أشرنا في مقالنا السابق إلى أن مفوضية الانتخابات، التي لم يُعلن حتى اللحظة عن تكوينها هي أو غيرها من المفوضيات، ينتظرها عمل كبير وكثير جدا، ربما أهم جزء فيه هو قيادة تشاور واسع بين مختلف قطاعات الشعب السوداني حتى يتحقق التوافق حول قانون انتخابات ونظام انتخابي يتجاوز سلبيات التجارب الديمقراطية السابقة، والتي فشلت وتم مصادرتها ثلاث مرات، والنتيجة دائما مراكمة التأزم والكوارث في السودان. وقلنا، إذا أردنا أن تأتي نتائج الانتخابات، في نسختها الرابعة، بنظام سياسي مستقر، يعبر بكل صدق وشفافية عن توجهات الرأي العام، غض النظر عن الفائز أو الخاسر في الانتخابات، وبعيدا عن تزييف إرادة الناخبين باستخدام النفوذ القبلي أو الطائفي أو الديني أو المالي، وبعيدا عن الممارسات الفاسدة من تزوير وتلاعب وشراء أصوات، فإنها، الانتخابات، يجب أن تستند على قاعدة متينة من الإصلاح السياسي، الذي من المفترض أن يعالج قضية نظام الحكم الذي يكفل نجاح إدارة التنوع والتعدد، وكذلك قضايا البنيان الدستوري والقانوني، النظام البرلماني والعلاقات بين أجهزة الحكم المختلفة، تنظيم الأحزاب وتنظيم النشاط السياسي على قاعدة مبادئ الحرية والديمقراطية وإحترام الآخر، والمشروع الاقتصادي التنموي…الخ. ولذلك، يأتي الربط المنطقي بين نجاح مفوضية الانتخابات في مهامها، ونجاح مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري في إنجاز مهامها. ونضيف اليوم، حتى وإن تعثر تكوين مفوضية الانتخابات لفترة أخرى، وهو أمر متوقع في ظل حالة السيولة العجيبة التي يشهدها الواقع السياسي في البلد، فينبغي على كل النخب السياسية والمجتمعية فتح حوار بناء وعميق حول أي أنواع الممارسة الديمقراطية ملائم لبلادنا، وأي نظام انتخابي يصلح لها!
إن العديد من الأنظمة، في أفريقيا والعالم العربي، تدعي زورا وبهتانا الإيمان بالديمقراطية، ولكنها
تختصر الديمقراطية، عن عمد، في ممارسات شكلية وبناء هياكل لا وظيفة لها سوى تضخيم رجع صدى أصوات الاحتجاجات والمطالبات، وصبغ قرارات الاستبداد بشرعية زائفة لا معنى لها ولا تؤثر في أي مرسوم يصدره الحاكم، بل تبصم عليه. فالبرلمانات والمؤسسات المنتخبة في ظل هذه الأنظمة، هي مجرد هياكل فارغة ما دامت تبنى وفق مقاييس يحددها السلطان الذي يحدد خط سيرها أيضا، وما دامت يراد لها أن تعمل في ظل غياب المؤسسات الأخرى التي تضمن في الحياة الواقعية أشكالا متنوعة من الجهود الجادة للنشاط السياسي والمبادرة السياسية والاجتماعية من جانب الحركة الجماهيرية.
إن الخلل المصاحب لممارسة الديمقراطية التعددية في بلداننا، لا يعني عدم صلاحية الديمقراطية كما لا يعني مصادرتها، ولا يؤخذ ذريعة لفرض الاستبداد والطغيان
فالذي ينفخ الروح في المؤسسات التمثيلية النيابية هو فقط نظام تعدد الأحزاب في مواجهة نظام الحزب الواحد، وحرية حقيقية للإعلام والتعبير مقابل احتكارهما من قبل السلطة. وبهذا الفهم، فإن الديمقراطية، بمعناها الواسع وبعمقها الحقيقي، تُمثل حجر الزاوية بالنسبة لأي برنامج بديل معني بإنجاز مهام التغيير السياسي والاجتماعي الذي تطالب به الشعوب، وهي البند الأول والرئيس ومركز الثقل الذي يرتكز عليه هذا البرنامج، وهي البوابة الوحيدة التي يتحقق من خلالها تغيير الواقع والسير به نحو إنفاذ المشروع التنموي النهضوي.
وكما كررنا كثيرا، نحن نؤمن إيمانا قاطعا بثوابت جوهر الديمقراطية ووحدانيته في الزمان والمكان، مثلما نؤمن بأن قيمها مطلقة وعالمية، وفي ذات الوقت، لا نوافق على أن تطبيقها يتم وفق صيغة واحدة ثابتة ونموذج بعينه، بل نؤمن أيضا بتعدد أشكال ونماذج ممارستها، مع بقاء جوهرها ثابتا ومطلقا. أما تعدد أشكال الممارسة الديمقراطية، فيعتمد، في نظرنا، على الأرضية التي تتم فيها هذه الممارسة. بمعنى، أن جوهر ومحتوى الديمقراطية سيظل هو نفس الجوهر ونفس المحتوى في كل من بريطانيا والسودان مثلا، في حين أن شكل ممارستها في بريطانيا أكدت التجربة عدم صلاحيته وعدم ملاءمته للسودان. ولعل هذا يعود إلى أن تطور المجتمع الصناعي المتقدم، في غرب العالم ودول أخرى كالهند واليابان مثلا، وفر تربة صالحة لنمو واستقرار الممارسة الديمقراطية في صيغتها الليبرالية، في حين أن هذه الصيغة تعثرت وفشلت في بلداننا التي يتدنى تطورها كثيرا عن مجتمعات الغرب الصناعي المتقدم. وهي عندنا معرضة دائما للمصادرة، لا بشكلها فقط، وإنما حتى بقيمها ومبادئها الثابتة والمطلقة. في التجارب الديمقراطية الثلاثة السابقة في السودان، كنا نطبق الصيغة الليبرالية المعروفة بديمقراطية وستمنستر، وكان واضحا فشل تلك الصيغة، على الرغم من أن بدائلها كانت أسوأ بما لا يقارن: الحكم العسكري الأول 1958، انقلاب النميري 1969، وانقلاب البشير 1989. وخلال كل تلك التجارب كانت المفارقة الواضحة، وذات المغذى الأوضح، وهي ردة الفعل الضعيفة، بل واللامبالية، من الجماهير في البداية، تجاه مصادرة الديمقراطية عبر الإنقلاب العسكري، بإعتبار أن التجربة، أو قل النخب الحاكمة التي أتت بها الديمقراطية عبر الإنتخاب، فشلت في تلبية مطالب الناس. ولكن، ومنذ البداية أيضا، لم يحدث أن غابت عن بصيرة الجماهير حقيقة أن القادم سيكون أسواء بما لايقارن بالتجربة المصادرة. إن الخلل المصاحب لممارسة الديمقراطية التعددية في بلداننا، لا يعني عدم صلاحية الديمقراطية كما لا يعني مصادرتها، ولا يؤخذ ذريعة لفرض الاستبداد والطغيان تحت شعار أن بلداننا، بتركيبتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المرتبطة بسمات المجتمعات ما قبل الصناعية، غير جاهزة للديمقراطية، أو انها تحتاج إلى المستبد / الديكتاتور العادل. ثم أن فشل الأسلوب أو الممارسة لا يعني فشل المبدأ ذاته. ومن هنا التحدي في كيفية إبتداع نموذج ملائم لبلادنا، يحافظ على ذلك الجوهر الواحد، وفي نفس الوقت يراعي بشكل دقيق، ويستوعب الخصائص المميزة للواقع السوداني بتعرجاته وتعقيداته الإثنية والقبلية والسياسية والدينية والطائفية….الخ. ومثل هذا النموذج يمكن التوصل إليه عبر إجتهاد كل الأطراف المؤمنة بالتعددية، وفي إطار حوار حر ديمقراطي. ومن هنا حديثنا عن الدور الكبير لمفوضية الانتخابات في تنظيم وقيادة هذا الحوار. أما نموذج الممارسة الديمقراطية الملائم لبلدنا، فسنواصل محاولات إستكشافه.
كاتب سوداني
لا أعتقد تكون هنالك انتخابات نزيهة.. مع عدم وجود أهم بند هو الإحصاء السكاني خصوصا في ظل سيكلوجيه هجرة كل الحركات المسلحه والمليشيات الي منطقة حوض النيل ومنهج مايسمى وثيقة السلام جوبا اللهم احفظ هذا البلد آمنا.