استمرت هيمنة دور النشر التقليدية على صناعة النشر لقرون طويلة، واليوم بدخول منافسين جدد أمثال منصة «أمازون كيندل» ومتجر «أبل بوكس» و«كوبو رايتين لايف» إلى السوق، ها هي هذه الصناعة العريقة تسير شيئا فشيئا نحو الاندثار.
آفاق قاتمة
إذا بحثت في محرك غوغل باللغة الإنكليزية عن شيء على غرار «واقع النشر التقليدي في عصرنا» فإنك ستصادف حتما عناوين أخبار مثيرة للقلق على منوال: «إفلاس شركة بيرترام، إحدى مؤسسات بيع الكتب الكبرى في المملكة المتحدة» «الموت الحتمي لناشري الكتب التقليديين». «في تركيا، يواجه ناشرو الكتب خيارات قاسية للبقاء على قيد الحياة». إنها بعض عناوين الأخبار التي تشير إلى الأزمة المتنامية في حقل نشر الكتب. وها هي التقارير والإحصاءات تؤكد الآفاق القاتمة التي تواجها هذه الصناعة، إذ تحت عنوان «انتهى ازدهار مبيعات الكتب» أشارت المجلة الإخبارية الأمريكية الأسبوعية «بابليشرز ويكلي» إلى أن مبيعات الكتب المطبوعة قد تراجعت بنسبة 8.9% في الربع الأول من هذا العام.
التحول الرقمي
كان من نتائج التحول الرقمي إقبال الكُتَّاب لا سيما في البلدان المتقدمة على منصات النشر الذاتي لإنجاز مشاريع التأليف الجديدة وتوزيعها والترويج لها. وقد كافأت هذه المنصات العديد من الأقلام الناشئة بأن منحتها صوتا وفرصة للوجود في عالم الكتابة. واليوم تلتحق بهذه المنصات العِملاقة أسماء شهيرة أمثال سلمان رشدي، الذي أعلن مؤخرا أنه سيتجاوز الطباعة التقليدية لينشر كتابه المقبل على منصة سابستاك. مؤلِّف رواية «آيات شيطانية» المثيرة للجدل، يبدو متأثرا بالكاتب الإسرائيلي إتغار كيريت، الذي سجّل حضورا قويا في هذه المنصة. فقد قال لصحيفة «الغارديان» «لقد كنت أتابع منشورات كيريت في منصة سابستاك وهي ذكية وممتعة للغاية، وقلتُ في نفسي من الواضح أنه يستمتع حقا بالقيام بذلك. لعلي أستطيع أن أفعل ذلك».
ويعد مارك داوسون أحد أفضل نماذج التفوق والتألق في منصات النشر الذاتي في عالمنا. جرّب مارك طريق النشر التقليدي من خلال كتابه الأول دون نجاح يذكر. بعدها انتقل إلى متجر أمازون الذي مهد له الطريق لنشر مؤلفات هي اليوم من أكثر الكتب رواجا في العالم. ويكسب هذا الكاتب اليوم ما يناهز 450 ألف دولار سنويا من النشر الذاتي على هذه المنصة.
عُرضة للرفض أو الاستغلال
على عكس الكُتَّاب المعروفين الذين عادة ما تسارع دور النشر التقليدية إلى التعاقد معهم لأجل تحقيق أرباح مشتركة، تصطدم الأقلام الجديدة بعراقيل جمة في سبيل الوصول إليها. ففي الأقطار الغربية التي تتولى فيها دور النشر تغطية تكاليف النشر والتوزيع، عادة ما يتعرّض الكاتب الجديد للرفض أكثر من مرّة قبل حصوله على صفقة كتاب. فعادة ما تكون لديها قوائم طويلة من الكتب تنتظر النشر، تُعطى فيها الأولوية للأعمال التي تراها مؤهلة لتحقيق أرباح، مفضّلة بذلك أعمال الكُتَّاب الأكثر مبيعا. هناك أكثر من مبرر لذلك. فدخل هذه المؤسسات يخضع لدخل الكُتَّاب. فهي لا تكسب أموالا إلا إذا كسب الكُتَّاب مالا، فضلا عن تزايد متاعب هذه المؤسسات يوما بعد يوم، يجسّده إعلان بعضها تسريح العمال، وتجميد التوظيف، وخفض الأجور، وتعرّض بعضها الآخر للإخفاق والإفلاس. فمن مصلحتها البحث عن المؤلفات الأكثر رواجا لتحقيق أرباح والبقاء على قيد الحياة.
ينطبق هذا الوضع على وطننا العربي حيث تنزع دور النشر الكبرى إلى التعامل مع الأقلام المعروفة، فتضطر الأقلام الناشئة إلى اللجوء إلى دور نشر خاصة صغيرة، غالبا ما تطالبها بدفع أموال طائلة بالعملة الصعبة. إذ تتراوح تكلفة طباعة 500 نسخة من رواية متوسطة الحجم بين 600 و1000 دولار، يدفعها المُؤلِّف الصغير الذي يحلم بأن يرى نفسه كبيرا في عالم الكتابة يوما، وقد لا يسترد من مؤلَّفه في آخر المطاف شيئا. وإلى يومنا تستمر دور النشر الصغيرة هذه في تحقيق أرباح كبيرة بالعملة الصعبة في أوطاننا على حساب أقلام، توقف كثير منها عن الكتابة، بعد نشره كتاب أو كتابين وفشله في تحقيق مراده وجلب الأنظار إليه. ارتفاع التكاليف ورفض المؤسسات الكبيرة التعامل مع الأقلام الصغيرة من أسباب إقبال أعداد متزايدة من الكُتَّاب الناشئين على النشر الذاتي. من الذين استفادوا من ذلك المؤلف الأمريكي روبرت كيوساك، الذي عاش تجربة صعبة حينما حاول نشر كتاب «أب غني، أب فقير» في عام 1997. بعد العديد من المحاولات الفاشلة لتحقيق حلمه من خلال الناشرين التقليديين، لجأ إلى النشر الذاتي. وإذا بمؤلفه يحقق نجاحًا باهرا، حيث بيع منه إلى يومنا أكثر من 40.000.000 نسخة في أكثر من خمسين لغة، في كامل أرجاء الدنيا.
معدلات إتاوات قليلة
من مزايا النشر التقليدي في البلدان الغربية مقارنة بالنشر الذاتي إمكانية حصول المؤلِّف على دفعة مقدمة من دار النشر في حالة حصوله على صفقة، لكنّ المبلغ يعدّ زهيدا عموما بالنظر إلى ما يصرفه الكاتب من وقت ويبذله من جهد في سبيل تأليف الكتاب. والدفعات المقدمة من هذه المؤسسات اليوم مرشحة للانخفاض أكثر مع تفاقم أزمة النشر وإجراءات التقشّف المتزايدة. من ناحية أخرى، لا يتراوح متوسط عائدات البيع بالتجزئة نسبة 10% إلى 15% من مبيعات الغلاف المقوى، و 5% إلى 7.5% من مبيعات الغلاف الورقي العادي. قارن ذلك بالنشر الذاتي حيث يمكن للمؤلف أن يكسب ما يصل إلى 70% من سعر غلاف الكتاب! فضلا عن كل ذلك، يملك المؤلِّف كامل الحرية في اختيار الأسعار وتحديد هوامش الربح.
فقدان الحقوق والتحكّم
بتوقيعه العقد مع الناشر التقليدي، يبيع الكاتب الحقوق كافة في المؤلَّف، أو جزء كبيرا منها. هذا يعني أن المؤلف لا يمكنه استخدام العمل أو بيعه أو إعادة نشره أو التصرف فيه بأي صيغة كانت. فالعمل لم يعد خاضعا لسطته وإنما لسلطة دار النشر. في المقابل، من فوائد النشر الذاتي التحكم الكامل في هذا العمل. فعلى سبيل المثال، إن اقترح المحررون إدخال تعديلات ما على الكتاب، يحقّ للمؤلف رفضها وتجاهلها في النشر الذاتي، ولن يمنع ذلك كتابه من الصدور على النحو الذي يختاره. فالقرار قراره والكلمة الأخيرة كلمته. الوضع مختلف في النشر التقليدي حيث تستطيع المؤسسة إبطال النشر والامتناع عن التعامل مع المؤلِّف الذي يرفض اقتراحات محرريها، وكيف لا وهي صاحبة القرار ولا ينقصها كُتٌّاب. وهو ما عبّر عنه كاتب الخيال العلمي ديفيد غوغان في قوله، «إذا اخترت النشر الذاتي، فإنك تختار نفسك بدلاً من الانتظار (للأبد) ليتم اختيارك. يمكنك اختيار غلاف مناسب لكتابك، بدلا من غلاف يفرضه عليك ناشر حريص على الانتقال إلى الدفعة التالية من العناوين».
قلة العروض الترويجية
قلة العروض الترويجية من أسباب فشل النشر التقليدي، فمن أكثر الطرق فعالية لجذب قراء جدد تقديمُ عيناتٍ مجانية من كتاب جديد، وتخفيضات وعروض ترويجية أخرى شائعة. والنشر الذاتي في أفضل موقع لذلك، وأكثر جاذبية من النشر التقليدي، إذ باستطاعة المؤلف أن يتقاسم فصلا من كتابه مع الجماهير. ويمكنه أيضا أن يمنح القراء نسخة من كتاب قديم منشور بصيغة بي دي أف مجانا، أو أن يقدّمه لهم بسعر مخفض مكافأة لهم إن قاموا بشراء كتابه الجديد. من مزايا مثل هذه العروض لفت انتباه قراء جدد وزيادة الاهتمام بالكتاب ورفع حجم المبيعات.
الطباعة عند الطلب
من نقائص دور النشر التقليدي الطباعة عند الطلب (POD) التي تعدّ من أعظم فوائد النشر الذاتي. تتمثل هذه التقنية في الاحتفاظ بنسخة رقمية من الكتاب جاهزة للطبع في أي وقت. ولا تتم طباعة نسخة من الكتاب قبل استلام طلب. بمعنى آخر، يُطبع الكتاب حسب الطلب. من مزايا هذه التقنية توفير مساحات التخزين في المستودعات والموارد ومن جملتها الورق والحبر والطاقة وعدم استخدام كل ذلك دون ضرورة. يختلف الوضع في النشر التقليدي حيث تُطبع الكتب مقدما، وكلما ارتفع عدد النسخ المطبوعة، قلت تكلفة الكتاب، وهو ما يشجع على طباعة عدد أكبر من الكتب قد لا يباع منها إلا القليل. من مساوئ ذلك زيادة مخزون الكتب المطبوعة وأكوام الكتب المخزّنة في المستودعات، فضلا عن تراكم الكتب على رفوف المكتبات.
قتل النشر التقليدي
مع إعلان المزيد من دور النشر عن تسريح العمال، وإعلان البعض إفلاسها، وانصراف المزيد من المؤلفين عنها وإقبالهم على منصات النشر الذاتي عبر الإنترنت، فإنّ موت النشر التقليدي بات وشيكًا. وبينما تتعرّض دور النشر التقليدي لضربات مؤلمة من اتجاهات مختلفة، لاسيما من منصات النشر الذاتي العملاقة أمثال أمازون كيندل وآبل بوكس، فإنَّ الضربة الأخيرة القاضية ستكون حتما من المؤلفين أنفسهم الذين يستمرون في التخلّي عنها لأجل منصات نشر ذاتي أقلّ تكلفة، وأكثر فائدة، تمنحهم حرية التحكم في أعمالهم. من هؤلاء الكتّاب في زماننا أسماء ذات وزن ثقيل أمثال سلمان رشدي الذي قال لـ»الغارديان» بعد اختياره النشر على منصة سابستاك بدلا من النشر التقليدي، «أتصور أنّ هذه محاولة أخرى منّي لقتل الطباعة».
كاتب جزائري
هذا مقال مهم جدا ، يهمّ المثقفين العرب على اختلاف توجهاتهم ؛ لأنّه يفتح نافذة للأمل في النشر بعيدا عن الناشرين العرب . وقد جاء هذا المقال في وقت مناسب بعد جائحة كورونا ، وتحجج الناشرين بما أحدثته من أهوال . أرجو من الأستاذ مولود بن زايدي المحترم أن يردف مقاله بآخر ، يبين فيه طرق التواصل مع المنصات العربية التي مهمتها نشر الكتب الكترونيا . وللحديث بقية . مع الشكر للقدس العربي الغرّاء . د. وليد محمود خالص
شكرا للمقال واتفق مع الدكتور وليد محمود مخلص، وأرجو من الأستاذ مولود بن زايدي المحترم أن يردف مقاله بآخر ، يبين فيه طرق التواصل مع المنصات العربية التي مهمتها نشر الكتب الكترونيا واية تفاصيل أخرى مع عناوينها الأمينة.