الهايكو العربي الأقدم

الهايكو هو قصيدة وجيزة، وهذا النعت في تقديري أكثر دقة من قولنا «قصيدة قصيرة». وقد ظهر هذا الجنس في اليابان أواخر القرن السابع عشر، وكان في شكله الأقدم أو الكلاسيكي يتوزع إيقاعيا على ثلاثة أسطر: قصير سريع فطويل بطيء فقصير سريع. لكن هذا التوزيع تغير عند المعاصرين، ولم يعد للهايكو ضابط وزني أو إيقاعي، وصار أشد إيجازا أو اقتضابا؛ في حين أن له طقوسه وقواعده المنظمة في الشعر الياباني. من ذلك أنه يقتضي كلمة بعينها تحيل على فصل من فصول السنة، ووقفا في منتصف البيت يؤديه ما يشبه المطة أو الخط الصغير، علامة على وقفة أو صمت أثناء الإنشاد، أو توتر بين السطر وباقي القصيدة؛ وهي التي تنهض بفكرتين أو صورتين متجاورتين لا تصل إحداهما بالأخرى أي أداة رابطة. وهذا يشبه في جانب منه اصطلاحات ضبط الآيات في القرآن وعلامات الوقف، وهو ما أغفله العرب إغفالا تاما في كتابة الشعر؛ مثل وضع الصفر فوق حرف العلة للدلالة على زيادة ذلك الحرف فلا ينطق به في الوصل، ووضع خاء صغيرة بلا نقطة فوق أي حرف للدلالة على سكونه؛ وما إلى ذلك مثل الوقفات والسكنات التي تشير إليها بعض المصاحف بعلامة صغيرة فوقها (س) حتى يراعيها القارئ، وتحدث عنها نغمة مختلفة عن النغمات السابقة.
والهايكو هو باختصار شديد طريقة في التقاط اللحظة (هنا/ الآن) أو العابر أو الفريد الزائل؛ من «إزهار» فجائي أو مباغت، حتى لا تذهب بذهاب الكلام ولا تنطوي بانطوائه؛ وهو الذي ينضوي أبدا إلى الماضي، ويكون حيث لا يكون.
على أن ما يعنيني في السياق الذي أنا فيه، أن الهايكو وقد راجت سوقه في بلاد العرب، وصار يأتيه كل من هب من «الشعراء» ودب؛ بدون دراية بأصوله وقواعده؛ يكاد يكون صورة من «البيت المفرد» القائم في شعرنا على جمالية تأليف الغريب، أو «البيت المقلد»(من القلادة) باصطلاح ابن سلام في طبقات الشعراء؛ أي المستغني بنفسه.
ذلك أن البيت المقلد القائم على اللمحة التصويرية دون الصورة الكلية المستأنية، هو البيت الذي يدرك سماعا كما تنم على ذلك سائر أقوالهم في التصدير والتوشيح والتسهيم ورد العجز على الصدر. وهي كلها مصطلحات مخصوصة بجمالية البيت المفرد، دون جمالية القصيدة، وبالمعاني كلما وقعت ألفاظها في مواقعها، وجاوزت الكلمة أختها اتفاقا أو تضادا.
إن عنايتهم بجمالية البيت المفرد واشتراطهم أن يكون مستقلا بالإفادة لا ينعطف على سابقه أو لاحقه، ما كان له أثر في موقفهم من الصورة ومن مختلف الوظائف التي علقوها بها. فكلما تحيزت الصورة في البيت المقلد، كانت أوقع من نفس السامع وأنفذ فيها، وعبرت عن حاصل المراد وتمامه في ألفاظ قليلة لا تشتت الذهن ولا الإدراك.

البيت المقلد القائم على اللمحة التصويرية دون الصورة الكلية المستأنية، هو البيت الذي يدرك سماعا كما تنم على ذلك سائر أقوالهم في التصدير والتوشيح والتسهيم ورد العجز على الصدر.

ولا سبب لذلك في الظاهر سوى إقرارهم جميعا بمصادرة لغوية مفادها أن مبنى كلام العرب إنما هو على الإيجاز ما استطاعوا إليه سبيلا، وعلى مراعاة «سبق أفهامهم»؛ إلا إذا منع مانع من الإيجاز، وكان المقام مما يقتضي الإطناب مثل التوكيد اللفظي والتكرير والتفسير وذكر الخاص بعد العام، والإتيان بالجملة المعترضة وكثرة البيان والإيضاح. ونحن وإن كنا لا ننكر أن ظاهرة الإيجاز إنما اقتضتها وحدة البيت المستقلة المكتفية بذاتها «الوحدة التي جاءت نتيجة لارتباط البيت في بنائه بصورة خاصة تقوم على العكس المتوازن (أب ح- ح ب أ) وهذا العكس جاء تبعا لتنظيم خاص لعلاقات العناصر (الألفاظ) لا العناصر ذاتها»؛ وربما اقتضتها طبيعة المجاز أيضا، فالمجاز نفسه إيجاز إذ يجعل اللغة تستوعب بكلمات قليلة ما لا يكاد يحصر من الصور والمعاني؛ فإننا أميل إلى تفسير الظاهرة بما أسلفنا من أمر القرابة بين الأداءين: الصوتي والمكتوب في ثقافة العرب. ونقدر أن هذه القرابة هي التي تساعدنا أكثر على فهم إنشائية القصيدة الوجيزة، وهي قرابة لم تنقطع أرحامها ولا ضاعت أنسابها، حتى عند المتأخرين من شعراء العربية وكتابها. فقد احتفوا بالكتابة وأدواتها من حبر ومداد وورق وأقلام، بدون أن يكون الفصل بين الأداءين واردا عندهم، بل ظل نقل المعرفة يعتمد على الحفظ والسماع والرواية، مثلما ظل النص في ثقافتهم يخاطب السمع على قدر ما يخاطب البصر؛ «فكأن الإيجاز كان صدى للحاجة الاجتماعية إلى ما يخف حفظه ويسهل تنقله». وهو من هذا الجانب تقليد شفهي ثابت أخذوا به في المنظوم والمنثور كليهما، حتى أنهم عدوه ضربا من ضروب البلاغة؛ بل البلاغة نفسها كما تدل على ذلك أقوال شتى في تعريفها، كانت هي ذاتها في غاية الإيجاز، نقف عليها في غير مصنف من مصنفاتهم. وكان من نتائج ذلك أن عدّ ظاهرة أسلوبية ودليلا على مقدرة المتكلم، حتى أنهم بنوا عليه فنا قائما بذاته هو فن «التوقيعات» الذي يعتمد اللمحة الدالة والإشارة البعيدة. يروي الجاحظ أن جعفر بن يحيى كان يقول لكتابه: «إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا». أما في الشعر، فقد كان الشعراء يعللون حفاوتهم بالبيت المفرد الجاري على الألسن، بالإيجاز وتنكب الفضول فقد «قيل أابي المهوس: لم لا تطيل الهجاء؟ فقال: لم أجد المثل النادر إلا بيتا واحدا، ولم أجد الشعر السائر إلا بيتا واحدا».

الفاصلة أو القافية هي الوحدة القياسية التي يتجدد بواسطتها التناسب الإيقاعي، ويتكرر متصلا أو منفصلا، ويجري في صورة من القصر والطول.

وقيل لآخر: «مالك لا تزيد على أربعة واثنتين؟ قال: هن بالقلوب أوقع، وإلى الحفظ أسرع، وبالألسن أعلق، وللمعاني أجمع، وصاحبها أبلغ وأوجز». ويستحسن ابن رشيق «أن يكون كل بيت قائما بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده»، ويعد ما سوى ذلك تقصيرا «إلا في مواضع معروفة، مثل الحكايات وما شاكلها، فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد»، ولا يستحسن الشعر مبنيا بعضه على بعض «على أن فيه بعدا ولا تنافرا؛ لأنه وإن كان كذلك، فهو الذي كرهت من التثبيج» والتثبيج هو طول الكلام واضطرابه وإبهامه. وينقل عن الجاحظ قوله: «أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا واحدا، وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان». والمقصود بـ«أجود الشعر» في قول الجاحظ، إنما هو البيت لا القصيدة، كما يدل على ذلك كلامه في الموضع ذاته، حيث يستحسن أن «يكون البيت بأسره كأنه لفظة واحدة، لخفته وسهولته؛ واللفظة كأنها حرف واحد». ويستجيد ابن رشيق الكلام على هذا الأسلوب الذي ذكره الجاحظ، فكلما كان كذلك «لذ سماعه، وخف محمله، وقرب فهمه، وعذب النطق به، وتحلى في قلب سامعه؛ فإذا كان متنافرا متباينا، عسر حفظه، وثقل على اللسان النطق به، ومجته المسامع، فلم يستقر فيها منه شيء». ولا يخفى ما في قوله من عبارات مثل السماع والنطق والحفظ وما إليها، تؤكد أن الإيجاز يرجع إلى استقرار تقليد شفهي لم تطمسه الكتابة ولا هي حجبت عنه.
على أنهم في نقدهم وفي مختلف شروحهم على الشعر، نظروا غالبا إلى البيت على أنه يصنع على حدة مستقلا بمعنى خاص، وظل المنشود عندهم أن تؤدي الصورة الغرض من صياغتها في إيصال المعنى إلى المخاطب، بأبلغ عبارة وأوجزها. وكان البيت عندهم كالجملة كلاما مستقلا بالفائدة، رغم أنه ينضوي إلى غرض بعينه. وهو من ثم للعطف أحوج، إلا أنهم اقتصروا في أغلب قراءاتهم على ذكر جملة من الأحكام النحوية البلاغية التي تعرض للمفردات في حال تركيبها أو للجمع المؤتلف منها الكلام البليغ تفريقا وجمعا وتطويلا واختصارا. وكان غرضهم منها إبراز جمالية أساليب العرب في ربط جمل الكلام بما يؤمن وقوع السامع في لبس أو شبهة، في ما اصطلحوا عليه بـ«الفصل والوصل»؛ بما يكون وحدة معنوية لها خصائص ذاتية؛ ولكنها موصولة بالمعنى العام في الآن نفسه. ومن هذه الخصائص الإيضاح بشتى صوره من تفسير واستطراد وتفصيل بعد إجمال، والإيجاز وحسن النسق وتقطيع الموضوع إلى أجزاء موصولة كلما تنوعت أشكاله وتشعبت أجزاؤه، وعرض الصورة الواحدة بهيئات متعددة منفصلة شكلا، متصلة مضمونا، وما إلى ذلك من تصوير الهيئة أو الحال منفصلة مرة، متصلة أخرى، وتناسب الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي، حيث تبرز قيمة الوقف والابتداء ثانية، أي الوقف سواء اقتضاه المعنى أو لم يقتضه، حيث الفاصلة أو القافية هي الوحدة القياسية التي يتجدد بواسطتها التناسب الإيقاعي، ويتكرر متصلا أو منفصلا، ويجري في صورة من القصر والطول، والثبات والتغير، والاطراد والتنوع، فلعل البيت المقلد هو الهايكو العربي في صورته الأقدم.

٭ كاتب من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول balli_mohamed casa maroc:

    كلمة اداسمح المنبرشكرا وتحية للأستاذ المحترم فنحن لسنامن الأساسدة الباحثين ولامن المتقفين ولامن الشعراء المخضرمين ولامن الفلاسفة نضع كلمتنا باللغة العربية لغة الخلد بدل اللغة الفرنسية اوالأنجلزية رغم اننا ضعفاء فيها قليلا ساعات قليلة وينصب الشعركاعادته خيمته الضخمة وهي بعطرالخيال وينادي بأعلى صوته على عشاقه وهم كثرحتى من الجنس الثاني ليسمعهم قصائده القديمة والجديدة ويسمعوه قصائدهم عن الحب وعن الأخلاق وعن الكرم وعن الطبيعة في كل صورها وعن جمال المرأة المتميزة وعن السلام كدالك وعن المحبة الصادقة كل هدابالنغمات الموسيقية المتنوعة شرقية وغربية كدالك نحن كنانسمع بهدااللون كلمة من حروف قليلة لكن لهامعاني كثيرة وباالموسيقى لأنهاشرط لابد منه فانستمع لقلم الثاريخ وهو يقول قصيدة الهايكو (باليابانية: 俳句) هي قصيدة قصيرة تُكتب في ثلاثة أسطر فقط لا غير معتمدة على اللغة الحسية القوية القادرة على التعبير المُكثف عن شعور أو مشهد أو صورة جمالية. نشأ شعر الهايكو وتطور بشكل أساسي على أيدي الشعراء اليابانيين، لكنه انتقل وأصبح رائجًا في مختلف اللغات

  2. يقول الحبيب الدالي:

    بارك الله فيكم دكتور منصف الوهايبي ..حفظكم الله ..مقال مميز

  3. يقول عباس محمد عمارة:

    هذه هي مشكلة العرب كلما يظهر شئ جديد..يحاولون اقحامه وارجاعه إلى الماضي..هذا ماحصل مع قصيدة النثر والمسرحية والرواية والقصة..وحتى الاكتشافات العلمية..إنه الشعور بعظمة الماضي وسطوته على الحاضر.لكن الواقع غير ذلك..قصيدة الهايكو منجز ياباني انتقل الى العرب عن طريق الترجمات اولا..وللحديث بقية تطول.شكرا أستاذ منصف الوهايبي على هذه النظرة الراديكالية.

إشترك في قائمتنا البريدية