النّص الأدبي من البناء إلى العابرية

كثيرة هي المفاهيم التي تحمل في داخلها أبعاداً مختلفةً، لكنها تبدو في ظاهرها متقاربة وواحدة كالنّص والتّناص، والجنس والتّجنيس التي لها في النظرية الحديثة المعاصرة حيز مهم وشائك. والسبب هو ما يبدو عليها من تماثل بينما هي على تغاير تام. وإذا كان مفهوم النص قد شاع في الدراسات اللغوية واللسانية الشكلانية والبنيوية، وعرف التناص اهتماما مركزيا في الدراسات ما بعد البنيوية؛ فإنّ قضية الأجناس والتجنيس ظلت هي الأهم بين قضايا النظرية الأدبية. الأمر الذي جعلها قضية دائمة التّطور في أبعادها ودلالاتها ووظائفها وتحديداتها منذ أرسطو إلى اليوم. وإذا كانت عملية الإنتاج الكتابي محصلتها النصوص؛ فإن عملية التفكير في هذا الإنتاج محصلتها الأجناس.
وطبيعي أنّ الأدب مورس على مرِّ العصور كنشاط إنساني يتجسد في نصوص متخيلة هي بمثابة وقائع نصية، ليست عائمة في عملية إنتاجها؛ بل مصنّفة ومقولبة بتحديدات معينة وليست فوضوية، وإنما مقننة بمميزات وسمات تطورت تاريخياً حتى ترسخت شعراً ونثراً.
ولا عجب بعد ذلك أن تسبق بنائية النّص، تصنيفية الجنس الذي لا يفكر فيه إلا بعد أن تكون تلك البنائية قد استقرت بعد مخاض إثبات الوجود، حتى وصلت إلى مرحلة التجسد قالباً له حدوده. فقالب الدراما مثلا مختص بإبداعية النص المسرحي التراجيدي والكوميدي، وقالب الشعر الغنائي تتجنس فيه الأشعار الوجدانية والرثائية والهجائية والحماسية، والقالب الملحمي مختص بالنصوص الشعرية الغيرية والموضوعية والبطولية الضخمة.
ومع تغير أنماط التفكير وأساليبه ونظرياته ومدارسه، حصل تبدل كبير في التنظير للأدب وتاريخ مفاهيمه وقضاياه، ومنها قضية الأجناس التي شهدت تغييرات ليست قليلة ساهم فيها الفلاسفة والمفكرون والنقاد والأدباء أحياناً أيضاً. فتبنّى قسم منهم النظرية الأرسطية، مرسخاً الصنفية التجنيسية الثلاثية بينما تعاطى قسم ثانٍ من المنظرين فهماً مغايراً يقوم على مركزة النص، ليكون خارج مواضعات التصنيف مؤمنين باللاتجنيس، وآثر قسم ثالث الجمع بين الرأيين، من خلال القول بالتداخل بين الأجناس التي بعضها كبرى وبعضها الآخر أنماط صغرى. وممن مثل القسم الأول هيغل وغوته وبرونتير ولوكاش ونورثروب فراي وجيرار جينيت وأيف ستالوني، الذي دافع عن نظرية الأجناس مؤمناً بأنْ لا نص بلا جنس، وممن مثّل القسم الثاني ديدرو وهوغو وكروتشه وبلانشو، وممن مثَّل القسم الثالث باختين ورولان بارت وليتش ودريدا وجوليا كرتسيفيا، التي بينت أنْ بالتناص يصبح النص لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، أو بتعبير ليتش سلسلة من العلاقات والتفاعلات مع نصوص أخرى، وبتعبير دريدا «كل نص صادر عن جنس فأكثر».
وعلى الرغم من التغيرات الكثيرة التي طرأت على الأدب، وبسببها تنوعت فنونه وأشكاله؛ فإن محصلة تلك التغييرات بقيت خاضعة للصنفية ثلاثية التجنيس (غنائي/ درامي/ ملحمي) بوصف هذه الأجناس أجناساً كبرى، وأنّ أي نصوص تُبتدع خارج هذه الصنفية، عليها أنْ تُثبت اختلافها، وتؤكد رسوخها. وعندها تستحق أن تسمى جنساً. ولا خلاف أنّ جمالية إبداع هذه النصوص متغايرة بحسب مواضعات تصنيفها كقالب له في عالم التجنيس بنائية ثابتة. وبموجها تكون للخطاب الأدبي تقاليده المميزة وتقنيناته القابلة للتعيين. ويشير تاريخ التنظير للأدب إلى أنّ قضية الأجناس لها الأولوية دوماً، بوصفها هي المنطلق الجمالي الذي منه تتخذ أي نظرية تجنيسية سمتها العلمية، استناداً إلى المعيارية والنظر التوصيفي ذي المقاييس المحددة والمعروفة. أمّا النظريات التي تبنت اللاتجنيس، ومنها نظرية كروتشه فإنها أيضا سعت إلى التنميط، معتبرة الجمالية النصية هي المعيار وأنّ المسألة ليست متروكة على الغارب في كلية لانهائية.
وتظل أحد عوائق التصنيف إلى أجناس أو أنواع أو أشكال أو أنماط، المعايير التي تختلف في درجة عموميتها وخضوعها للتقسيم الثلاثي أعلاه. وبما يجعل الشك في المعايير التي تلم أطراف نظرية الأجناس مفضياً أحيانا إلى التساؤل عن الأجناس نفسها. وليس الوعي بالأجناس سوى وعي بالاشتغال التاريخي لها، والإبداع نفسه إنتاج تاريخي إزاء بنى لغوية ناتجة من سلسلة من البنى السابقة عليها. وهو ما جسدته نظرية التناص وكان لها تأثير كبير في الاتجاه نحو اللاتجنيس، من خلال قولها بالتداخل الذي معه تُنتفى أهمية القوالب، وتغدو التناصات لا حدَّ لها، فيها تندمج الحدود النصية للخطابات الأدبية مع بعضها بعضاً، ومع غيرها من الفنون والعلوم.. بيد أن ذلك الانفتاح يظل متضارباً مع فكرة الأجناس وثوابتها وأنساقها، والأهم هو تاريخيتها. من هنا تتولد الشائكية في فهم مقولات النص والتناص والتجنيس، وتغدو الإشكالية إشكالية تجنيس أكثر منها إشكالية خطاب.

التناص عملية كتابية عفوية فيها الخطاب يتداخل في حدوده النصية مع نصوص أخر، بلا أي ضوابط لغوية أو معرفية أو تاريخية، بعكس التجنيس الذي هو قولبة كتابية تشكلت قواعدها تاريخياً، وخضعت لها النصوص الأدبية نقدياً.

وإذا كانت نظرية الأنواع قد افترضت أنّ النص الأدبي مثل الكائن الحي يولد وينمو ثم يموت، وخالفتها نظرية الأجناس التي فيها لكل نص قالبه التجنيسي، وأنساقه التي تجعله مستقراً لا يعرف ذواءً؛ فإن نظرية التناص آمنت باللاتقنين، بوصف النص بناءً مفتوحاً بلا حدود وقابلاً للاندماج والتفاعل مع أي نص آخر. ويطلق على هذه العملية الاندماجية اسم (التداخل الإجناسي أو النصي أو تفاعل النصوص أو التماسك الداخلي أو التجانس Homogeneity) التي فهمها بعضهم خطأ، أنها نظرية بينما هي عملية تطبيقية لمفاهيم النظرية التناصية.
وهذا الفهم هو أول مؤشر فكري على الشائكية بشأن التناص وموقعه بين النص والجنس، ومدى قصدية المؤلف في أن يكون فيها ذاتاً حيةً أو لا يكون، فضلاً عن مؤشر التضاد بين التجنيس وما يقتضيه من قواعد وتقنيات، والتناص وما يشرعنه بالتداخل من اللاتقنين، الذي هو تمرد على حديّة القوالب وثورة على سطوة القواعد. فكيف نفك التشابك بين هذه المفاهيم؟ وأيُّ مفهوم هو الأكثر منطقية والأقل عرضة للجدل والمؤاخذة؟ وهل تقتصر شائكية هذه المفاهيم على البعد الداخلي للنص، أو أنها تتعدى إلى خارجه؟ ما الذي يغري المنظر الأدبي في تناول هذه المفاهيم، أهي انفتاحية التناص، أم هي رسوخية الأجناس؟
من المؤكد أنّ التناص عملية كتابية عفوية فيها الخطاب يتداخل في حدوده النصية مع نصوص أخر، بلا أي ضوابط لغوية أو معرفية أو تاريخية، بعكس التجنيس الذي هو قولبة كتابية تشكلت قواعدها تاريخياً، وخضعت لها النصوص الأدبية نقدياً. وإذا كان التناص يشتغل في منطقة النص بانفتاح، والتجنيس يشتغل في ما قبل هذه المنطقة، وما بعدها بتقييد تام؛ فإنّ محصلة التداخل هي أنّ الجنس الذي حدوده أقوى سيبرز في التداخل بالصهر والإذابة، ثم بالعبور عليه. وبهذا يثبت ذلك الجنس أنه الأكثر قدرة على الثبات محولا التداخل من كونه نشاطا عائما بلا معايير إلى نشاط محدد ونهائي، موصوفا بإجناسية معينة وحاملا سماتها ومعاييرها متقيداً بها. ولكن أي العمليتين (التداخل/ التجسير) هي أكثر منطقية وأي النظريتين (نظرية التناص أو نظرية العبور) أحرز للمقبولية في النظرية الأدبية؟

بالطبع لن يكون القول بإحداهما مقنعاً، ما لم يكن الاختيار مدعماً بحجج نستلها من النظرية الأدبية نفسها، وما فيها من مواضعات النظر المعرفي إزاء جماليات الإنتاج الأدبي. إنَّ التداخل كمفهوم فيه النصوص المتداخلة لا حصر لها ودلالاتها واسعة ومتعددة، ليكون أي نص مفتوحاً دائماً بلا بداية ولا نهاية استناداً إلى نظرية التناص التي فيها مفهوم النص غامض ومحير لافتقاره إلى أي محددات خارج نصية تحدد اختلافه عن غيره وتمايزه عليه، تقول جوليا كرستيفيا في» الأداء في ثقافة ما بعد الحداثة» «كل نص يتشكل وكأنه نتف من الاستشهادات وأن كل نص هو امتصاص وتحويل لنصوص أخرى وأن مقولة تفاعل النصوص في طريقها لأن تحل محل مقولة تفاعل الذوات». وتترادف مع التداخل ألفاظ (توالد/ انبثاق/ تعالق / استدعاء /تحويل / إدماج/ تجميع / تنافذ / تشكيل) التي بها جميعا تكون النصوص المتداخلة مائعة لا حدود لها، ولا قالب يجمعها وبهذا تتكاثر وتتناسل حتى لا وجود لمركز أو نظام أو بنية.
وقد ذهب بعض النقاد إلى تفسير عملية التداخل بأنها تحطيم لفكرة الجنس، كأن الأدب إنتاج ذاتي الحركة يكونه الاختراق حسب. الأمر الذي نحتاج فيه إلى وضع معيار منضبط وحازم يتعدى مفهوم (التداخل النصي) إلى عملية فيها تكون ولادة النص طبيعية وشيفراته متأصلة فيه تتحكم بصوره ومجازاته. وهو ما يتطلب أبنية تحتية وعلوية وتجسير بالصهر والإذابة، وأعني به العبور الذي هو عملية استكمالية لعملية التداخل النصي، وأيضا عملية ردم الفجوات التي ترافق التداخل النصي عملياً ونظرياً من خلال:
أولا: أن العبور يضع للتمازج بين نصين أو أكثر قالباً محدداً.
ثانيا: أنه ينظر إلى النص لا كبناء كتابي وإنما كقالب فني.
ثالثا: الاحتواء الذي هو بمثابة تجسير، فيها يعبر الجنس الأقوى على الجنس، أو النوع الأضعف الذي سيصير معبوراً عليه، ومقولباً في الجنس العابر.
رابعا: إن مواضعات العبور القائمة على الرسوخ بالتطور التاريخي تجعله أوسع من مفهوم التداخل الذي يتمحور في منطقة النص فقط.
خامسا: إذا كانت السمة الانفتاحية لنظرية التناص تتجلى إجرائيا في مفهوم التداخل النصي؛ فإن نظرية العبور بين الأجناس هي التجلي الإجرائي لفاعلية التجنيس في أربعة أجناس عابرة هي (الرواية، قصيدة النثر، القصة القصيرة، المقالة).
كاتبة عراقية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية