النهضة العربية بين مصيرين: المقاومة أو الإرهاب؟

حجم الخط
0

في بلاد يصبح النصر في صراعاتها المصيرية شبيهاً بالهزيمة، وإن باسم مغاير وبطعم مختلف. فذلك دليل صارخ أن أحوال الواقع العمومي هي من القوة والسيطرة بحيث تطغى مواصفاتها الكلية على متغيرات الأحداث اليومية. فإن حرب العدوان الإسرائيلي على غزة التي استمرت أكثر من خمسين يوماً، وذهبت ضحيتها عائلات كاملة وأعداد غفيرة من الأطفال والنساء. هذا العدوان أراده الصهاينة أقرب إلى حكم إعدام جماعي موجه إلى مدينة بسكانها وعمرانها، لكن تنفيذ الحكم لم يكتمل. وخرجت المدينة من تحت أنقاضها لتعاود حياتها المعتادة، وتمارس إستعداداتها الحربية، متجاوزة مجازر عدوها، كما لو كانت تمارين اضطرارية من أجل الحرب الكبرى التي لم يجرؤ اليهود على إعلانها بعد. ولكن تعامل معها أبناء غزة كما لو كانت واقعة فعلاً لا محالة، ومن خلال أبواب جهنم المفتوحة طيلة الخمسين يوماً، ضداً على كل حياة باقية أو عابرة في هذه المدينة الاستثنائية الباسلة.
هل تكون غزة قد استحقت امتياز النصر من صمودها الأسطوري، وأن الفشل هو المصير الأسود للعدوان الإسرائيلي الذي عجز عن تدّبر أمر الحكم بالإعدام، سواءً في تنفيذه العبثي، أو في محاولة التنصل من أعبائه بعد وقف الهجوم الوحشي على أحياء المدينة وسكانها وأطفالها ومدارسها وجوامعها. فالمراقبون لذلك الحدث ونتائجه يحارون كأصحابه المباشرين من عرب ويهود، حول تعيين من هو المنتصر حقاً ومن هو المنهزم. وكل قطب من هذه المعادلة ينازع الآخر حول المسؤولية عن الكارثة إيجاباً أو سلباً. حتى يمكن إطلاق هذا التوصيف الملتبس: إسرائيل لم تنتصر، وغزة لم تنهزم. إنه التوصيف الأقرب إلى تسمية النتائج المتعارضة التي خلفتها عاصفة العدوان. فإذا كانت اسرائيل لم تحقق انتصاراً رغم هول التدمير الذي أحدثته في البيئتين البشرية والعمرانية للمدينة الباسلة، وإذا كانت صواريخ غزة لم تسقط أسطورة الأمن الإسرائيلي وإن زعزعت بعض أسسه، لكن القضية الفلسطينية قد أبرزت لها وجهاً جديداً، وهو أنها لم تعد من تراث الماضي. وأن عشرات السنوات ونكباتها المتواصلة لم تجعل القضية نسياً منسياً، بل إنها قادرة على إثبات حقائقها الأولية، باعتبارها هي حقائق الأرض والتاريخ المتجاوزة دائماً لعبثيات السياسة وعواملها المتقلبة.
غير أن صورة الوضع لما بعد المجزرة قد تبدو أوضح إذا ما أوسعنا النظر إلى تداعيات الحرب في محيطها العربي. ما أحدثه صمود غزة في هذه اللحظة العصيبة من إغراق المشرق العربي حولها في بحار دمائه، هو شروع هذا المشرق المعذّب في استعادة بعض الأمل بإمكانية نجاته من مصير الزوال، الذي يندفع هو نحوه بكل قواه الطائشة؛ كأنه مسيّر بإرادة عمياء مسيطرة على معظم قادته ونُخبه.. كما على نفاياته أيضاً؛ ذلك أن إسرائيل التي تكاثرت نماذجها ما وراء حدودها المترجرجة؛ عجزت عن قطف الثمرة المنتظرة من تعميم الفوضى الدموية في ميادين أعدائها، كأنها كانت تضرب عبر غزة ما تبقى من مشروع فلسطين كوطن لأبنائه أولاً. ومع ذلك سوف تظل إسرائيل ذلك المشروعَ الاستيطاني المنتقَص دائماً في مشروعيته القانونية والفكرية، كما في كيانه الدولاني والإجتماعي، وفي هذا الوقت الذي تساقط فيه النظام العربي إلى أظلم هاويات أفخاخه المنصوبة له بأيديه أولاً وقبل أن تكون بأيدي أعدائه. ومع ذلك فإسرائيل خذلتها الضربة القاضية التي تطلعت إليها منذ أن كانت حلماً يراود خيال بعض سماسرة المال والسياسة في أوربا.
لن تتهاوى غزة مدينة الصيادين، بل عمَّدت نفسها كعاصمة حقيقية لعصر آخر من المقاومة العربية الحقيقية. وبالتالي فإن المشرق الممزق بأساطير الأولين لن يظل هكذا أسيراً لمعارك النصفيات المتبادلة ما بين حكامه ونخبه، و بين مِلَلِه ونحله. فهو المالك الشرعي والوحيد لحق التصفية النهائية لسلالات الفساد هذه من كل نوع وجنس.
في حين كاد العرب أن يدخلوا ثانية مرحلة انحطاطهم القروسطي.. أن يزولوا كأمة ليتحولوا مجدداً إلى قبائل تائهة في صحارى المال والسمسرة والإرهاب الهمجي. حدث هذا منذ أن افتقدت النهضة المعاصرة حلفها الطبيعي والتلقائي مع المقاومة. منذ أن دب الانفصام بين هذين القطبين فقد انحطت كل من النهضة والمقاومة على طريقتها. فلم يكن المشرق ليهوي إلى هذا القعر المشؤوم، ولم تكن المقاومة لتتحول إلى مجرد بضاعة من الماضي، تستثمرها سلطة متغطرسة قائمة .. لم تكن سرديات الحِكم القدسية لتحتل منابر الجماهير العربية، ولم تكن روابط العقائد الفئوية لتطرد أحزاب السياسة وأندية الثقافة من الحياة العامة.. لم تكن الهمجية لتصبح أعلى مقاييس الولاء العقائدي لشراذم «الجهاديين» في كل ساحة صراع باسم المعاني السماوية، لم يكن يحدث كل هذا الهلع (العالمي ) من الإرهاب الإسلاموي، لو أن النخب الإسلامية أو العربية نجحت في محاولة فريدة، في كسر شوكة واحدة من متاريس مركبات الاستبداد/الفساد. هذا الوباء بل المرض السلطاني بات قادراً ليس فقط في السيطرة على أتباعه التقليديين من الأكثريات الصامتة، بل هو نفسه بات صانع الكثير من المنظمات الرافعة لشعارات الخلاص من طغيانه.
حينما يؤخر أوباما الإعلان عن إنجاز استراتيجيته في مكافحة داعش وأضرابها فإنه يعمل علناً على جمع كل القوى الحاكمة والمحكومة، الغازية والمغزية، السياسية والجهادية، فهؤلاء جميعاً يحكمهم سلطان واحد هو مركب الاستبداد/الفساد. فهم فروع من شجرة واحدة. هم الجزارون والضحايا. هم القتلة والمقتولون. إنهم شعوب الاستبداد والفساد أصحابه وعبيده. ولا غرابة في هذا المشهد السريالي، ما دامت شركات النفط و.. التعمير والتسليح، ماضية في توقيع عقودها بعشرات ومئات المليارات مع أسياد الثروات الحاكمة لهذا الواقع، سواء كان صحراوياً أو بات دموياً فانياً. فالسيطرة هي الباقية وحدها.
ولقد حدث أخيراً أن اهتزت بعض ملامح هذا المشهد السريالي، حين حقّق شعب المقاومة رهاناً كان أشبه بالمستحيل. لقد تمكن من وضع حد للنموذج الأول والمتجسد عن مركب الاستبداد/الفساد، كما مثلته ورعته دولة الصهاينة في ذاتها. صواريخ شعب الصيادين ملأت سماء إسرائيل. فجرت مكامن الرعب الدهري في اللاشعور الديني الصهيوني. أصابت شعب الله المختار، بما اختار له شعب الشيطان من أشباح النهايات الكارثية الجاثمة معانيها في تاريخ سلالته.
وإلى حين سينجز أوباما استراتيجيته في التصدي لداعش بعد أن يجمع كل هذا الخليط العجيب من نماذج سادة الدول والمنظمات وأتباعها شرقاً ومغرباً، سوف يبقى الحدث الغزاوي يتيماً ضائعاً صوته في صخب الدبلوماسيات العاصفة بأجواء المنطقة. ولكن على وقع منجزات المذابح، والفوضويات الحربية المتلاحقة في ميادينها. فلا أحد يريد أن يتذكر خيبات إسرائيل. وليس ثمة تحليلات تتنافس لكشف أبعاد «المصاب» اليهودي الفادح . هذا، وإن راحت ولا شك الكثير من مراكز الأبحاث الدولية، والاسرائيلية خاصة، تتدارس بصمت وعبوس تداعيات الحدث، ومؤثراته في صميم المشروع الاستبدادي المفروض ليس على فلسطين وحدها، بل على مجمل عالمنا العربي والإسلامي. فإذا لم تنتصر إسرائيل للمرة الأولى أمام مقاومة لبنانية، ثم فلسطينية للمرة الثانية، فذلك يعني ببساطة ضرورة إعادة النظر في فلسفة ذلك المشروع، وليس في برنامجه فقط؛ ذلك أنهماليس مسموحاً به أبداً في بديهيات ذلك المشروع هو أن تنهزم إسرائيل، في أية حرب. فقد انسحبت جيوش الدول العربية من ساحات الحروب مع اسرائيل. لكن لم يكن في الحسبان أبداً أن تنشئ أحزاب جيوشاً، وتصمد ضد الجيش الإسرائيلي مرة بعد مرة. ذلك أن اللانصر الإسرائيلي يفهمه قادتها، من فئة الصامتين، أن النهضة العربية قد استعادت لحمتها الطبيعية مع المقاومة، وأن مرحلة النجاح الدائم للأجندة الصهيونية قد انقضى أوانها.
أمريكا تدرك هذه الحقيقة، بأسرع مما يفعله استراتيجيو الصهيونية. ولعل أوباما الذي أجهض الربيع العربي من ثورات مشرقه كلها. يسارع حالياً إلى إعادة النظر في مجمل مخططاته إزاء المنطقة وثوراتها الحالية والقادمة. فهل هو ساع حقاً إلى إلغاء أهم أداة ارتكز إليها في تخريب النهوض العربي. أي هذا الذي يسميه إرهاباً. هل هو حقاً مزمع أن يقضي على أخطر مؤسسات الإرهاب المتمثلة في داعش والنصرة وأحزابهما.. هل سيضحي بهذا الجيلالشيطاني الذي اخترعه، دفعة واحدة. هذا سؤال نتركه للغد القريب.. وما بعد مؤتمر أوباما المنتظر المنعقد تحت شعار القضاء على ظاهرة الإرهاب الداعشي.. هذا إن فعل.

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية