استعرت عنوان المقال من نهر محمد عبد الوهاب الخالد أغنية من كلمات محمود حسن إسماعيل طالعها: «مسافر زاده الخيال..» اخترتها لأتحدث عن خُلود آخر للنهر في ضرب من الاستعارات التي تتخذ منه وعاء للزمان. لا توجد استعارة خالدة هذا لا شك فيه، لا لأن الكلام يموت في جميع أحواله حتى الحكمي منه، بل لأن لكل وقت استعاراته وطرق إدراكه للأشياء من حوله. فلئن كان الجاهلي يعجبه قوام المرأة فيستعير لها غصن البان، أو تعجبه عيناها فيستعير عيني الغزال لها، أو وجهها فيستعير له البدر؛ هذه الاستعارات لم تعد مقنعة لشباب اليوم، الذي لا يرى في غصن البان أو في الغزال أو في البدر مرجعيات مثلى لاستعاراته، ولا يرى فيها تجارب ملهمة تعبر عن تصوره للجمال. عناصر الطبيعة لا تحافظ على خلودها الأبدي، بما هي عنصر تجريبي قابل للاستعارة في وصف أحوال النفس، أو غيرها من تجارب الحياة، لكن بعضها قد يحظى بشيء من الاستدامة التي نخالها خلودا.
هناك عبارات كثيرة في لغات كثيرة تسم الوقت، أو الزمان بالجريان، فهو نهر تسيل مياهه فيمر بك ويحملك معه، أو يمر فيتركك وراءه؛ يجري الزمان كماء منطلقه نبع وسيْله تحكمه مسالك انحدارية، تقوّي أو تخفض من سرعته ومن صبيبه. يجري الزمان وأنت فيه، وقد تلقي في نهر الزمان خشبة لتراقب كيف يحملها ويسير لا يلوي على شيء، أو يتركها على ضفة من ضفتيه: تلك القطعة الخشبية التي تلقيها أنت بنفسك قد تكون روحك السابحة المسافرة عبر الزمان؛ وقد تكون شخصا لا تستطيع أن تمنعه من أن يكبر فيكبر ويكبر ويغادر، وأنت تراقبه عبر سيره المائي في نهر الزمان العظيم. ليس لنهر الزمان ضفاف إلا للمشاهدة والتأمل. الزوارق تسير في هذا النهر وتحملهم كسفينة نوح، لكنهم ليسوا ناجين من طوفان، بل هم مسافرون إلى مصب قد ينتهي بهم إلى النسيان.
استعارة النهر للزمان هي استعارة لا تكشف حقيقة الزمان، بقدر ما تكشف وعينا بالزمان وتمثلنا له، فنحن نرى الزمان وكأنه ينبع من نقطة بعيدة، ثم يأتي حيث نحن ويمر بنا إلى نقطة بعيدة أخرى: النقطة المنبع قد تكون هي الماضي في تمثلاتنا المشتركة، والنقطة المصب هي المستقبل، والنقطة التي تدركنا حيث نحن هي الحاضر. لكن هذه الفكرة كانت موضوع جدل قديم عند بعض الفلاسفة ومن اتبع نهجهم، إذ لا يعتقدون أن منبع الزمان وأصله هو الماضي، بل المستقبل إذ الزمان يكون غيبا ويأتي من بعيد ليصبح حاضرا، ثم يصبح بعد ذلك صوتا من الذاكرة وخيطا من الماضي. منبع النهر ومصبه في النهر يرسخان تصورا عاديا ومتفلسفا أيضا عن الزمان فلو تتبعنا ما ذكره أرسطو عن الزمان، من أنه عدد الحركات (حركات الفلك) التي تراعى حسبتها بعدة لما قبل ولما بعد، لوجدنا أن في هذا التصور حاجة إلى المنبع والمصب في النهر، ولو أخذنا تصورا للزمن آخر يجعله بعدا من الواقع المتغير، قدر لنا ذلك أن نفهم سير الزمان بالنسبة إلى لحظة ما. وما وقوفنا لنراقبه مقبلا من مجهول وذاهبا إلى مجهول آخر، إلا تأمل يتيح لنا أن نفهم ما غاب بالنسبة إلى حالنا الشاهدة. إن تصور الزمان المبني على الوعي والإدراك لا يجعله حقيقة فيزيائية، مثل حقيقة أن ترى الماء يجري في وعاء طبيعي كبير اسمه النهر، له انحدار معقول يسمح له بالجريان؛ بل يجعلنا هذا التصور نرى الأزمنة انطلاقا من حاضرنا، الذي هو زمن وعينا. أنت لست في هذه الحالة جزءا من الوادي وسيله، بل أنت جزء من المسار الذي يتبعه الوادي ويمكنك وأنت تتأمل سير الوادي أن تفهم مساره: لسنا مطالبين لكي نفهم ما الزمان أن ننخرط فيه، لا.. نحن لا ننخرط في الزمان أصلا، الزمان الذي نعيش تفاصيله الحاضرة عبر جزئيات دالة عليه، التي نسميها «الآن» أو الراهن هي التي تكون كفيلة بأن تجعلنا نعي شمولية هذه الحقيقة.
اللغويون قالوا شيئا شبيها بهذا حين قالوا إن الزمن النحوي الذي يجعلنا نقسم الأفعال إلى ماض وحال واستقبال، مرتبط بزمن آخر غيره هو زمن الإخبار. زمن الإخبار هذا هو زمن تتحدث فيه عن أفعالك وأفعال غيرك ومن سماته أنه زمن حاضر أبدا، يتجدد بكل فعل قول فكلما تكلمت كان ذلك الزمن الذي تتكلم فيه راهنا أو حاضرا.
اللغويون قالوا شيئا شبيها بهذا حين قالوا إن الزمن النحوي الذي يجعلنا نقسم الأفعال إلى ماض وحال واستقبال، مرتبط بزمن آخر غيره هو زمن الإخبار. زمن الإخبار هذا هو زمن تتحدث فيه عن أفعالك وأفعال غيرك ومن سماته أنه زمن حاضر أبدا، يتجدد بكل فعل قول فكلما تكلمت كان ذلك الزمن الذي تتكلم فيه راهنا أو حاضرا. فأنا أقول الآن (خرج زيد) فيكون الفعل (خرج) سابقا لزمن تلفظي به. الأحداث تجري وزمن التحدث عنها هو الذي يضبطها. حين يجري الماء في مسيله هل هو الماء نفسه؟ هل الماء ينتهي إلى مكان ثم يعود؟ هل الزمان قابل لأن يعيد نفسه؟ هذه أسئلة تقتضيها استعارة النهر زمانا؛ لكن لا يطرحها الوعي البسيط بالزمان نهرا. الحقيقة أن العلماء المدققين، ولاسيما من كان منهم فيزيائيا، لا يقبلون باستعارة الزمان نهرا، لأنها استعارة لا تحرف الحقائق فقط، بل تقدمها على شكل مبسط وساذج. العرفانيون لا يعنيهم إن كان الناس في استعمالاتهم الاستعارية بسطاء أو أذكياء، هم لا يحكمون على الأذهان عمقا وسطحية فهذا تصور لا علمي أو معياري؛ هم يدرسون التمثيلات اعتمادا على معطيات من بينها الاستعارات. فلا أحد يمكن أن يعتقد وهو يرى ماء النهر أنه ماء في حلقة دوارة، رغم اعتقاده أنه ماء. ولا أحد يقول عن ماء في نهر ما إنه الماء نفسه يعود كرة بعد كرة؛ هذه أشياء غير مفكر فيها في تمثيلات الناس العادية. منهم من يعتقد مثلا أن أصل الماء من السماء ووحدهم المؤمنون من يدعون الرب لينزله، لكن الناس جميعا تشترك في تصور وحيد أنه ماء ذاهب ولن يعود، فهو إذن لا يتكرر ولا يعني تكرره أنه خالد لا ينضب كنهر عبد الوهاب في أغنيته. المهم أن الاستعارات التي يبنيها الناس وتخلد هي استعارات تفسر وعيهم الآني، وربما الممتد عبر حقبة طويلة بالمعطيات المجردة، التي لا يلمسونها. صحيح أن الزمان صار ملموسا ومرئيا في الساعة الرملية لكن الزمان المنسكب في ساعة الرمل ليس هو الزمان المنسكب في النهر: الساعة الرملية عداد للزمن المائي المنسكب، الذي لا يمكن حصره: الرمال عينة من الماء هي عداد الماء بذرات الرمل.
لهيراقليطس قولة قد لا تناسب تصور العامة للزمان إذ يقول: لا يمكن أن يسبح المرء في النهر نفسه مرتين. هذا القول صادم للوعي البسيط الذي لا ينظر إلى النهر على أنه زمان.. بل مكان.. حين تسبح في النهر ستجعلك السباحة تعتبر النهر مكانا أو وعاء للسباحة، سيصبح حوضا وسيتوقف عن أداء دوره الاستعاري القديم: إنه حوض سباحة زمانية . يقول هيراقليطس أنت لست نفسك في كل سبحة ستكون عاطفتك في السبحة الأولى غير عاطفتك من قبلها ومن بعدها، ما تفكر فيه ليس هو هو. قولة هيراقليطس تكملتها: غير «لا يمكن أن يسبح المرء في النهر نفسه مرتين. فكل الأشياء تتسع وتنكمش من جديد، تقترب وتبتعد». النهر الواحد في حركاته ليس نفسه بين حركة يد في هذا الاتجاه أو ذاك..
لِيَجْرِ الماء في النهر ولْيَسْكُن الزمان كما شاء في النهر استعاريا؛ لكن يكفي أن تلقي بنفسك في ذلك النهر وتسبح عندئذ يصبح لحركة الماء مع جسمك أنت ، مع روحك أنت معنى آخر في انكماشه وفي تمدده في اقتراب الأشياء، أشياءك وأشياء النهر، أو في بعدها عنك.. أنت قطعة من الخشب تلقى وقدرها أن تسبح.. لكن لا توجد هنا سباحة عكس التيار.. تيار الزمان.. لا تفعل وإلا (سيجرفك السيل سيل الدماء// ويأكلك العاصف المشتعل) على حد عبارة للشابي عن الظالم المستبد..
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية