أبرزنا في مقال سابق التباينات الكثيرة بين منطلقات وأهداف ووسائل الأنظمة الديمقراطية عبر مختلف بلدان العالم، ثم في مقال لاحق سردنا التباينات الكثيرة في تعريفات الديمقراطية. كان الهدف هو إظهار أننا، نحن العرب وإذ نستعد للانتقال من أنظمة الاستبداد بأشكالها المختلفة، وخلفياتها التاريخية المتعددة، فإننا بأشد الحاجة لننخرط في وضع تصور لديمقراطية عربية متفق عليها ومقبولة إلى حد كبير، من قبل الجزء الأكبر من مؤسسات وأفراد المجتمعات العربية.
لكن من الضروري أن يدرك شباب وشابات الأمة العربية، الذين سيعتمد ذلك الانتقال على جهودهم النضالية وتضحياتهم، أن يدركوا أن الانتقال يتطلب توفر مجتمع نجح في التخلص من أغلب معوقات الديمقراطية، ومن أغلب التشوهات المجتمعية التي تتناقض جذريا مع منطلقات وأهداف وممارسات أي نظام ديمقراطي.
هذا هو شرط الشروط لتجنب الانتقال العربي لديمقراطية مظهرية مشوهة، غير قابلة لإعطاء زخم وحيوية لجهود الخروج من التخلف العربي الحضاري التاريخي. سيحتاج شباب وشابات الأمة، أن يُقنعوا ويدفعوا مجتمعاتهم العربية لتتخلى عن الكثير من الأفكار والسلوكيات والأنظمة، على أن يبدأوا بأنفسهم، ويكونوا قدوة لغيرهم. إن الطريق طويل وشاق، وقائمة المعوقات، حتى في البلدان المتقدمة، طويلة وتزداد جيلا بعد جيل. وبالطبع ما يعنينا في الدرجة الأولى هو وجود العوائق التي يتميز بها الوطن العربي، خصوصا في حالته الكارثية الحالية. أهم عائق الآن الصراعات المركبة المتشابكة في شكل عنف جهادي إرهابي مجنون، فجّرته ورعته ومولته جهات خارجية استعمارية واستخباراتية من جهة، وجهات داخلية عربية انتهازية نفعية من جهة أخرى. لقد جمعت هذه الظاهرة تخلفا دينيا وفقهيا وطائفيا، تراكم عبر القرون، لا يمت بصلة إلى طهارة وتسامح الدين الحنيف، ولا لأي نوع من العقلانية والأخلاق القيمية وروح العصر، الذي بدوره سمح لتجذر استباحة سياسية، وأمنية وعسكرية خارجية، لم ير الوطن العربي مثلها حتى في أحلك أيام استعماره. ولذلك فأي حديث عن الانتقال إلى أي نوع من الديمقراطية قبل إنهاء تلك الظاهرة، وإقتلاعها من جذورها الدينية المريضة، ووقف الاستباحة الخارجية التي رافقت تلك الظاهرة، هو نوع من الهذر الذي لن يوصل إلى شيء.
لسنا أمام عائق الانتقال إلى الديمقراطية فقط، وإنما نحن أمام خطر يهدد الأسس التي قامت عليها الدولة العربية الحديثة
فإذا اضفنا إلى ذلك نجاح البعض في تحويل المشهد المذهبي الفقهي من اختلافات تاريخية في وجهات نظر فقهية وسياسية، إلى صراعات ومشاحنات طائفية بغيضة من أجل خدمة المطامع السياسية لهذه الجهة أو تلك، أدركنا مدى وحجم وعمق وتشابك المشهد الديني في الحياة العربية الحالية، وكيف أنه يمثل أحد أهم العوائق في وجه الانتقال الديمقراطي العربي. كان دخولنا في تفاصيل المشهد الديني الجديد مقصودا، إذ أنه يعيش انعطافات خطرة عن المجرى التاريخي للخلافات المذهبية الإسلامية، الذي اتسم بصفة عامة بالتساكن والتعايش وحتى التسامح. لسنا أمام عائق الانتقال إلى الديمقراطية العربية فقط، وإنما نحن أيضا أمام خطر يهدد الأسس التي قامت عليها الدولة العربية الحديثة، ومع ذلك فمطلوب من شباب وشابات الأمة مواجهة العوائق العربية الكلاسيكية الأخرى مثل، الحقوق الكاملة للمرأة العربية في المواطنة، ومعارضة كل إنتهاك في منظومة حقوق الإنسان، ومقاومة الدعم الاستعماري الخارجي لكل أنواع الأوتوقراطيات في أرض العرب، والنضال ضد كل نوع من التشوه الاجتماعي مثل، الفقر والأمية والامتيازات غير المستحقة لهذه المجموعة أو تلك، وضد هيمنة المال ومؤسساته على الحياة السياسية، وضد التعدي على استقلال مؤسسة القضاء، وضد احتكار الإعلام من قبل أصحاب السلطة والمال والانتهازيين، وضد وباء الفساد المالي والسياسي المنتشر بشكل مريع.
النضالات تلك هي أحد أهم الطرق لبناء ثقافة سياسية مجتمعية عربية ترى في الديمقراطية هدفا لا يمكن التنازل عنه قط، مهما كانت الذرائع لمحاولات تأجيله بسبب هذا الظرف أو ذاك، وهو ما فعلته جهات عديدة عبر قرن كامل من الحياة السياسية العربية الحديثة. تبني النضال ضد عوائق الانتقال إلى الديمقراطية العربية سيفتح الباب، حكما ومنطقيا وضرورة، للحديث عن أي ديمقراطية عربية يريدها الشعب العربي.
كاتب بحريني
لا خلاص إلا بكفاح الشعوب، وارتقاء الفكر، وتضافر الجهود والرؤى للتخلص من الوحش الرابض على صدورنا.. يا مثقفو هذه الأمة اتحدوا.