■ عندما نناقش حضور الدين في النقد الأدبي، فإننا نستهدف في هذا النقاش التعامل مع جوهر المنهجيات النقدية الغربية، والوقوف على جذورها وتشكلاتها، وكيف تفاعل معها المجتمع الثقافي الغربي، فالقضية ليست طرح فكر أو فلسفة أو نهج، وإنما في مدى قبول الحياة الثقافية لهذا الطرح، فكم من الأفكار والفلسفات ماتت في مهدها، لأن المجتمع الثقافي لفظها سريعا، وعلى النقيض هناك مذاهب وأفكار تعمقت في تربة الثقافة، وبسقت أشجارها، وأينعت ثمارها.
فمن المهم النظر إلى عدة أمور، أولها: المرجعية النظرية، ونعني بها المصادر الأولى التي انطلق منها المذهب النقدي في تكوينه الأولي، فهناك مرجعيات فلسفية بحتة وهناك مرجعيات دينية، ويخطئ الكثيرون عندما لا ينتبهون إلى الحاضنة الأولى للمذهب النقدي، فمنها تنبثق التوجهات والمصطلحات والأطر والإجراءات، حتى لو تكونت فلسفة تعمقه، فإن الحاضنة الأولية يظل لها الفضل الأساسي، ويتجلى هذا في المصطلحات والأبعاد المعرفية. أما ثانيها: فهو تأمل الإبداعات المعبرة عن المذهب الأدبي والنقدي، فهي مرآة للحياة الثقافية والاجتماعية في مجتمعها وعصرها، فتنقل للقارئ المعتقد والعادات والتقاليد والانحيازات الفكرية المختلفة للناس في المجتمع المعبر عنه.
أما ثالث الأمور: فهو النقد التطبيقي، وقد يعترض البعض بأن النقد التطبيقي هو تفسيري وتأويلي ووصف للجماليات في العمل الإبداعي، وهذا صحيح، ولكن اشتغال الناقد على النص الإبداعي هو عملية إبداع جديدة، بمعنى أنه يقرأ النص الإبداعي في ضوء رؤاه الثقافية والفكرية، وقد ذكر إدوارد سعيد ملاحظات عن ظاهرة النقد الديني التي أطلت برأسها في العقد الأخير، وانحازت في تحليلاتها النقدية إلى الرؤى الغربية الدينية في قراءتها للنصوص، وهي ليست رؤى أخلاقية كما يتوهم البعض، وإنما الانتصار مثلا لتيارات يمينية مسيحية، أو احتضان النصوص الأدبية المعبرة عنها، أو إحياء نصوص أدبية قديمة والاشتغال عليها، أو إعادة قراءة سرديات الكتب المقدسة، وتقديمها للقراء في عالم اليوم، على أنها إجابات لأسئلة ميتافيزيقية، تتصل بنشاطات سياسية بمرجعيات دينية، وكان يوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 لحظة فارقة في إحياء خطابات دينية كولونيالية قديمة.
لقد كانت الرؤية الدينية جلية في الانحيازات الخاصة بمنظري المذاهب الأدبية والنقدية، وفي نظرتهم إلى الأديان الأخرى، فهم يعلنون من شأن التراث اليهودي الديني، ويتعاطفون بشكل كبير مع اليهود وقضاياهم السياسية، خاصة من قبل من يسمون أنفسهم اليمين المسيحي الصهيوني، وينظرون للإسلام نظرة سلبية تصل إلى حد العداء السافر، تأثرا بميراثهم القديم منذ القرون الوسطى، المشرب بالعداء ضد الدولة العثمانية، وفي الوقت نفسه، فإنهم يحتفون بالديانات الشرقية: البوذية والهندوكية والمجوسية في تناقض غير مفهوم، وكأن الهدف غمط الحضارة الإسلامية وثقافتها، وكل ما يتصل بآدابها وتراثها وفنونها.
كانت الرؤية الدينية جلية في الانحيازات الخاصة بمنظري المذاهب الأدبية والنقدية، وفي نظرتهم إلى الأديان الأخرى، فهم يعلنون من شأن التراث اليهودي الديني، ويتعاطفون بشكل كبير مع اليهود وقضاياهم السياسية.
صحيح أن من المستشرقين من أنصف الميراث العلمي والفكري للثقافة الإسلامية، وحقق الكثير من مخطوطاتها، ولكن السمة الملاحَظة في المجمل تلك الروح الاستعلائية غير المنصفة، شديدة القدح لثقافتنا. والغريب في الأمر، أن الحداثيين العرب نقلوا في ثنايا ما ترجموه ولخصوه واحتذوه فكرا وإبداعا ونقدا؛ نقلوا الانحيازات الثقافية الغربية الدينية والرؤيوية ما يتصل بها من موقفها من الخالق والكون والمسيحية والعالم، فوجدنا مفردات تشيع في ثنايا النصوص الأدبية المتأثرة بالمدارس الأدبية الغربية من مثل: قديس، بطريرك، الراهب والرهبنة، العذراء، الدير، الكنيسة، القداس، والخلاص الروحي في الاعتراف أمام القديس إلخ، وامتزج كل ذلك بالصور الشعرية، والعوالم الرومانسية، والأحلام والأماني في القلوب، وكان هذا واضحا في التجربة الشعرية للشاعر الكبير «تي. إس. إليوت»، الذي وظف مفردات ورموزا دينية كثيرة.
وإذا تأملنا أشعار الحداثيين العرب وقصصهم ورواياتهم، سنجد التأثر واضحا بالعهد القديم والعهد الجديد، ولنا أمثلة جلية في أشعار لويس عوض، وأمل دنقل، وجماعة مجلة «شعر» الأدبية التي ظهرت في بيروت خلال خمسينيات القرن العشرين، وثبت في مراجع عديدة أنها كانت ممولة من المنظمات الثقافية الأمريكية. وفي حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، كان السائد لدى الشعراء والروائيين العرب الاتكاء على الموروث اللاهوتي، وكانوا يوصون بعضهم بقراءة الكتاب المقدس، وتوظيف قصص التوراة. كما وظفوا أيضا – بشكل أو بآخر- القرآن الكريم، ولكنه كان توظيفا غير واع للأبعاد الجمالية، والعمق الفكري، والجوانب الإيمانية في القرآن، أي أنه غير نابع من الرؤية الإسلامية الفكرية للأدب.
لذا ، يجب علينا ونحن نقوم بقراءة المذهب الأدبي استحضار السياقات الثقافية والاجتماعية التي أنتجته، مع دراسة الأعمال الأدبية التي عبرت عن المذهب نفسه، وما أكثر ما سنكتشفه من آثار ثقافية تناقض رسالة النقد الأدبي الغربي المعلنة، التي تقول بالموضوعية، والحياد في الطروحات، والعلمية في التحليل والمنهجية.
وهذا لا ينفي وجود نزعة شك حادة نابعة من التصورات العلمانية الشاملة، التي تنأى بالدين تماما عن الحياة، وتجلت تلك في كثير الأعمال الأدبية، ولكن تلك النزعة كانت جزءا من أزمة الإنسان الغربي وموقفه من الدين، فهو إن عارض المسيحية وناقشها وفند الكثير من سرديات العهد القديم، محكما عقله فيها؛ إلا أنه في المقابل سعى إلى نشر المسيحية نفسها، وجعلها شعارا تبشيريا له يتحرك من أجله في العالم، بل كانت المسيحية: ديانة وفكرا وحضارة؛ أساسا في الخطاب الاستعماري الذي رافق الحملات الاستعمارية نحو بلدان الشرق وافريقيا والعالم الجديد، فلا يمكن النظر إلى الأدب والنقد الغربيين من منظور أحادي، يربطه بالعلمانية فقط، وإنما علينا أن ننظر إلى كافة وجوهه، والدين المسيحي أحد مكوناته، ويتجلى في سائر منتجاته المعرفية والأدبية، بجانب وجوب قراءة ما هو فكري في تطبيقاته المختلفة، أي قراءة النظريات الأدبية والنقدية، ومجمل الخطابات التي رافقتها وأحاطت بها، والنقد التطبيقي الذي مارسه نقادها.
وأيضا، علينا الانتباه إلى أن التجربة الأدبية والنقدية العربية المعاصرة، المتأثرة بالتجربة الغربية، كانت امتدادا للانحيازات الدينية والفكرية والفلسفية الغربية، شاء المبدعون أما أبوا، لأنهم تبنوا بشكل مباشر المذهبية الغربية، وانطلقوا من مقولاتها ورؤاها، ولم يقفوا موقف الند: الذي يناقش وهو يتلقى النظرية، ويجادل في الأصول والقواعد، غير منبهر ولا مستلب حضاريا، لأنه في هذا الموقف مستند إلى ثقافة عربية إسلامية راسخة عميقة الجذور، وارفة الأغصان والظلال، يريد الاستفادة والإثراء من تجربة الأدب والنقد الغربيين ولكن القليل هو من فعل ذلك، وظلت محاولاتهم فردية ومحدودة جاءت على استحياء غالبا.
٭ كاتب من مصر
بارك الله فيك وعليك. ولعلك لو راجعت الحركة الأدبية في الستينيات لاكتشفت كثيرا من فرض التصور الغربي الديني على الأدب العربي، وخاصة لدى أدونيس والسياب ويوسف الخال وأمثالهم. وليتك ترجع إلى كتاب شاكر(أباطيل وأسمار) لتجد فيه جذور عملية اغتصاب الأدب العربي، ويحسن أيضا قراءة كتابه” رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” لتكتمل الصورة.