مع بداية العام الميلادي الجديد تم تبادل التحيات والتمنيات بين قاطني هذا الكوكب، وكلهم يحدوه الامل بان يكون مستقبل البشرية افضل من ماضيها، وان يكون العالم أكثر أمنا واستقرارا. ان ذلك تعبير عن شعور عميق بعدم الارتياح من الاوضاع التي تعاني منها هذه الارض وسكانها، سواء ما يتعلق منها بالبيئة وارتفاع درجات الحرارة وتلاشي طبقة الاوزون وكذلك الطبقات الثلجية في قطبي الكرة الارضية، ام ما يتعلق باوضاع الشعوب وازدياد التباين بين الاغنياء والفقراء، ام ما تعانيه شعوب العالمين العربي والإسلامي من تراجع عام في الحريات والحقوق والممارسة الديمقراطية.
وهنا لا بد من توعية عشاق الحرية في هذا العالم بما آلت اليه الشعوب بعد الاجهاز على ثورات الربيع العربي واستعادة قوى الثورة المضادة زمام الامور. وهناك ابعاد عديدة لهذا التراجع، تبرز منها ابعاد ثلاثة: الحرية والعدالة وتوزيع الثروة. ومن الضرورة بمكان توجيه السجال الفكري والثقافي ليتطرق لهذه القيم التي تبدو للبعض محسومة وواضحة في اذهان الحكام والمحكومين. غير ان تجربة العقود الماضية خصوصا السنوات الاربع الاخيرة تكشف خللا بنيويا عميقا سواء في السجالات بين السياسيين والمثقفين ام في التنظير لهذه القيم والممارسات ذات الصلة بها. ويكفي الاشارة لبعض الحوادث للتدليل على تناقضات المجتمع الدولي خصوصا ما يسمى «العالم الحر» منه.
فليست هناك مواقف دولية حقيقية للتصدي لمن وقف ضد منح الشعوب حقوقها في الحرية وتقرير المصير والممارسة الديمقراطية. وما اكثر المعتقلين السياسيين الذين يتجاهلهم سياسيو الغرب في تواصلهم مع انظمة الاستبداد.
فمن الذي يطالب باطلاق سراح محمد مرسي مثلا؟ وهو الرئيس الذي انتخبه الشعب ودبرت قوى الثورة المضادة انقلابا عسكريا ضده ثم اعتقلته وتحاكمه بتهم تافهة تدعو للتقزز والاشمئزاز واليأس مثل «الهروب من السجن والتخابر مع جهة اجنبية (منظمة حماس)؟ وفي الاسبوع الماضي اعتقل الشيخ علي سلمان، رئيس جمعية الوفاق الوطني الإسلامية بالبحرين، لان جمعيته رفضت المشاركة في الانتخابات التي اجريت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر للبرلمان الذي يقول المعارضون انه فاقد الصلاحيات. ويتهم هذا الاخير كذلك بانه «يدعو لقلب نظام الحكم ويحض على كراهيته» برغم انه كان يمثل الكتلة البرلمانية الكبرى في البرلمان السابق. ولا يتحرك سياسيو «العالم الحر» الذين التقى بهم رئيس الوفاق او زملاؤه ضمن ما يؤمنون به من عمل سياسي هادىء بعيد عن الاضطراب او الثورة او التحدي.
ما المشكلة؟ في الاسبوع الماضي تنبأت وسائل الاعلام البريطانية بان يصل سعر ليتر البنزين إلى جنيه استرليني واحد (وكان قد وصل في ذروة الغلاء النفطي إلى جنيه ونصف). هذا يؤكد ان النفط اصبح عاملا جوهريا في السياسة الغربية ازاء العالمين العربي والإسلامي. فما معنى ان الدول ذات الانتاج النفطي العالي هي الاكثر عرضة للاستهداف من قبل المجموعات المتطرفة والإرهابية؟ (العراق، الجزائر، نيجيريا، إيران). هل القضية اقتصادية بحتة؟ ام ايديولوجية؟ ام سياسية؟
من المؤكد ان هذه العوامل مجتمعة تؤثر بشكل مباشر في الاستراتيجيات الغربية تجاه العالمين العربي والإسلامي، خصوصا في قضايا الحرية والعدالة والديمقراطية. ولكن يضاف اليها القضية الاخلاقية التي اصبحت لدى الكثيرين معدومة الدور في توجيه السياسات القومية للدول، حتى تبلور مفهوم مفاده ان السياسة والاخلاق لا يجتمعان.
وتجدر الاشارة إلى ان المرة الوحيدة التي طرح البعد الاخلاقي في السياسة الخارجية ارتبطت ببريطانيا، وذلك حين اعلن وزير الخارجية الاسبق بحزب العمال، روبين كوك، انه سيعيد توجيه السياسة الخارجية لبريطانيا وفق منظور اخلاقي. ولكن سرعان ما تكالبت القوى المرتبطة بـ «المؤسسة» البريطانية لتجهض تلك السياسة في العام الاول من اعلانها (1997). الاخلاق تفترض وفاء السياسيين لما يطرحونه من مبادئ، وعدم التراجع عنها. ولذلك ما ان تبين للناخبين البريطانيين ان رئيس حزب الاحرار الديمقراطيين، نيك كليغ، قد تراجع عن وعد كان قد قطعه على نفسه امام الناخبين قبل الانتخابات الماضية بانه لن يوافق على رفع اجور التعليم الجامعي، حتى تراجعت شعبية الحزب واصبح مهددا بفقدان موقعه الثالث.
وهنا يجدر طرح قضايا ذات صلة بقضايا الديمقراطية وحقوق الانسان ومبادئ الحرية والعدالة، لاستيضاح مدى التزام ما يسمى «العالم الحر» بها. الامر الواضح ان هذه القضايا لا تمثل «ثوابت» لدى الغرب، بل انها «نسبية» و»مناطقية». ويضاف إلى ذلك ايضا مطالبة لا تنفصل عن اثر المال النفطي على المواقف الغربية، بمراعاة «الخصوصية» الثقافية والدينية في قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان. هذا يعني انه في الوقت الذي ترفع شعارات الديمقراطية من قبل الغرب فان للسياسيين الحق في تحديد المواقف والسياسات ازاءها بما يخدم «المصلحة القومية». هذه المصلحة يحددها السياسيون.
فتارة يرون في رفعها شعارا في سياساتهم الخارجية «ضرورة» كما يحدث حين يتخاطبون مع منافسيهم السياسيين والايديولوجيين. فيجب ان تكون حاضرة حين الخوض مع روسيا او الصين او كوبا او إيران، ولكن لا يجب طرحها عند التطرق لدول اخرى كالسعودية او مصر او الدول التي يعتبرها الغربيون «حليفة». وحتى قضايا الفساد المالي والاداري كثيرا ما تخضع للاعتبارات السياسية. فمثلا تدخل رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، في 2006 ومنع مكتب التحقيق في الاختلاسات الخطيرة، من التحقيق في قضية الرشاوى التي دفعتها شركة «بريتيش ايروسبيس» لاحد الامراء السعوديين لضمان صفقة «اليمامة». وعلل ذلك المنع بان السعودية هددت بالتوقف عن التعاون الامني في قضايا الإرهاب. وكانت القضية موضع التحقيق رشاوى قدمت على مدى عشرين عاما بمعدل عشرة ملايين دولار شهريا، اي ما يعادل مليارين واربعمائة مليون دولار. هنا تمت التضحية بالموقف الاخلاقي من اجل مسألة اخرى اعتبرها بلير اكثر اهمية. وتجلت نسبية المبادىء والقيم في الموقف الغربي ازاء ثورات الربيع العربي. فامتنعت امريكا وبريطانيا والدول الاوروبية من التدخل الايجابي لدعم ثورات الشعوب من اجل الديمقراطية، وساهم بعضها بدعم انظمة الاستبداد بالتصدي للمعارضين ودعم الانظمة بالخبرات الامنية لقمع تحرك الشعوب، بدعوى «اصلاح» اجهزة الامن والقضاء.
ايديولوجيات الحكم الغربي ليست لديها قيم ثابتة، فضلا عن القداسة التي لا تتوفر الا للوحي الالهي، بل ان التطورات الاجتماعية في العقود الاخيرة ادت لثقافة ما بعد الحداثة، التي لا تعتقد بالثوابت القيمية او وجود مصدر وحي إلهي او ابعاد غيبية للتشريع.
وبالتالي فالنظام السياسي الغربي اليوم ليس مؤسسا على القيم الثابتة كالحرية والعدالة وحكم القانون واحترام حقوق الانسان، بل ان سياساته ومواقفه متأرجحة، ويعتقد سياسيوه ان «المرونة» في التعاطي مع ما يروج من قيم وعدم التشدد في تطبيقها او الالتزام بها ضرورة لنجاح المشروع الغربي واستمراره في الحكم وقدرته على التصدي للتنافس المطروح من قبل الانظمة الاخرى. ولذلك يمثل المشروع الإسلامي تحديا كبيرا للمشروع الغربي، نظرا لدقة نظمه ووضوح ابعادها وحدودها. فمثلا من بين القواعد التي يتأسس المشروع الإسلامي عليها: حلال محمد حلال إلى يوم القيامة. انه تأطير لنظام حياة مستقل تحتل التجربة البشرية فيه بعدا محوريا، ولا يسمح بالتلاعب فيه بالزيادة او الانقاص.
وحين ينسب رسول الله الذي يحتفي المسلمون هذه الايام بذكرى ولادته قوله: لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، فانه يؤكد حاكمية الإسلام من جهة والتزامه المطلق بتطبيق مبدأ تحريم السرقة بدون مبررات او ذرائع. وتحريم السرقة هنا ليس حكما نسبيا او مؤطرا بزمان او مكان، وليس خاصا بثقافة دون اخرى، بل هو قانون صارم يهدف للقضاء على السرقة كممارسة يقوم بها البعض. ولطالما طرحت انظمة الاستبداد مقولة «الخصوصية» لتبرير انتهاكاتها حقوق الانسان ورفضها مشاريع الحرية والديمقراطية، وتحميل الإسلام او الثقافة العربية مسؤولية التخلف والاستبداد والقمع. ووجدت انظمة الغرب الداعمة للاستبداد في هذه المقولة مبررا للتقاعس عن التصدي للانتهاكات والديكتاتورية. كما طرحت مقولة «السيادة الوطنية» لرفض تدويل قيم الديمقراطية وحقوق الانسان ومنع الجهات الحقوقية والدولية من المطالبة باحترامهما. وبالنسبة لضحايا القمع والاستبداد ما الفرق بين الحاكم المستبد الذي يمارسهما والنظام «الديمقراطي» الذي يبحث عن اتفه الذرائع لتبرير تقاعسه عن نصرة المظلومين تارة وانتقائيته ثانيا؟
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
د. سعيد الشهابي