عملت أمريكا وحلفاؤها على ضمان أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تشعر بانعدام الأمن والتهديد الوجودي لها. فهي تعيش كبؤرة استيطانية وسط محيط رافض لها ولوجودها. وكي تتغلب على هذه المعضلة الوجودية؛ نشطت تخطيطا وتنفيذا خلال عدة عقود في المجالات التالية:
أولا، تفتيت الدول العربية، سواء دول الطوق، أو جوار دول الطوق؛ بطرق وأساليب عدة على طريقة توزيع الولاءات عرقيا وإثنيا.. وافتعال الحروب الأهلية كما في شمال العراق، وفي جنوب السودان، الذي انفصل بعد عدة عقود من التمرد، ولا تزال حركات التمرد العرقي والإثني مستمرة هناك، أو تشجيع ودفع الأقليات للتمرد وإحداث البلبلة والاضطرابات والقلق الأمني في أكثر من دولة عربية.
ثانيا، تأليب بعض الدول على الدول العربية المجاورة لها مثل؛ إثيوبيا وتركيا وإيران؛ عبورا إلى الهند وباكستان والصين، والدول الثلاث الأخيرة؛ عززت دولة الاحتلال الإسرائيلي وجودها فيها.
ثالثا، في العقود الأخيرة استخدمت دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ توريد السلاح المصنوع إسرائيليا، أو بمشاركة إسرائيلية ـ أمريكية، إلى دول جوار الأوطان العربية، أو الدول التي تقع في الدائرة الأبعد في افريقيا وآسيا الوسطى.
رابعا، استثمرت كل ما سبق في كسر عزلتها؛ حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من التطبيع المجاني مع بعض الدول العربية؛ من دون كلفة أو ثمن.
قطعا ما كان لدولة الاحتلال الإسرائيلي أن تصل إلى ما وصلت إليه حاليا؛ لولا الأسباب التالية:
أولا: أغلب الأنظمة العربية، إن لم أقل كلها؛ كانت أنظمة ديكتاتورية، حكمت شعوبها بالحديد والنار، وطردت كل الأحزاب والقوى السياسية المعارضة من المشهد السياسي، التي لو وجدت لساهمت مساهمة فعالة في تنشيط الحراك الثقافي والسياسي، والأهم لتم إغلاق كل أبواب التدخل في الشأن السياسي الداخلي، إقليميا ودوليا. أما النخبة المثقفة والمفكرة فإن لها شأنا آخر، فكان أثرها، بين الناس قليلا جدا، ويقتصر على فئة محدودة تروم المعرفة؛ خوفا من جبروت واستبداد الأنظمة؛ لذا كان نشاطها يتستر خلف الرمز والإشارات والعلامات ذات الدلالات التي لا يفهمها إلا المتابع لها. هذا معناه أن الساحة كانت فارغة من النشاط المنتج جماهيرا وشعبيا؛ هنا لعبت القوى الدولية والإقليمية دورا كبيرا، في ملء هذا الفراغ بطروحات في ظاهرها خدمة الوطن والمواطن، وباطنها بالضد تماما.
امريكا والغرب يواجهان عالما متغير تغيرا استراتيجيا، يهدد جديا هيمنتهما على العالم، وتفردهما بمصائر شعوب العالم الثالث
ثانيا: استثمرت القوى الدولية والإقليمية والحركة الصهيونية؛ الفراغ لمصلحتها وجندت الكثير من التابعين والمريدين والمروجين لها ولطروحاتها؛ التي تنحصر في العزف على وتر الظلم والمظالم التي يتعرض لها الشعب، ولم يكن هدف تلك القوى رفع المظالم، ومساعدة الشعوب العربية لنيل حريتها، بل قامت بعملية غسيل الدماغ، وزرع اليأس في النفوس والعقول معا؛ وطرح البديل الذي هو في الظاهر الحرية، سواء في الكلمة والرأي والموقف، أو في ممارسة الديمقراطية في اختيار الحاكم، بينما الحقيقة هي خلاف ذلك، وهذا هو ما أثبتته الأحداث لاحقا.. ليكون لهذه القوى الدولية؛ وجود في المشهد السياسي والثقافي وحتى الاقتصادي في الدول العربية موضوع التغيير، سواء بما سمي بالربيع العربي أو بغير هذا الربيع؛ في عملية تخادم مصلحي بين القوى الدولية والإقليمية والصهيونية..
ثالثا: حروب المنطقة كانت في جانب كبير منها، حروبا أججها العامل الدولي، الأمريكي والغربي والصهيوني، وهذا لا يعني بأي صورة من الصور تبرئة طرفي الحرب، اللذين ساهما في إشعالها، مساهمة فعالة. كما أن الخلافات العربية العربية، سواء في السياسة أو الدبلوماسية، أو في حلقات التآمر ضد بعضها بعضا، وخطيئة العراق في غزو واحتلال الكويت. هذه كلها قتلت روح النضال العربي الواحد الموحد؛ وهيأت الظروف النفسية لتقبل طروحات العامل الدولي، الامريكي والغربي والصهيوني، في تسفيه النضال العربي ومساراته؛ إعلاميا وسياسيا وفكريا.. لأن الأنظمة الديكتاتورية كانت تحكم الشعوب العربية في بلدانها على أساس وموجبات ومقتضيات فكرة النضال والمصير العربي المشترك، أما الفعل في الميدان فكان على النقيض من ذلك. ما جعل المواطن العربي الذي رزح تحت قوة وقسوة العيش في ظل مظالم النظم العربية الاستبدادية، يتقبل طروحات القوى الدولية، من خلال الإعلام والأدب والدراسات، التي كان لها الأثر الكبير جدا في إحداث شرخ في روحية ونفسية وعقلية المواطن العربي.
رابعا: ثارت الشعوب العربية في أكثر من بلد على النظم الملكية، أو غير الملكية التي حكمت الأقطار العربية في مشرق الوطن العربي وفي غربه، بعد رحيل المستعمر البريطاني والفرنسي، وكان رحليهما صوريا، فقد ظل هذان المستعمران يتحكمان في الشؤون الداخلية والخارجية لهذه الدول العربية بواسطة الملوك والحكام وأعوانهما. ما أدى إلى قيام الشعوب العربية بالثورة على الأنظمة العميلة والتابعة لهذين المستعمرين. لكن الحكام الجدد الذين أوصلتهم ثورة الشعوب الى سدة الحكم؛ حكموا الشعوب بالقوة والقسوة ومصادرة الرأي والعقول نفسها. فما كان من العامل الدولي؛ إلا ان يستثمر هذا لصالحه؛ بطريقة منهجية؛ في تسفيه الثورات الشعبية من قبيل لو أن ما حدث، لم يحدث، أي بقاء الأنظمة السابقة على سدة الحكم، لما كان ما كان من معاناة الشعوب العربية، ولكانت الأوضاع أفضل كثيرا، بطريقة تبديل الحقائق بحقائق وهمية، ما جعل الشعوب العربية التي طالتها التغييرات تحن للماضي؛ متناسية ان تلك الحقبة لم تشهد اي بناء أو تنمية حقيقية على الرغم من وفرة الموارد وقلة السكان في ذلك الزمن، ولم تكن هناك أي حرية للرأي والكلمة بصورة واقعية وحقيقية.
خامسا: تم ترسيخ مقولة إن الولايات المتحدة لا يمكن لأي دولة من دول العالم الثالث؛ مواجهة نفوذها وسيطرتها أو التخلص منها.. ولها القوة والقدرة على تحطيم أي دولة تعارضها أو تتصدى لها.. وكانت هذه حجة الأنظمة العربية وأنظمة جوار المنطقة العربية؛ التي تتلخص في أنها لا تريد أن تمنح أمريكا وإسرائيل فرصة؛ جرهما إلى حرب تريدانها.
لكن ما حدث من ملحمة السابع من أكتوبر، حطم كل تلك الطروحات التي تقول إنه لا يمكن مواجهة أمريكا او دولة الاحتلال الإسرائيلي، فقد صمدت المقاومة الفلسطينية في الميدان، رغم المذابح التي يمارسها الكيان الاسرائيلي المحتل، ولم تزل المقاومة صامدة تماما، وستنتصر في نهاية المطاف. من الجانب الثاني فضحت المقاومة دولة الاحتلال الإسرائيلي وسياسة امريكا والغرب، في ممارسة سياسة الكيل بمكيالين في ما يخص العدالة والحق والقانون الإنساني والدولي، مما قاد إلى عزل دولة الاحتلال الاسرائيلي، وتقديم مجرميها إلى المحكمة، مع تحفظنا على خطوات الجنائية الدولية المزدوجة. دولة الاحتلال الاسرائيلي تعاني الآن أزمة وجود، كما أن امريكا والغرب يواجهان عالما متغير تغيرا استراتيجيا، يهدد جديا هيمنتهما على العالم، وتفردهما بمصائر شعوب العالم الثالث. إنها فرصة تاريخية استثمرتها إيران لصالحها ودول اخرى تحذو حذو ايران. لكن النظام العربي لايزال يركض خلف الراعي الأمريكي، على حساب مصالح الشعوب العربية والشعب العربي الفلسطيني في المقدمة. هذه السياسة سيدفع ثمنها النظام العربي عاجلا أو آجلا، بحكم الضرورة التاريخية، وما تفرضه من تحولات. كما أن دولة الاحتلال الإسرائيلي هي الأخرى ستدفع ثمن تجبرها وجرائمها؛ ثمنا يمس مسا جديا وفاعلا وجودها.
كاتب عراقي