لم يسعف رئيس النيجر محمد بازوم إقدامه على تبديل النشيد الوطني قبل نحو شهر من الإطاحة الإنقلابية به، وهذا مطلب عمره في النيجر سنوات طويلة. لقد اندرج تبديل النشيد في سياق الرد، بسحب الحجج، على حملة طاولت بازوم في العام الأخير بشكل متصاعد، على أنه منقاد تماماً لمصالح وتوجيهات الفرنسيين، لتؤدي هذه الحملة التي اتخذت شكل «المجتمع المدني» في مرحلتها الأولى، إلى إطاحة العسكر به، بدءاً من اعتقاله على يد الحرس الرئاسي، ووصولاً إلى تصديق قيادة القوات المسلّحة على هذا الخلع لرئيس جاء به صندوق الإقتراع.
وهكذا، استحضر الشعار المعادي للارتباط التبعي لرئيس بفرنسا مرة جديدة لتسويغ عملية انقلابية. وهذا ما سبق أن حصل في السنوات الأخيرة في كل من مالي (ايار/مايو 2021) وغينيا كوناكري (ايلول/سبتمبر 2021) وبوركينا فاسو (ايلول/سبتمبر 2022).
في النيجر، وقبل أن تصل حملة «تخوين» بازوم إلى مبتغاها، نال النشيد الوطني القديم نصيبه. فنشيد «لا نيجيريان» La Nigérienne (أي على نسق لا مارسييز) لطالما جرى التنديد بصبغته الكولونيالية. وعلى الرغم من اعتماده عام 1961 في بدايات دولة ما بعد الإنفكاك عن فرنسا، إلا أنه كتبه فرنسي ولحّنه فرنسيّ آخر. وقد اشتبهت فيه تحديداً كلماته الداعية إلى «الزهو والامتنان لحريتنا الجديدة». بدت صيغة ملغومة. هل تعني الامتنان لفرنسا لأنها أعطت النيجر استقلاله؟ أو يمكن أن يستشف منها الامتنان لدور فرنسا في تشكيل هذا الكيان من الأساس؟ فارق شاسع، في جميع الأحوال، مع كلمات البلد المجاور، الجزائر، التي نالت استقلالها عن فرنسا بعد عامين من حصول النيجر عليه، والتي تتشارك 950 كلم من الحدود مع هذا البلد الحبيس، والتي لم تعدل بعد في نشيدها عن مقطع التوعّد «يا فرنسا قد مضى وقت العتاب، وطويناه كما يطوى الكتاب، يا فرنسا إن ذا يوم الحساب.»
بعد الاستقلال رفضت الجزائر الانضمام إلى المنظمة الدولية للفرانكوفونية على الرغم من أنها البلد الثالث من حيث عدد الناطقين بالفرنسية في العالم، ولم يلحظ دستورها من «لغة وطنية ورسمية» سوى العربية وقد أضيفت إليها التمازيغت عام 2016. أما في النيجر، فقد حاك الرئيس الأول بعد الاستقلال حماني ديوري هالة حول نفسه على أنه مؤسس الفكرة «الفرانكوفونية» كرابطة ثقافية لغوية بديلة عن فشل مشروعي «الاتحاد الفرنسي» و«الرابطة الفرنسية» التي حاولت من خلالهما باريس، عبثاً، المحافظة على هيكلية امبراطورية مخففة بعد الحرب العالمية الثانية. وفي النيجر، كرست اللغة الفرنسية على أنها اللغة الرسمية الوحيدة بموجب المادة الخامسة من الدستور. وان تعهدت الدولة بموجب المادة نفسها رعاية اللغات المحلية المختلفة.
لكن ثلاثة أرباع شعب النيجر لا يجيد التحدث بالفرنسية. وأكثر من نصف السكان يتحدثون لغة الهوساوة التي كتبت لقرون مديدة بالحرف العربي. يبقى أن اجتناب تكريس الهوساوة لغة رسمية إسوة بالفرنسية يفهم منه أنه لتفادي المبارزة في المكانة اللغوية مع متحدثي اللغات الأخرى، كالدجرمية والصنغائية والكانورية والأمازيغية – التماشقية، لغة الطوارق، والعربية.
ينتمي الرئيس المطاح به محمد بازوم إلى أقلية إثنية – لغوية صغيرة في النيجر، هي الأقلية العربية، وبالتحديد إلى المتحد القبلي المسمى «أولاد سليمان» وهذا ما يميزه عمّن سبقه في المنصب، سواء بقوة العسكر، وهم الأكثر، أو من خلال صندوق الاقتراع، وهذه في النيجر تجربة شحيحة. في المقابل، فإن معظم من سبق بازوم إلى المنصب انقسموا بين من ينتمي إلى قوم الهوساوة، الأكثري في البلد، والمتركز في جنوبه الشرقي، وبين من ينتمي إلى الدجرمة، القوم الثاني من الناحية العددية.
والنيجر يعد 25 مليون من السكان قرابة الـ 13 مليون منهم من الهوساوة، في حين يتوزع 85 مليون من الهوساوة على بلدان الساحل (والساحل يقال له كذلك نسبة إلى محيط من الرمال، هو الصحراء الكبرى، وفي التوزيعة الجغرافية القديمة التي استعادها الأوروبيون من مصادر عربية أن الساحل – من شرق إلى غرب القارة هو ما يقع جنوب الصحراء الكبرى، والسودان، بالمفهوم الجغرافي المنقضي هو ما يقع جنوب الساحل). وفي نيجيريا المجاورة، يشكل الهوساوة أقلية بالمقياس العددي العام، رغم أنهم يزيدون فيها عن خمسين مليون نسمة، أي ضعفي عدد سكان النيجر بمجموعهم، سواء كانوا من الهوساوة أو من الأقوام والمجاميع القبلية الأخرى.
للخيار العسكري ضد الانقلابيين
تقود نيجيريا اليوم لفيف «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» في وجه التجارب الانقلابية المجاورة لها. هذه المجموعة، المعروفة باختصار أحرفها الأولى بالانكليزية باسم «ايكواس» تعمل أيضاً كقوة تدخل أو «حفظ سلام» وهي تجاهر اليوم بأنها تستعد للخيار العسكري ضد الانقلابيين في النيجر. ثمة من هذه الناحية تقاطع بين فرنسا وبين نيجيريا، رغم أن الأخيرة لا تدور في فلك الأولى ولا كانت من مستعمراتها، وهي من كبرى البلدان في «كومنولث الأمم» وريث الامبراطورية البريطانية. اللافت هنا، أن العلاقات التي تطورت بشكل مدهش على الصعيد الاقتصادي في العقدين الأخيرين كانت بين نيجيريا وبين الصين، وقد تبع ذلك تطوير مجالات التعاون العسكرية والأمنية، بما في ذلك في الملفات المدرجة تحت خانة مكافحة الإرهاب. في الوقت نفسه، لم يتعارض التنامي النوعي للعلاقات بين نيجيريا والصين مع السير قدماً في تجربة انتقال هذا البلد الأفريقي الغربي، الأول من حيث تعداد السكان، إلى الديمقراطية والمزيد من ترسيخ الفدرالية فيه. واليوم، لا يمكن أن تنظر نيجيريا ومجموعة ايكواس التي تقودها إلى تكاثر الأنظمة العسكرية الانقلابية حولها إلا كنظرة استهجان واحتراز، كمصادر زيادة للمخاطر والمشكلات بالنسبة لها. الغفلة عن موقع ودور وتميز تجربة نيجيريا عند طرق باب الأحداث في النيجر المجاور، وحصر الأمور في الاستقطاب الروسي الفرنسي، ليس بالمدخل السليم لاستيعاب معطيات ومآلات الجغرافيا السياسية لبلدان منطقة الساحل وأفريقيا الغربية.
وعلى الرغم من أن نيجيريا مضت قدماً في تجربة الابتعاد عن زمن تولي العسكريتاريا لها، أقله بالشكل المباشر والنافر، وتحولت إلى أبرز تجربة للانخراط الأفريقي اليوم في الثورة الصناعية الرابعة، فإنها بلد منقسم بين شماله المسلم وجنوبه المسيحي، بخلاف الصفاء الديني في النيجر، حيث الجميع تقريبا مسلمون على مذهب الإمام مالك. وليس في نيجيريا أكثرية إثنية مثلما هي حال الهوساوة في النيجر. بل ربما كان الهوساوة في نيجيريا هم المجموعة الإثنية الأولى من حيث عدد السكان، في مقابل قوم اليوروبا، الذي يقل فيهم المسلمون لصالح المسيحيين والاحيائيين. وهذا تترتب عليهم مسألة «هوساوية» تنخفض ثم ترجع في العلاقة بين البلدين. ذلك أن قوم الهوساوة ينظرون إلى الخريطة الكولونيالية القائمة على أنها تفصلهم بين البلدين بدلا من قيام هوساوستان موحدة. مع هذا، لم يحمل أي فريق سياسي وازن هذا الحلم أو أطره في خطاب قومي نسقي مثابر. مع كون زعيم المجموعة الانقلابية في النيجر اليوم من الهوساوة، فلدى نيجيريا سبب إضافي للتبرم مما يحصل في جوارها، الذي خضع، بخلافها، للاستعمار الفرنسي، لا البريطاني. والمسألة الهوساوية في البلدين، لا تلغي تشاركهما في مسألة التطرف الذي تقوده «بوكو حرام» المرتبطة أكثر بالهوية الإثنية اللغوية لقوم الكانوري.
تلفيق سردية
في المقابل، فإن التحول نحو الديمقراطية في نيجيريا لم يحل دون زيادة اعتمادها على الاستثمارات والخبرات الصينية، ولا ظهر ان لهذا التطور المتواصل للعلاقة مع بكين أثر على نظامها السياسي. هذه ليست الحال مع التدخلات الروسية في مالي أو في بوركينا فاسو أو في النيجر. هنا، التدخل لا يصدر عن آفاق استثمارية روسية، وان كانت لموسكو، ومن خلال مرتزقتها المتشابكين معها تارة والمنقلبين عليها تارة، ولع بخيرات هذه البلاد، وبالذات اليورانيوم بالنسبة إلى النيجر. لكن، لا شيء يقارن بالفتوح الصينية الاقتصادية على مستوى القارة الأفريقية ككل، ونيجيريا على وجه الخصوص، كونها تشكل مشروع قوة صاعدة على مستواها الإقليمي والقاري. بيد أن الصينيين في المقابل لا يعملون على الترويج لسردية ما حول أفريقيا. الروس يقومون بذلك في السنوات الأخيرة. لم يعد الزمن للاتحاد السوفييتي وتصدير أيديولوجيا إلى بلدان القارة، انما لتلفيق سردية، واحدة من عناصرها هو التنديد بالاستعمار، لا سيما الفرنسي، وآليات نهبه واستباحته لمستعمراته السابقة.
وعنصرها الثاني هو التذكير بأن روسيا براء من الاستعمار الأوروبي لبلدان أفريقيا.
والعنصر الثالث هو الجحود بالديمقراطية، وردها إلى مجرد دعاية غربية. هذا مع الأخذ بالحسبان ان بلدا كفرنسا قلما كانت الديمقراطية مهمة عنده في التعاطي مع بلدان أفريقيا، بل على العكس، هذه الديمقراطية القائمة في فرنسا تماشت مع تزكية الديكتاتورية في المستعمرات السابقة، وعدم التردد في ضرب الاحتمالات الديمقراطية فيها عندما لا توافق مصالح باريس الامبريالية.
ثم ان الديمقراطية في أفريقيا لم تعد مجرد عنوان دعائي، هي، في نيجيريا حاضرة كتجربة فيها ما فيها وعليها ما عليها، لكن لا يمكن القفز على التجربة في هذا البلد المجاور للنيجر، والتعاطي فقط مع الديمقراطية كما لو أنها مجرد مخدر يروج له الغربيون. هؤلاء لم يقوموا حتى بجهد الترويج له في أفريقيا، بالشكل الذي يقارن مثلا بجزء يسير من الاهتمام عندهم باحتمالات وآفاق توسعة مدى الديمقراطية في الشرق الأوروبي.
أما العنصر الرابع في السردية الروسية الذي يراد ترويجها في بلدان الساحل من أفريقيا فهو أن موسكو تقود «ثورة محافظة عالمية» يمكن ان يدخل في نطاقها الترويج للعائلة هنا، وللقبيلة هناك، هذا في مقابل التصور الفرداني، الليبرالي، للمجتمع، الذي تدعي موسكو بأنه لا يناسب البلدان خارج الحضارة الغربية، بل أن حتى الحضارة الغربية تتكوى منه، وتصاب بشروره. هذا النوع من العناصر المجتمعة على تشكيل سردية يجعل لروسيا مسمع ومنفذ إلى أوساط أفريقية عديدة، لكن بالأخص، الطغم الحاكمة التي تريد من «مجموعة فاغنر» ومثيلاتها حمايتها من الإطاحة بها، سواء كانت إطاحة شعبية أو جهازية. ومن جهة أخرى، العسكر الذي يستشف ضعف نظام الحكم في بلده، والنقمة الشعبية عليه، واحتساب هذا النظام على الفرنسيين، فيهم بالانقلاب عليه، بدعم أو مباركة روسيين. ليس للسردية الروسية الحالية مزايا الأيديولوجيا كما كانت حال الماركسية اللينينية في زمن ترويجها من أثيوبيا إلى فولتا العليا إلى انغولا والموزمبيق. لكن أيضا، بخلاف الأيديولوجيا، التي تترافق مع اعتماد نموذج تنموي مستقى من التجربة السوفييتية، ولفيف من الشعارات التي تورط نفسها في سباق مع المجتمع المحلي، وافتراق عنه، فإن السردية «ما بعد الأيديولوجية» تتفادى سلفاً محك الفشل والنجاح، ناهيك عن الدخول في علاقة تناقضية مع المجتمع القائم بحجة تغييره. هي تطرح نفسها على أنها التماهي مع المجتمع التقليدي وقيمه، في وقت ما عادت فيه في كل أنحاء أفريقيا من مجتمعات «تقليدية» صرف، غير مهجنة بطبقات وموجات من التحديث المتنوع المصادر.