الفن أقوى من الموت والجريمة السياسية المنظمة، وأكثر خلوداً وتعمقاً من أية قوة أخرى طبيعية أو غير طبيعية، بل أقوى من الموت نفسه؛ ما يزال إلى اليوم فنانو العصور الغابرة بيننا، لم نعرف ليونارد دا فانشي لكنه جزء من حياتنا الثقافية بمكتشفاته ولوحاته، ولم نلتق بابن خلدون، لكنه قيمة عالمية متوغلة في ثقافتنا الإنسانية، وحاضر في مكتباتنا الخاصة والعامة، ونحاوره من حين لآخر. مات غابرييل غارسيا ماركيز، ونيرود وكاتب ياسين، ونجيب محفوظ،وموتسات وهايدن وشوبان، وغيرهم كثير، خلفوا لنا ميراثاً إنسانياً عالياً يذكرنا في كل مرة بالقدرة الإنسانية الخلاقة، بل ويدفعنا نحو الحياة باستمرار. يتعالى فوق كل شيء، التاريخ، الحروب، الأحقاد، والزمن، لأنه القيمة الخالدة التي لا يقهرها الوقت ولا الموت أبداً، وإن طال روادها الموت الفيزيقي العادي. على الرغم من ذلك كله، ما تزال الكثير من الذهنيات في البلاد العربية متحجرة ولا تعرف قيمة الفن وخلوده واختراقه لدواخلنا من خلال بيت شعر، لوحة فنية، مقطوعة موسيقية، أوبرا أو غيرها، بل وحاجتنا الوجودية إليه.
لا نستغرب اليوم أن نجد من الجيل الجديد من لم ير فيلماً واحداً في حياته في قاعات السينما، ولا مسرحية ولا أوبرا، ولا حضر معرضاً فنياً. فقد ربّي في الرماد وعلى الخطابات المفرغة من أي حياة، وعلى الاستهلاك السهل الذي لا يدفع إلى أي تفكير. لا نعرف اليوم الكثير عن ألبانيا، لكن الكاتب العالمي إسماعيل كداري حملها على ظهره وزج بها في الخرائط المغلقة. شكسبير وحده يكفي لتذكر إنجلترا التي كبرت به. بيكاسو حمل على عاتقه إسبانيا وحربها الأهلية، والإنسانية من خلال لوحة واحدة هي غيرنيكا التي خلدت قرية صغيرة لم تذكرها الجغرافيا إلا عندما نقلتها ريشة بيكاسو نحو الخلود. ماذا تساوي اليابان دون كيروساوه، وكواباتا، وموراكامي وغيرهم اليوم؟ وهل لليونان قيمة وديمومة في غياب نيكوس كانتزاكي أو الموسيقي ميكيس تيودوراكسيس أبو رقصة زوربا الشهيرة “سيرتاكي”؟ كيف نستغرب اليوم ميل الكثير من الشباب العربي نحو الحركات العدمية والمتطرفة، في غياب التوازن الفني الداخلي الذي يشعر المرء بأن العالم جميل ويستحق أن يعاش، ويجب أن نحافظ عليه بكل ما نملك من قوة وبصيرة؟ ورثت الجزائر من الحقبة الاستعمارية أكثر من 400 قاعة سينما، وهي بنية هيكلية كان يستفيد منها المستعمرون بكل تأكيد، بعد الاستقلال، وبدل حمايتها وتدعيمها وتوسيع شبكتها والعمل على تدعيمها بالوسائل الفنية المستجدة، تمت إبادتها ونهبها في صمت كلي، حتى اضمحلت نهائياً وقتلت، ولم يبق منها إلا أقل العشر بعد موت جمهور السينما الذي تخطى في السبعينيات 40 مليوناً من سكان لم يتجاوز عددهم 20 مليوناً. وتحولت القاعات إلى صالات للأعراس، لا روح فيها ولا حياة.
الشيء نفسه أو قريب منه نجده في معظم البلدان العربية المغاربية في المغرب عندما زرت مدينة وجدة حكى لي الأصدقاء أن هناك الوضعيات نفسها ، وأن الكثير من القاعات اندثرت كلياً ولم يعد لها أي وجود. وتونس لم تشذ عن هذه الحالة مع أنها كانت قد بدأت في إنشاء صناعة سنيمائية في وقت مبكر سمح لها بالارتقاء في وقت سابق نحو بنية سينمائية حقيقية. كيف نفسر هروب السينمائيين العرب والمغاربيين تحديداً، نحو أوروبا لإنتاج أفلامهم في غياب كلي لأي تأطير فني وطني؟ وحتى نبني سينما حقيقية، كان يفترض استرجاع القاعات من الذين نهبوها بلا عقاب، وتخصيص ميزانية حقيقية لترميمها، وفتح السوق السنيمائية الوطنية والعربية على الأفلام العالمية، للحقاق بالركب جمهوراً وإنتاجاً ومؤسسات، الأمر الذي جعل البلاد العربية التي كان لها باع في السينما في وقت سابق يتخلفن، على العكس من السينما الهندية مثلاً. ماذا يعني الميراث إذن في ثقافتنا؟ الميراث المنجز محلياً من خلال قرون من الجهد والتمايز والعبقرية؟ لقد تم تطوير عقلية عدمية لا ترفض فقط ما لا يروق لها، ولكن تطمسه وتقوم بمحوه كلياً بوصفه نظاماً غربياً طارئاً وغير مقبول محلياً. وبدل الاحتفاظ بالذاكرة حية وتوريثها للأجيال اللاحقة برؤية فنية وطنية متفتحة، راح سدنة العدمية يقومون بكنسها، وبغرس الرؤوس في الرمال كما يفعل النعام، حتى لا يرون شيئاً من الخراب الذي صنعوه بأيديهم. قاعة واحدة شذت قليلاً عن هذا الموت المبرمج في الجزائر مثلاً، صالة ” الأطلس” الضخمة، ماجستيك Majestic سابقاً. تستحق هذه القاعة العظيمة أن نتحدث عنها اليوم في ظل هذا الاندثار المتسارع لكل ما كان يجعل السينما العربية في الواجهة الثقافية العالمية. أسسها صاحبها جوزيف سايبيراس Joseph Seiberras (شايب الراس) ودشنها في 1930. فقد كان يملك قاعة عرض صغيرة في عاصمة الجزائر في العشرينيات، قبل أن يقدم على المغامرة الكبرى. كان هذا الرجل العاشق للسينما والمشبع بها حد الجنون يحلم بتشييد قاعة كبيرة، صالة عروض، تنافس القاعات العالمية المعروفة في بدايات القرن العشرين.
في زمن قياسي، أنجز واحدة من أجمل وأوسع وأحدث وأرقى صالة سينما في العالم “ماجستيك”. صُنفت وقتها واحدة من أكبر عشر صالات عرض سينمائي في العالم. مع ثلاثينيات القرن العشرين، نفّذ حلمه المدهش الذي سكنه زمناً طويلاً. ومنح مدينة الجزائر هذه القاعة التي تستوعب 4000 شخص، شيء لا يمكن تصوره في ذلك الوقت. لتنفيذ هذه المَعلمَة العظيمة، استلف من البنك مالاً كبيراً وباع قاعته الصغيرة، كما احتاج إلى 1500 متر مربع من الأرض في حي باب الوادي. وجاء باليد العاملة المحترفة من أقاصي البلاد وإيطاليا. فكانت النتيجة مذهلة، واحدة من أعظم وأجمل قاعة سينما في العالم. بتقنية غريبة وفريدة في وقتها، أدهشت كل عشاق الفن السابع. لا يوجد بصالة العروض مثلاً أي سقف في بلد متوسطي عرضة للأمطار الموسمية والرياح. كان السقف مفتوحاً كلياً على الهواء، على السماء وعطر البحر وأشجار البرتقال. بإمكانك ليلاً أن ترى النجوم وأنت تتفرج في فيلم أو تشاهد مسرحية أو تسمع موسيقى. كان السقف بطول 23 متراً في 13 متراً. في حالة الأمطار والرياح، تكفي دقيقة واحدة لتلتقي القطعتان المعدنيتان بصمت، وتنغلقا بإحكام، دون حتى أن ينتبه الجمهور لذلك. منصة الصالة جهزت لتكون قادرة على استيعاب أكثر من 400 ممثل وفنان ومسرحي في اللحظة نفسها؟ قاعات السينما كانت مجهزة بأحدث الوسائل التي لا يمكن تخيلها في وقتها. يتيمة هي اليوم، في فراغ ثقافي كبير، وفي ديكور مبهر يحده البحر والجبال، يمر بصمت أمام أعين العابرين. وعلى الرغم من تسييسها، فقد أنقذت ماجستيك من الموت الذي طوى تاريخ 400 قاعة كانت حية، وصممت لتصبح قاعة متعددة الوظائف، من المهرجانات السياسية البائسة، إلى العروض المسرحية الكبيرة، إلى النشاط الجمعوي الذي يستدرج جمهوراً متعدد الاختصاصات والهوايات، لكن “الماجستيك” فقدت بريقها الفني بوصفها أهم قاعة للعروض المسرحية والسينمائية والموسيقية.
صحيح أن هناك صالات المسرح الوطني والأوبرا الجديدة، لكنها كلها بلا ذاكرة، وكثيراً ما يخترقها التسطيع والسهولة. هل هو النسيان المبرمج الذي لا يريد للذاكرة المتعددة ثقافياً أن تشع، باسم وطنية مقصوصة الجناحين؟ أم هي عقلية الجفاف الفني والروحي، ورفض كل ما يمنح الإنسان فرصة التصالح مع إنسانيته العميقة؟
حتى الأوبرا التي اهدتها الصين للجزائر تم الإستلاء عليها سياسيا لتسميتها اوبرا بوعلام بسايح لأنه صديق بوتفليقة ولم يكن له اي علاقة بالفن عوض تسميتها على الفنان علي معاشي الذي شنقه الجيش الفرنسي في ساحة عمومية بمدينة تيارت بسبب أغنية ” اسألوني وسأبشر وأقول بلادي الجزائر”
” “الماجستيك” فقدت بريقها الفني بوصفها أهم قاعة للعروض المسرحية والسينمائية والموسيقية. صحيح أن هناك صالات المسرح الوطني والأوبرا الجديدة، لكنها كلها بلا ذاكرة، وكثيراً ما يخترقها التسطيع والسهولة. هل هو النسيان المبرمج الذي لا يريد للذاكرة المتعددة ثقافياً أن تشع، باسم وطنية مقصوصة الجناحين؟ أم هي عقلية الجفاف الفني والروحي، ورفض كل ما يمنح الإنسان فرصة التصالح مع إنسانيته العميقة؟”مقتطف من المقال،كلمات نحفر ذاكرة النسيان حقا وحده الحديث والبحث في هذا المعمار المسرحي والسينماءي يخلد الثقافة الراقية التي مرت على البلاد واندثرت بالجهل و المحو، التفاتة تاريخية مشهودة لك استاذنا واسيني الماجستيك وحدها قاعة تليق لتاسيس رواية متكانلة عن جيل هرب بثقافته عبر الزمن
نفس الشيء حدث بالسودان حيث تم إندثار معظم دور العرض السينمائية التي بدأت في الإنتشار قبل مائه عام.
وحول ذلك إخراج المخرج السينمائي السوداني صهيب الباري, في عام 2019., فيلمه الوثائقي “الحديث عن الأشجار”. يتتبع الفيلم جهود نادي الفيلم السوداني الفاشلة لإعادة إفتتاح دار سينما مغلقة في مدينة أم درمان .
نال الفيلم عدة جوائز عالمية منها جائزة أفضل فيلم وثائقي بمهرجان برلين السينمائي الدولي لعام 2019.