يواجه النظام السياسي العربي مشكلة تأسيس السلطة وتحديدها، خاصة ما يتعلق بإيجاد التوازن بين الحريات المدنية والسياسات الأمنية، وتيسير روابط التماهي بين الشعب ومؤسسات الدولة المرغوبة، وهي مسألة صعبة تثير قضايا حقوق المواطنة وطبيعة السلطة السياسية.
والحالة العربية مازالت بعيدة كل البعد عن مثل هذه الأطر النظرية وتجسداتها العملية. ولا يُمكن انكار ما يجري داخل أغلب الدول العربية من استقطاب طبقي اجتماعي وسياسي، بين فئات تحتكر السلطة والثروة وطبقات فقيرة مُعدمة، معزولة ومهمشة، لا يُلتفت إليها إلا في فترة الدعاية الانتخابية، واستدرار التعاطف والتذلل لضمان الأصوات. وهذا الواقع السياسي وإن كان في جزء منه نتاج تأثير سياسة العولمة والرأسمالية المتوحشة، التي تجاوزت كل الحدود التقليدية، وأنتجت بدورها استقطابا اجتماعيا وسياسيا على الصعيد العالمي، وفق منطق التدخل القسري في شؤون الدول، من خلال الأذرع المالية، والمؤسسات السياسية، والضغوط الدبلوماسية التي تلخص إرادة الهيمنة، لا يمكن مع ذلك استثناء مسؤولية الأنظمة التسلطية العربية، التي ساهمت في تكريس التخلف والتبعية، وعملت طوعا كحكومات زبائنية ترتهن بإرادة الأجنبي، ولا تخدم مصالح الدولة الوطنية، أو تهتم بمطالب الشعوب في الحياة الكريمة.
الخطاب الديمقراطي المسوّق عربيا مجرد خطاب استهلاكي ديماغوجي يُلهي الجماهير ويسيرها كالقطيع نحو الحظيرة
ولدينا في تونس حكومات تتناسى الجهات الداخلية، وتُذكرها الاحتجاجات الشعبية الناتجة عن احتقان متواصل، أو تلك التي تُفعلها مأساة إنسانية تُودي بحياة الكادحين الذين سحقتهم الدولة المركزية، وظلت أحلام التنمية وتغيير واقعهم مجرد خيال جامح يراود أذهانهم، إن المشكلات نفسها مازالت قائمة. ومع ذلك يتبعون سياسة المناورة والتسويف، ويلجأون إلى القمع والاعتقالات في بعض الأحيان، كما حدث مع عدد من شباب مدينة «تالة» من ولاية «القصرين»، الذين احتجوا على التهميش والبطالة وغياب الحلول في جهتهم، تلك التي دفعت الكثير من أبنائها، قبل أن تساهم في إسقاط نظام الحزب الواحد الذي مكن زين العابدين بن علي من الحكم لمدة 23 سنة، لم تنل فيها مثل هذه الجهات سوى الحرمان وكل أشكال التهميش، وتضاعف نسب الفقر نتيجة غياب الدولة وانعدام الرؤى والمشاريع التنموية. ومثل هذه الممارسات تنسف تزكية المنوال التونسي ديمقراطيا، أخْذا في الاعتبار أن النظام الديمقراطي الذي لم يغادر أطر المتاجرة والتسويق الدعائي عربيا، بالأمس واليوم هو من أنجح الأغطية النظرية لصيانة الاستبداد السياسي، لدى نُظم الحكم في البلدان العربية، وهو المستهجن فلسفيا منذ تنظيرات أفلاطون قديما، التي اعتبرته من بين الأنظمة الخمسة الضالة والفاسدة. فهو ينشأ في رحم الاستبداد وينتهي إلى الطغيان، وما بينهما استبداد مقنن بمفاهيم وشعارات زائفة ومظللة لأغلبية لا تدرك حقيقة الطغمة التي تسيطر على مصائرها، فالديمقراطية في وجه من وجوهها لعبة الأغنياء، لتلهية الغوغاء، خاصة عندما تنشئ آليات للاستبداد والعنف «الشرعي» يصعب على الناس العاديين ادراكها في أغلب الأحيان. والنتيجة محسومة باسم «الشرعية الشعبية الموهومة» سواء باشر الشعب حقه الانتخابي أو لم يباشره.
الخطاب الديمقراطي المسوق عربيا مجرد خطاب استهلاكي ديماغوجي يُلهي الجماهير ويسيرها كالقطيع نحو الحظيرة، فالنظام الفردي الاستبدادي متجذر في الذهنية الحاكمة، وعَقَبَة الذهنية التي تنزع إلى السلطوية الشاملة هي التي تُعرقل مشروع الحياة المواطنية الحقيقية، وبالتالي ما يُدْعى أنه «ديمقراطية» في تونس أو غيرها لا يتعدى إمكان ديمقراطية مستبدة ومخاتلة يتقاسم فيها أقلية الحكم، إن لم تكن في يد متسلط واحد يجود بالفتات على بعضهم ليضمن ألسنتهم في سوق الدعاية وتجميل الصورة. وطبائع الاستبداد المتوارث تزيد القطيعة بين الدولة والمجتمع، وترتد بفضلها حتما ثقة الناس في الحُكام، ليحدث الخلط في تمثل مفهوم الدولة، وبالتالي تنامي اللجوء إلى العنف من الطرفين، ويؤولُ الأمر إلى احتباس ديمقراطي يترك حالات الإرباك قائمة في كل حين، وهو الأخطر ضمن ديناميكية حياة الشعوب التي لا تشعر بالطمأنينة إزاء حاضرها ومستقبلها في آن. واتساقا مع ما سبق يحاول النظام القائم منذ سنوات في تونس، إعادة تمتين الهياكل القديمة نفسها على شاكلة لجان التنسيق لحزب التجمع المنحل، وغرضها السيطرة على الجهات، والحد من الاحتجاجات المشروعة، ولكنها محاولات تجد في كل مرة شبابا ثائرا متحمسا يأبى النكوص إلى الوراء، أو الخضوع لمسؤولين محليين فاسدين يرغبون في فرض واجب الطاعة بشكل انتهازي حقير يُفقد الشخص كرامته ويدفعه إلى التذلل والمحاباة، وهي معادلة مستهجنة لدى فئات واسعة تبعث بإشارات الرفض تجاه سياسات الإجحاف، ولمن يسيئون استخدام السلطة ولا يملكون إرادة التغيير بما تعنيه من إصلاح المؤسسات وإنجاز مشاريع تنموية من شأنها تقليص البطالة والحد من الفقر، وإعادة ثقة الناس في السياسة والسياسيين.
كاتب تونسي
من وجهة نظري عنوان (النظام السياسي العربي ومشكلة تأسيس السلطة) يلخص إشكالية سوء فهم المثقف/السياسي/العلماني في دولة الحداثة، في أجواء العولمة والإقتصاد الإلكتروني في عام 2019، لماذا؟!
ودليلي ما حصل في الجزائر والسودان، بل وحتى وتونس والعراق والمغرب والأردن وسوريا وليبيا ولبنان سببه الأساسي لسوء الخدمات في الدولة،
أنّ الموظف لا ينتج من وظيفته، أي منتج ذو عائداً اقتصادياً، يستطيع تغطية حاجة ميزانية الدولة.
استغلال القانون لزيادة الإيرادات من الإنسان والأسرة والشركة المنتجة في الدولة، دون تقديم أي خدمات ذات جودة مقبولة، تؤدي إلى الإنفجار.
ولذلك والسؤال الأهم الآن من وجهة نظري، هو كيف نستغل تسخير الأتمتة، في تحسين ما توفره الدولة من خدمات، من أجل زيادة الإيرادات للجميع، الإنسان والأسرة والشركة المنتجة وبالتالي الدولة، كما تطرحه أم الشركات (مشروع صالح التايواني).??
??????