النقد خارج أسوار الجامعة

حجم الخط
3

لا أدري من ابتكر النقد على شاكلته التي نعرفها، لكنني مدركة أن الإنسان كائن ناقد بالفطرة، والنقد هو ما جعله يذهب بعيدا في فهم الظواهر المحيطة به على تنوعها واختلافها، بدءا بالظواهر الطبيعية، وجغرافيا وجوده، إلى قراءة النصوص الأدبية التي تعتبر أثراً إنسانياً عظيما يخاطب العقل وبواطنه.
لكن هناك مستويات من النقد، كونه يقوم على ثلاث مراحل هي «التأمل، والتفحص، والتفكير» أملا في تحقيق معرفة أكثر عمقا بالمُعطى النقدي. أما الاكتفاء بمرحلة من هذه المراحل، فمستحيل، كل متأمل لديه طريق يسلكها، وكل متفحص يحقق اكتشافاته، وكل متفكرٍ لديه محصلة من النتائج في رأسه.
يخضع النقد أيضا لميكانيزمات معقدة، فكلما ابتكر منهجا لاعتماده في الدراسات المقترحة، إلا وتولدت منه مناهج جديدة، يذكرني ذلك بطريقة ظهور «متحورات كورونا» فكلما انتقلت بين أوساط حاضنة جديدة، أنجبت سلالات جديدة، أكثر قوة.
حسنا قد لن يعجبكم هذا المثال، لكنه الأقرب اليوم إلى فهمنا جميعا، وهو ما خطر ببالي وأنا أتفحص أنواع النقد التي طُرحت في مقالات كثيرة، عكفتُ على قراءتها مؤخرا. طبعا أكثرها يصب في المقارنة بين النقد الصحافي والأكاديمي. في ما دخل البعض في نقاش لموضوع «نقد النقد» و»النقد الجديد» أما ما قادتنا إليه مواقع التواصل الاجتماعي فهو نقد من نوع آخر، لأنه لا يشبه أي نوع من هذه الأنواع، مع أنه يفرض نفسه أكثر من غيره، ولعلي أشرت في مقال سابق إلى أن النقد وفق مقاييس صارمة وعلمية انحسر إلى حرم الجامعات، والمجلات المُحكمة فقط.
على هذا الأساس هل كل نقد خارج أسوار الجامعة ليس نقدا؟
لنعتمد هذه النظرية التي تقول إن النقد تأسس بشكل علمي داخل الجامعات، ثم خرج منها إلى العالم الواسع، وأنتج أنواعا لانهائية من النقد، منها ما يصلح لاعتماده مرجعاً دراسياً، ومنها ما يصلح أداة توجيه تتحكم في قراءاتنا، ومنها ما يمكن اعتباره «أضعف الإيمان» تمارسه العامة لأنه مكون أساسي لتطور الحياة.
هناك نظرية أخرى تناقض النظرية الأولى تماما، وهي تقول إن النقد تطور في حركة تصاعدية، وإنه بمجرد بلوغه مرحلة النضج أسس بشكل عفوي صروحا علمية اجتمعت حولها النخبة، وهكذا وُلِدت الجامعات والأكاديميات، والصحف والمجلات ومواقع الشبكة العنكبوتية اليوم. لا يهم من أين جاءت البداية، لأن المهم فعلا هو هذه الحركة الدائمة للنقد، كفعل يمنح الحياة للنصوص التي هي الحقل الأول لنشاطه، النقد عملية حرث وزرع وحصاد مستمرة لهذا الحقل.
ما لفت نظري لهذا الموضوع هو خبر تناقلته الصحافة البريطانية حول قصة الأطفال التي أصدرتها ميغان ماركيل زوجة الأمير هاري، مصادفة مولد ابنتها ليليبت ديانا، الذي استقبِل بنقد قاس، فقد وصفه الناقد أليكس أوكنيل في جريدة «التايمز» بالمسودة الأولى، متسائلا إذا كانت كتابة القصة قد عُهِدت إلى قطعة أثاث «في إشارة لئيمة إلى عنوان القصة «المقعد»(the bench) . أما الصحافية إيلا ويلان فقد كتبت: «كتاب ميغان ماركيل الخالي من الفكاهة يمكن أن يجعل جيلا كاملا يكره القراءة».
على موقع أمازون فشل الكتاب لبلوغ قائمة أكثر من مئتي كتاب مبيعا، كما اهتم الإعلام بتناقل خبر تخفيض سعر الكتاب في عدة مكتبات، منها المكتبة الشهيرة «ووترستونز» في بيكاديللي في لندن، لأن الإقبال عليه ضعيف. دوقة ساسكس استلهمت قصتها من «قصيدة» كتبتها لزوجها الأمير في عيد الأب، ومنها نسجت تفاصيل هذه القصة التي وصفت بالمملة والمُرهقة. وها هو الكتاب يكافح من أجل البقاء، بعد أن استل النقد البريطاني سيف قسوته في وجهه. حتى أن بعض النقاد اتهموا سريعا ميغان بسرقة كتاب(The boy on the brench) لكورين أفريس وغابرييل ألبوروز.

لقد تعودنا كمجتمع الخضوع لمجموعة من السلطات، كل سلطة تمارس قمعها علينا في مرحلة عمرية معينة، حتى في الصرح الجامعي الذي كان يجب أن نتدرب فيه على ممارسة حقنا في النقد، والتصريح بآرائنا، لم ننل فيه تلك الفرصة، لهذا السبب يمكن اعتبار ما يحدث اليوم ظاهرة صحية، تنبئ ببداية شفائنا من خوفنا الطويل من تلك «السلطات» متأملين ألا ننزلق نحو الفخ القمعي نفسه.

بعيدا عن مدافع ونيران الصحافة، رمى أكاديميون بحصاهم، معبرين عن المستوى الضعيف لمحتوى الكتاب، واصفين إياه بمجموعة من المواعظ غير المتطابقة والقواعد التي تتحدى القواعد نفسها». على موقع تويتر اختلف الأمر تماما، كثيرون دافعوا عن الكتاب، وعن الأم الشابة، سجلت الغالبية آراء إيجابية، متهمين الصحافة الإنكليزية بالتعنت والمبالغة في الطعن في القصة، رأت الأكثرية أن القصة جميلة والرسوم أجمل. يمكن للنقد الصحافي أن يستعمل كلمات ذات وقع قاس جدا في توصيف أي نص، لكن هذه اللغة تغيب تماما في نقد أكاديمي يحافظ على وقاره بتحييد العاطفة، وتشذيب اللغة المستعملة في قراءته من الألفاظ الجارحة، التي تعطل عملية التلقي وتأخذها في متاهة عاطفية بعيدة تماما عن عملية استكشاف خباياه. كما يمكن أن تعلو وتيرة غضب مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، أو تخمد، أو تشيد بعمل وفق انطباع بسيط لا يرقى أبداً لمستوى النقد. لكن من الذي يتحكم في نسبة المقروئية اليوم؟ إذا كان النقد داخل أسوار الجامعة يحاول رفع مستوى الأدب وفق مقاييس معينة، فإن النقد خارجها يحاول رفع مستوى القراءة، لأن مادته تستهدف فئة شاسعة من القراء من خلال نص الكاتب. ونجد المنابر الإعلامية التي تستخدم هذا النوع من النقد تتميز باحترام قواعد معينة منها، استخدام لغة تفهمها العامة، من بينها كاتب النص نفسه. لنصل في النهاية إلى هذا القارئ الذي كان مجرد متلق، ورأيه على مدى عقود من الزمن كان على هامش ما يقال، ليس فقط بعيدا عن أسوار الجامعة، بل بعيدا عن أسوار المنابر الإعلامية العالية، جاء هذا القارئ ليقول إن النقد مهنة لا تتطلب مدرسة ولا جامعة، وإنها مهنة كل قارئ له رأي، وقد وجد في المنصات الإلكترونية مآربه جميعها.

نستطيع اليوم أن نشعر بخطر حقيقي يتهدد «الناقد المحترف» سواء كان أكاديميا، أو إعلاميا. ولا أدري إلى أي مدى يمكننا أن نسمي ذلك خطرا، أمام اكتساح هذه «الجحافل الناقدة» لشبكات التواصل الاجتماعي، وتأثيرها في الرأي العام، حسب معاييرها الخاصة، وهي تتحكم في نسبة المقروئية فعلا اليوم، والخطر ليس هنا، بل في اتهام النقد – صحافيا كان أو أكاديميا – بالتعالي والفوقية والقسوة كما في النموذج الذي عرضته عن قصة «المقعد» لميغان ماركيل.
إن هذا القارئ الذي كان بلا صوت، بمجرد استرجاع صوته، وجّه أسلحته تلك نحو «السلطة الناقدة» التي تتحكم في ذائقته، وفي قواعد الكتابة على مدى حقبات طويلة من عمر الأدب وتطوره، نتحدث هنا عن القارئ الذي يمارس النقد كهاوٍ، أو لنقل كصاحب رأي حتى لا نثير أعصابه! وهو «ناقد» مع التحفظ كونه يعتمد لغة مختصرة، قد تنسف برأي أكبر ناقد أكاديمي، أو صحافي، فقط بكلمة واحدة.
أعتقد أن شريحة واسعة من «النقاد الجدد» لديها حقد دفين ضد تلك «السلطة» أو ذلك «الصرح» الذي يحيط نفسه بهالة من القدسية، فأرادت كسْرها، لتقول إن تلك السلطة انتهت، وإننا دخلنا مرحلة مختلفة من تاريخ النقد، وهذا ليس سيئا، كما قد يتوقه قارئ هذا المقال، فأي تراجع للأكاديميين إلى حرمهم المقدس، فعلٌ يتحملون مسؤوليته، وأي ضعف للإعلاميين المحترفين خطأُ يجب تصحيحه، لأن في ظاهرة هذه «الفورة» النقدية ما يبشر بالخير وإن كانت لها جوانب سلبية.
لقد تعودنا كمجتمع الخضوع لمجموعة من السلطات، كل سلطة تمارس قمعها علينا في مرحلة عمرية معينة، حتى في الصرح الجامعي الذي كان يجب أن نتدرب فيه على ممارسة حقنا في النقد، والتصريح بآرائنا، لم ننل فيه تلك الفرصة، لهذا السبب يمكن اعتبار ما يحدث اليوم ظاهرة صحية، تنبئ ببداية شفائنا من خوفنا الطويل من تلك «السلطات» متأملين ألا ننزلق نحو الفخ القمعي نفسه.

شاعرة وإعلامية من البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    أسعدت يادكتورة بروين في يومك وغدك : ببساطة أرى أنّ قضيّة النقد ( الفنيّ الأدبيّ ) تكمن في شيء أعمق من النصّ. هوالذوق أو الذائقة القائمة في ( عهد ) دون آخر.لنستذكرثورة النقد في الغرب والشرق بعد الحرب العالميّة الثانيّة كمثال. سنجد أنّ الذائقة العامّة للقراء تختلف عما عليه الآن.( قلّبت ) بعض كتب النقد في مدرسة العقاد وطه حسين والرافعيّ ومحمد مندوروإحسان عباس وستانلي هايمن وبريخت وبيكيت ؛ فهي تنحو نحو تفسيرأدبيّ ( أصبح ) ثقيلًا على قاريء اليوم.لأنّ الذائقة في عصر المعلومات الرقميّة هي غيرالذائقة فيما سبق.وعليه أرى أنّ على النقّاد تطوّير الرؤية وفق الذائقة لا وفق القواعد فقط.لأنّ النقد يقوم على النصّ ؛ ولا يوجد نقد من دون نصّ ؛ إنما ممكن أنْ يوجد نصّ من دون نقـد. إذن : النقد وظيفته بيان التراتبيّة في النصّ ؛ وفق درجة الحدّ الأدنى ودرجة الأفق الأعلى…

  2. يقول الدكتور جمال البدري:

    وكما ذكرتي فإنّ قصّة ميغان تعرّضت للنقد ونالت فقط الحدّ الأدنى من درجة النقد.ربما في عهد آخر ستحوز على درجة الأفق الأعلى.فهي الذائقة التي تفرض قانون النقد على النصّ.وللتذكيرفإنّ الذائقة المستجدة الغداة بعد جائحة كورونا أعادت إلى الساحة رواية : الطاعون للبيركامـو…والسؤال ( الستراتيجيّ ) هل يوجد ناقد محترف كمهنة نقديّة ؟ وما هي شروط الناقد الموضوعيّة ( ليعترف ) القاريء بسلطته على الكلمة ؟ وهنا أشيرإلى أنّ جائزة نوبل كمعيارعام ؛ من بين الفائزين بجائزتها في مجال الأدب بين عامي 1901 /2020 لم تمنح أديبًا لكونه ناقدًا إلا لمرّة واحدة ؛ هو( جاو كسينجيان ) من الصين ؛ وذلك في عام 2000؟

  3. يقول بشير /من الصحراء الغربية.:

    النقد الرصين يستند إلى خبرة عميقة بالحقل المنقود عادة ماتكون خبرة مكتسبة من دراسة اكاديمية سُهرت لأجلها الليالي واستنفذت جهدا ووقتاً ثميناً، اما مانشاهده في مواقع التواصل الاجتماعي فهو في معظمه انطباعات لاتصمد أمام أي اختبار علمي دقيق. والكثير منه هو نوع من إعلان الحضور ومحاولة لتوكيد الذات لا اكثر. كما ان هناك فرق شاسع بين النقد والانتقاد.

إشترك في قائمتنا البريدية