصيني الأمريكي منذ عامين، كان لهذا السبب، أي رغبة الرئيس ترامب، بإبعاد المستهلك الأمريكي، عن شراء البضائع الصينية، بزيادة الضرائب عليها، هذا لم يدُم طويلاً، بسبب حاجة كل طرف للآخر. خطاب الرئيس الصيني جزي غنبنغ، عام 2013، حين زيارته لأمريكا هو مرآة لذلك، حيث قال أدعو لإنطلاقة تاريخية جديدة بيننا، فكلانا يُدرك، أن المصالح التي تربطنا، هي سيل عارم، لا يمكن إيقافه.
من هذا المنطلق فأنا شخصياً، لا أرى أن وباء الكورونا، سيُستعمل من طرف الصين أو أمريكا، ليضعف أحدهما الآخر، بل على العكس، فالصين ستعمل جاهدة لاستعادة المستهلك الأمريكي لبضائعها، ولن تدفع نحو إجهاده وإفقاره، وأمريكا في حاجة لأن يُفتح أمامها السوق الصيني أكثر من السابق، حتى تستطيع أن تعوض الاختلال في الميزان التجاري، هي إذاً، أي أمريكا، في حاجة لسوق داخلي صيني، قوي غني، وليس شعباً فقيراً، الولايات المتحدة، ستعمل جاهدة لتحقيق ذلك، وهي وسيلتها لكسب الحرب الاقتصادية مع الصين، أي أن الانتصار لأمريكا، يعني أن تصبح الصين قادرة على شراء البضائع الأمريكية وليس العكس. انخفاض التبادل التجاري بين الدولتين، بعام 2019 مقارنة بعام 2018، بسبب العقوبات الأمريكية أضر باقتصاد كل منهما، فالصين صدرت العام الماضي لأمريكا 418 مليار دولار، واستوردت منها ما قيمته 123 مليارا، بينما لعام 2018 تم تصدير 558 مليارا، واستيراد أكبر بقيمة 178 مليارا.
المجتمع هو الحل
الاتفاق الأخير، في بداية العام الحالي، بين الصين وأمريكا، لوضع حد ولو مؤقتا للحرب التجارية، يؤكد صحة هذا الطرح، فقد التزمت الصين بشراء ما قيمته 200 مليار دولار من المواد الغذائية، بالسنوات المقبلة من الولايات المتحدة، هذا القبول دليل تمسكها بالسوق الأمريكي، وحاجتها للتكنولوجيا الأمريكية، هذا الرقم المهول من الاستيراد الصيني، سيكون على حساب استيراد المواد نفسها من مصادر أخرى مثل الاتحاد الأوروبي أو أفريقيا، أي أنه سيُضر بصادرات هذه الدول بشكل كبير. من ناحية أخرى، فإن حجم الاستثمارات الصناعية الأمريكية في الصين، بلغ 450 مليار دولار، أي أكثر من ضعف صادراتها لها، وهو يبين أيضاً، رغم رفع الضرائب على البضائع الصينية من 3 إلى 19%، الأهمية التي تعطيها أمريكا للسوق الصيني الداخلي، وإمكانيات نموه المستقبلية.
أزمة كورونا، كما قبلها أزمة 2008 المالية، ونتائجها على الاقتصاد، يبعث برسالة قوية للقيادة الصينية، أن أهم ضمان للصين وثباتها وازدهارها، هو شعبها نفسه. المطلوب إذاً هو تحسين الأوضاع والدخل المادي، لأكبر عدد ممكن من الصينيين، حتى يتمكنوا من شراء بضاعتهم بأنفسهم، بدل انتظار بيعها للخارج، كما يفعلون الآن. هذا لن يتم إلا بانفتاح السلطة الصينية والحزب الشيوعي على مجتمعه، وإعطاء أكبر كم من الحريات؛ حرية التعبير، حرية التنظيم النقابي واستقلاليته خارج الأطر الرسمية، وفتح المجال أمام المجتمع المدني، لأخذ حقه بتقرير السياسات الاقتصادية والاجتماعية، التي تهمه قبل قيادته. أحداث ساحة تيننمن في بكين عام 1989، لا يجب أن تعود مرة أخرى.
أزمة كورونا قد تُعطي وعياً جديداً للمواطن الأمريكي، بدل الجري وراء سراب الرئيس ترامب الإنعزالي، وهو يكتشف اليوم أن التعاون الدولي، حتى مع أصغر الدول، بالعدل والمنطق، هي السياسة التي يجب أن تتبناها دولة عظيمة بحجم الولايات المتحدة.
العودة للتعاون الدولي، للحد من التلوث البيئي وارتفاع الحرارة، هو شيء أكثر من مهم لأمريكا والعالم، فمأساة كورونا، ليس إلا مقدمة بسيطة رمزية، لما قد يُصيبنا بالسنوات المقبلة، نتيجة التغيير المناخي، وحينها لن يجد المواطن الأمريكي من يساعده، لوضع كمامات لحمايته من تنفس دخان مصانعه.
الرهان الخاسر
هؤلاء المراهنون على اللعب، على الخلاف الأمريكي الصيني التجاري، لم يدرسوا بما فيه الكفاية، عمق العلاقة بينهما وتشابكها، هم ليس فقط لن يجدوا مكاناً لبيع بضائعهم، بل سيبدأون في خسارة جزء من السوق التي يملكونها، لصالح محور أمريكا والصين.
المستقبل القريب والبعيد، هو للتكتلات الكبيرة جداً والمحاور، وليس للأقطاب، كما كان عليه الوضع في القرن العشرين. أين نحن العرب من كل ذلك، الصحوة العربية، تستوجب أولاً، الإلتزام باستعمال ثرواتنا لبناء أوطاننا، وليس فقط سلعة صغيرة يتلاعب بها الكبار، وكما قال لوران لاسكاي، المختص الاستراتيجي الأمريكي في الاقتصاد، «الحرب التجارية، هي مثل لعبة كرة الطاولة الصينية الشهيرة، الطلقات، اُستبدلت بالدولارات، والصواريخ ، بالملفات».
مراقب ومحلل سياسي مستقل
*معظم خبراء الاقتصاد يتوقعون
أن تقفز (الصين ) للرقم ١
خلال عقد من الان.
وتكتفي امريكا بالمركز ( ٢ ) .
*أما الدول العربية تكتفي
بدور (الكمبارس) للأسف الشديد.