النيجر… عتمة الديمقراطية أم عتمة تهدّد باريس؟

فشلت فرنسا في محاولة إقناع دول منطقة الساحل الأفريقي بأن الوجود العسكري للقوة الاستعمارية السابقة يمكن أن يكون مفيدا لها. وما تقدمه باريس من مساعدات لهذه الدول لم يكن ليخفي الهوة الفارقة بين حجم استغلالها لثروات هذه البلدان، وما يُعتبر صدقة أو فتات تسترضي به مناطق نفوذها بعد أن تنصب حلفاء لها يحكمون باسم الديمقراطية الشكلية والسلمية المدنية الهشة.
تمثل النيجر، ثاني أكبر منتج لليورانيوم في أفريقيا، حليفا موثوقا فيه بالنسبة للاتحاد الأوروبي وأمريكا. لهذا مثّل الانقلاب، الذي أطاح بالرئيس بازوم المقرب من فرنسا، صفعة للغرب الذي ينتظر أن تقدم له مجموعة ايكواس الاقتصادية خدمة كبيرة من خلال التلويح بالتدخل العسكري في نيامي لإعادة صديق فرنسا إلى السلطة. منطقة الساحل، التي تعاني من الاضطراب السياسي والاقتصادي، تعتبر النيجر فيها قبل الانقلاب «واحة الديمقراطية» رغم حجم الفقر والتخلف الذي تعانيه. فهل تستقيم الديمقراطية في غياب العدالة والتنمية الاقتصادية لبلد تُستنزف ثرواته؟ إثر الإطاحة بالمنظومة الحاكمة الموالية للغرب، أصبحت «الديمقراطية النيجرية» في عتمة في نظر باريس وواشنطن. تماما مثلما أن وقف استغلال فرنسا لليورانيوم في هذا البلد يهدد باريس بالعتمة أيضا، بالنظر إلى أهمية معادن النيجر النفيسة في تشغيل محطات الطاقة النووية لتوليد الكهرباء في أرجاء فرنسا. هل انهارت عمليا استراتيجية باريس الأفريقية التي تستند إلى محاولة إقناع دول منطقة الساحل الأفريقي بأن الوجود العسكري للقوة الاستعمارية السابقة يمكن أن يكون مفيدا لها؟ مليون نسمة، هو تعداد سكان النيجر، بلد غني بالذهب واليورانيوم يعيش سكانه تحت خط الفقر والخصاصة. وتعتبر فرنسا وأمريكا أن هذا الشعب يعيش في ديمقراطية، ويجب أن يعيد السلطة إلى أصحابها الشرعيين. وهؤلاء الأصحاب هم في الحقيقة من يُبقون على مصالح الغرب وفرنسا تحديدا. بمعنى تأبيد حالة الفقر ومواصلة نهب ثروات هذه البلدان دون أن يستفيد مواطنوها بشيء من خيرات أوطانهم.

عندما يعبّر الغرب عن قلقه بشأن الديمقراطية علينا أن نقلق من قلقهم هذا، فهو غالبا مريب

ثالث انقلاب في المنطقة بعد استيلاء عسكريين على السلطة في مالي وبوركينا فاسو المجاورتين. فرنسا فشلت في حمايتهم من الجهاديين، في حين أن روسيا ستكون حليفا أقوى كما يرى الحكام الجدد. لهذا، رافق عمليات الاستيلاء على السلطة خطاب قومي ومظاهرات مناهضة لباريس ومؤيدة لموسكو. حزام روسي على غرب افريقيا يرغب بوتين عبره في محاصرة التواجد الغربي في القارة السمراء، التي بدأت في الاستفاقة من سباتها، وهي القارة الغنية الفقيرة من خيراتها. وفي كل من مالي وبوركينافاسو، وأخيرا النيجر ظهرت ألوان العلم الروسي بوضوح في الشوارع. واتهم المتظاهرون من مواطني هذه الدول الافريقية فرنسا بنهب ثروات بلدانهم وتفقيرهم.
يبدو أن الكثير من دول القارة السمراء، التي تصنّف من أفقر القارات في العالم، باتت تفضل الاتجاه نحو تمتين علاقاتها مع روسيا والصين والابتعاد عن المعسكر الغربي وخاصة فرنسا والولايات المتحدة. تستضيف النيجر قاعدة عسكرية فرنسية فيها نحو 1500 من القوات الفرنسية بما يجعل هذا البلد يحتل مكانة استراتيجية مهمة لدى باريس، ويضمن المصالح الفرنسية الاقتصادية أساسا حيث تعتمد باريس على النيجر في الحصول على 35 % من احتياجاتها من اليورانيوم، لمساعدة محطاتها النووية في توليد 70 % من الكهرباء. هذا عدا عن مناجم الذهب وغيرها من المعادن والثروات التي تستغلها فرنسا بشكل مباشر ولا تعود على النيجر سوى بالفتات. هو استعمار اقتصادي واضح تضع باريس يدها على ثروات هذه الدول مقابل وعود بتوفير الأمن ومحاربة الإرهاب، وتدعي أن مستعمراتها السابقة حليفة في مجال مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. وفي النهاية لم يتحقق أي أمن لهذه البلدان، بل ازداد نشاط الجماعات المتطرفة وتغلغلها في دول الساحل والصحراء.
تلت الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو والآن النيجر، مهاجمة سفارات فرنسا والمنشآت الفرنسية الأخرى، والمطالبة بسحب القوات الفرنسية المنتشرة في تلك البلدان بدعوة من الحكومات الجديدة، ورفع الأعلام الروسية. هذا ليس مستغربا، ففي عام 2019 استضافت موسكو أول قمة روسية أفريقية في منتجع سوتشي على البحر الأسود، وحضرها ممثلون عن جميع دول القارة السمراء، البالغ عددها 54 دولة. منذ ذلك الحين، أصبحت روسيا تنافس فرنسا على منطقة نفوذها التقليدية، وتسعى لتعزيز علاقاتها التجارية والاقتصادية مع دول غرب أفريقيا، وتبحث أيضا عن تمتين وجودها العسكري عبر مجموعة فاغنر التي نجحت قبلها في منع تمرد عسكري في جمهورية أفريقيا الوسطى حليفة موسكو المبكّرة.
تزايد النفوذ الروسي في المنطقة يعكسه ارتباط مجموعة فاغنر العسكرية الروسية بعلاقات أمنية مع بانغي وباماكو، وربما سيزداد نفوذ هذه المجموعة الروسية في واغادوغو ونيامي، والقائمة مفتوحة على التشاد وبينين وغيرها. لا شيء متروك للصدفة في أفريقيا التي تبدو على صفيح ساخن. ساحة جديدة للصراع العالمي في النيجر. قادة الانقلاب طلبوا المساعد من روسيا عبر مؤسسة فاغنر العسكرية. فرنسا وأمريكا تضعان ثقلهما بآلاف الجنود هناك من خلال قواعد عسكرية، بالتالي هناك سيناريو كارثي لو اندلعت الحرب، ونفذت مجموعة ايكواس تهديدها بالتدخل الذي سيكون مدعوما بالقوات الأجنبية الفرنسية الأمريكية وإن كان من خلف الستار. وماذا لو وجدت هذه المجموعة تحالفا عسكريا مقابلا يدعم العسكريين في النيجر. فلو بدأت الحرب المسلحة ستدعم فاغنر جيوش الدول المؤيدة لروسيا مثل بوركينافاسو ومالي وغينيا. وبالتالي الصراع لن يكون إقليميا في حدود القارة السمراء، بل عالميا وبالوكالة وتداعياته فادحة بالتأكيد.
ليس أول انقلاب يحدث في دول الساحل، مع ذلك الغرب بأكمله يهتز لانقلاب نيامي تحت يافطة المطالبة بعودة الديمقراطية، وما تعتبره باريس مستقبل النيجر واستقرار المنطقة. يبدو أن الرئيس بازوم هو آخر المؤيدين لفرنسا والغرب في القارة الافريقية والضامن لمصالحهم. لهذا جنّ جنونهم في أن تصبح النيجر ثائرة ضد التواجد الفرنسي وتطرد المستعمر القديم مثلما فعل جيرانها. ولا ننسى أنه في وقت التزمت معظم الدول الأفريقية الحياد بشأن الحرب في أوكرانيا، كانت نيامي صوتا منفردا في أفريقيا عندما صوتت في الأمم المتحدة لصالح إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. اتضح حينها أنها مسلوبة القرار مقارنة على الأقل بدولة مالي وأيضا بوركينافاسو، حيث وضعت السلطات الحاكمة فيهما حدا للنفوذ الفرنسي والغربي. عندما يعبّر الغرب عن قلقه بشأن الديمقراطية علينا أن نقلق من قلقهم هذا، فهو غالبا مريب مثلما جرت العادة. لندن تؤكد دعمها للديمقراطية والقانون في باكستان بعد اعتقال عمران خان، والجميع يعلم أن حالة عمران خان هي سياسية مدفوعة من الخارج بالأساس بعد رفض خان إدانة الحرب الروسية الأوكرانية، وتصريحه بأن باكستان لا يمكن أن تكون تابعة للغرب ولا قرار مستقلا لها. تمت الإطاحة به بعد ذلك، والمطلوب إخراجه نهائيا من الحياة السياسية عبر مسرحيات قضائية لا معنى لها. هذا هو الغرب الذي يكيل بمكيالين في حديثه عن الديمقراطية وسيادة القانون وفق مصالحه.
ازدواجية المعايير هي سمتهم الواضحة في التعامل مع الحكومات، وفرنسا تختفي متوجسة وراء مجموعة ايكواس، وتنتظر أن تقدم لها خدمة عظيمة لتستعيد السيطرة على مناجم الذهب واليورانيوم في النيجر في نوع من الحكم المؤبد بالتفقير والنهب المسلط على هذا البلد وغيره من البلدان الافريقية التي يحكمها عملاء تابعون، يفرطون في ثروات بلادهم، ويبحثون عن شرعية حكم من شعوب تعاني التهميش والفقر المدقع. كل المؤشرات تؤكد أن الأمور لن تعود كما كانت. فقد ولى زمن تعيد فيه فرنسا الموالين لها إلى مناصبهم بالقوة.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية