النقاش السياسيّ ومقوّضاته: أوهام «الذكائية» و«الأخلاقويّة»

حجم الخط
0

ضربان ليس بإمكانهما أن يخرجا أيّ نقاش سياسيّ من دائرة تكرار المواقف كما لو كانت محض تعاويذ لا أكثر ولا أقل، من دون أي محاولة جدّية لإحداث اختراق بين «المتعاندين». من دون أي تسلّل يُرتجى بين الحواجز الإسمنتية الوهمية، الأمر الذي يحكم على النقاش مسبقاً بأن يستحيل سجالاً فاقداً لشروطه، وأن يتقزّم هذراً.
الضرب الأوّل المُفسد لأي نقاش هو اعتبار أن أساس الافتراق في النظرة والتقييم والموقع والموقف إزاء هذه الأزمة أو ذاك النزاع هو معدّل النباهة أو الذكاء.
كما لو كان خصمك في هذه المواقعة أو تلك «غبياً» أو «ساذجاً» لمجرّد أنه خصمك، أو حتى لمجرّد أنه لا يثني على صيغك القوليّة، ولا تشعر أنت بأنه يستشعر هو بما يدور في خلجك أنت!
ولا يختلف عن هذا الضرب جدّياً أن تقسم من يرى ما لا تراه إلى محتال من جهة، وآخر مغرّر به من جهة أخرى.
طالما استمرّت السياسة «مسابقة في الذكاء» بنظرك حبست نفسك مسبقاً عن أي قابلية لاختراق خطط الخصم. ولتبع ذلك حكماً أنك أسرت نفسك في لحظة ماضية بالضرورة، وما استمهلك كثيراً باص الوقت.
الدهاء في أساس السياسة. مع ذلك، ليست السياسة مسابقة في الذكاء، ومن الدهاء إدراك ذلك.
وإلا، لما عاد من فارق بين الذكاء وبين ادّعائه. بين الادعاء وبين التذاكي.
وبما أنك لن ترضى بأن يقيّم طرف ثالث التفاضل الذكائي المتخيّل بينك وبين مخالفك، ستنتهي معك اللعبة إلى اعتبار أنك الذكي والصادق في آن، وغيرك «اللئيم الساذج».
تخيّل معي عندما تقيّم أسباب الحرب الأهلية في لبنان كما لو أنها كانت ناشئة عن اختلاف في معدّل الذكاء بين القوى السياسية آنذاك. تفسير حرب لبنان على هذا النحو أظنه أقرب ما يكون إلى البلادة. لكن هذا النوع من الخمول متوفّر، وأحياناً تحت يافطة «النقد الذاتي». اليساري المتفسّخ مثلاً يخبرك بعد نصف قرن على الشقاق الأهلي أن المشكلة كانت أن ربعه لم يكن ذكيّاً بما فيه الكفاية عندما اختار إغراق الواقع اللبناني بالقضية الفلسطينية. لا يعني ذلك، مجدداً، أن الحسابات الخاطئة قد ظلّت بمنأى عن خيارات سوء تقدير جسيمة. إنما هذه الحسابات الخاطئة لا يمكن أن ترصد بمعزل عن الحيثيات التي كانت لديك أو تحاول تمثّلها والدفاع عنها. ليس من الذكاء في الشيء أساساً الاكتفاء به من دون فهم تشابك وتنازع الهويات والمصالح.
أما رهن الانزلاق إلى الحرب في باب الانتقاء بين احتمالات متروكة لديك في لعبة ذهنية، فهذه اتركها للاختبارات في برامج المنوعات.
لا حرب لبنان، ولا انتفاضات 2011، ولا النقاش حول المقاربة الناجعة للحرب الحالية من الممكن رهنها في مباريات ذكاء.
والأدهى المباريات التي لا يحتكم فيها المتبارون إلى طرف ثالث، لجنة حكم، بل يدعي كل نفر أن «الواقع» انتدبه هو للنطق بلسانه. وهذا بعض من «الأنا واحدية» من عدم القدرة على تمثل الواقع إلا كنوبة من نوبات أناك أنت.
والحال أن أي تقزيم للسياسة، والاختلاف في تقييم أزمة ما أو حرب ما، إلى «مباراة في الذكاء» تنتهي إلى أن كل مسابقة في… التبختر.
الضرب الثاني الذي كثيراً ما يصاحب الأول، وأحياناً يغطي عليه، هو اعتبار «السياسة مباراة في الأخلاق» وليس في الذكاء فحسب.

المُفسد لأي نقاش هو اعتبار أن أساس الافتراق في النظرة والتقييم والموقع والموقف إزاء هذه الأزمة أو ذاك النزاع هو معدّل النباهة أو الذكاء

في بلدان العالم الثالث جميعها تقريباً هذا يعيدنا في آخر المطاف إلى مبارزة أخلاقوية بين شرّ الاستبداد وبين شرّ الاستعمار. أيّ الشرّين أفظع، وأيّ صنف منهما أرحم.
المشكلة تبدأ هنا من الابتعاد عن تحقيق تاريخية المسائل، مروراً بتاريخية المفاهيم نفسها. والمشكلة تزيد لأنه من الأجدى الموازنة بين التاريخية كشرط ضروري للنظر إلى استعمار في بقعة ما في حقبة ما، أو إلى الاستبداد، أو إلى تداخلهما، وبين الحاجة إلى تحييد هذه «التاريخية» قدر المستطاع عن «الغائية» عن اعتبار أن ترميم السياق التاريخي لفهم حدث أو ظاهرة ما لا يستقيم إلا بتجنيد هذا السياق لصالح غاية خفية كان يتحرّك بصددها، بصرف النظر عن أشكال الوعي الحالة بالقوى الفاعلة وبعموم الناس وقتها.
إرجاع السياسة إلى مباراة في الأخلاق، ومن ثم إلى مفاضلة لا تاريخية وجوهرانية بين الاستبداد بجميع أحواله وبين الاستعمار بجميع نماذجه يؤدي في الوقت نفسه إلى ظهور افتراق بين ما ساد مطولاً الجمع بينه في مصنفات العصر الوسيط تحت خانة «تهذيب الأخلاق».
كما لو أن اعتبار هذه المعركة أخلاقية أولاً، والمختلف عنك فيها مختلّ في أخلاقه أولاً، يستوجب تجريم «التهذيب» نفسه للدفاع عن «الأخلاق المتعالية» «ما فوق التهذيب» باعتبار أن التهذيب مشكوك بأمره، لزوم ما لا يلزم، مجرد تنميق وزخرفة، والمطلوب درء الجوهر الأخلاقي من كل هذه الحذلقات وإرجاعه إلى الصفاء والصدق بالهجائيات وحدها.
العلاقة بين الأخلاق وبين السياسة محور أساسي للفكر، سواء تناوله الفكر من نقطة الأخلاق المقدرة في اتجاه السياسة أو العكس.
إلا أنها في الأول والآخر: علاقة. أي تفترض أن السياسة شيء والأخلاق شيء آخر. ليست الأخلاق شيئاً آخر بالتمام وعلى الدوام، إلا أن لها رزمة مفاتيح واعتبارات مختلفة. هذا قبل الولوج إلى الاختلاف بين المذاهب والمدارس في مضمار الأخلاقيات. يمكنك مثلاً أن تعطي الأولوية في وزنك للأخلاق إلى النوايا أو إلى المقاصد، ويمكنك أن تقدّم عليها الكلفة بحد ذاتها أو النتائج الأخيرة. ويمكن أن يكون معيارك مقدار السعادة التي تبثها حولك، أو مقدار الصدق، وليس من الضرورة أن تتماهى السعادة والصدق.
في كل الحالات ليس من الأخلاقي ولا من المثري فكرياً اعتبار الاختلاف بين المذاهب الأخلاقية اختلافاً «أخلاقوياً» هو الآخر، بين حق وبين باطل. لا وجاهة لأي فكر أخلاقي غير قادر على استيعاب تعددية المذاهب الأخلاقية في تاريخ الفكر، وفي تاريخ الثقافات الإنسانية المختلفة.
حتى إذا ما انتقلنا إلى السياسة، بات سؤال الأخلاق شائكاً أكثر، واتخذ لنفسه الشكل التالي في الكثير من الأحيان: إلى أي حد، يسوّغ لي التصور الذي ابتنيه عن الأخلاق أن لا أكون أخلاقياً في الحالة الاستثنائية كيت أو كيت؟! إلى أي حد يمكنني اعتبار «تعليق الأخلاق» في موضع معين حاجة أخلاقية؟!
لم يعبّر تراث عن ذلك بوضوح قدر مدونة «الآرتاشاسترا» الهندية القديمة المنسوبة لتشانكيا كاوتيليا، الوزير الداهية في بلاط آخر أباطرة سلالة الموريا. بخلاف تصور آخر للسياسة كان يستلزم منها أن تقتدي بما يرتئيه لها الرهبان من نموذج أخلاقي أعلى، القانون الواجبيّ الأزلي للدارما، قالت الآرتاشاسترا بأن الدارما الواجبة على من يتولى الملك تقتضي منه لزاماً أن لا يضع نفسه في موقع «تطبيقي» لما يرتئيه الرهبان.
فعليه مثلاً، وبدءاً، أن يتوجّس من كل من حوله، بدءاً من الملكة والقيّان ومن في البلاط، حتى آخر نفر ضمن مملكته، بمن فيهم الرهبان والنساك الزهاد، ومن الأصدقاء والأعداء معاً. أن لا يثق بأحد، وأن يروّض نفسه، ويتحكّم بأهوائه في الوقت نفسه كي لا يقع فريسة لشكه بالجميع، بل يسخّر هذا الاحتراس المعمم لما فيه تقوية دعائم ملكه.
كذلك، أناط كوتيليا بملكه وهو يقدّم له تحفة في أدب النصح، أن يكون الجاسوس الأكبر، على رأس شبكة من الجواسيس والعسس تجوب البلاد بألف ثوب ومظهر لتنقل لرأس الهرم كل ما تراه وتسمع. بما في ذلك ثوب الناسك وثوب المتهتك. هذه هي السياسة. أن تشك بمن سواك، جميعهم، وأن لا يفترسك هذا الشك. وأن تتعلّم الإنصات للقاصي والداني، تلتقط أي كلمة تبدر من هنا وهناك بعناية، فلا تطيل كثيراً في استغباء هذا، أو الاحتفاء بتفوقك الأخلاقي على سواك، الذي لا سند عليه إلا ما تردده أنت.

كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية