بعد عدد من الأيام في الحرية بدأت التقارير الإسرائيلية تتحدث عن إلقاء القبض على المحررين الستة الذين نجحوا بتحرير أنفسهم عبر عملية أشعلت حماس الناس في فلسطين والعالم العربي، وأشغلت مستخدمي منصات التواصل الإجتماعي.
وهي قصة فريدة في محاولات الخروج من عبودية الأسر، خاصة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وهي ليست الأولى، فهناك محاولات أخرى مثل تلك التي حرر فيها سجناء للجهاد الإسلامي أنفسهم في عام 1987 وقبل فترة قصيرة من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
ولكن العملية الأخيرة استثنائية من ناحية الطريقة وتمت في إطار السجون داخل إسرائيل المعروفة بإجراءاتها الأمنية العالية، كما وذكرت الطريقة بأفلام ومسلسلات عن محاولات الخروج من السجن، ولعل أشهرها الفيلم الذي لعب فيه تيم روبن ومورغان فريمان دور البطولة «ذي شوشانك ريديمبشين» (الخلاص من شوشانك) و»بريزن بريك» المسلسل الدرامي الأمريكي المعروف. وفي العام الماضي عرض فيلم عن محاولات الهروب من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو «الهروب من بريتوريا» من بطولة دانيال رادكليف، الذي لعب دور هاري بوتر في السلسلة المعروفة. وهي أفلام تكشف عن توق السجناء للحرية وتحديهم المستحيل وتجاوزهم عقبات الرقابة والقمع والعزل الإنفرادي للخروج والتركيز على المهمة، ويبدو من الصور التي بثتها السلطات الإسرائيلية أن السجناء الستة استغلوا ثغرات في بناء السجن وحفروا على مدى أشهر بدون أن يثيروا انتباه حرس سجن جلبوع، الذي صممه مهندسون أيرلنديون وبدأ باستقبال السجناء في عام 2004 وترك الستة الفارين الذي أعيد أربعة منهم، لخيالنا أن يعرف طريقة الحفر. ففيلم الخلاص من شوشانك قائم على قصة كتبها الروائي الأمريكي صاحب كتب الإثارة والرعب ستيفن كينغ، والهروب من بريتوريا قائم على مذكرات «داخل وخارج: الفرار من سجن بريتوريا» من تأليف تيم جنكين، أحد الفارين الثلاثة من سجن النظام العنصري السابق، والمشاهد للفيلم لا يجد فرقا بين سجون ذلك النظام والسجون الإسرائيلية. وفي معظم الأفلام عن الهروب تجد نهايات جيدة حيث يخرج الفارون للحرية ويبدأون حياة جديدة أو يعودون لمعاقلهم ويحتمون بالجبال، كما في حالة إل تشابو رئيس عصابات تهريب المخدرات الذي حفر له نفقا من الخارج وجهزت له دراجة نارية فر عليها إلى مناطق الغابات قبل القبض عليه وترحيله إلى أمريكا وسجنه، حيث لا فرار أبدا منها. لكن الحالة الفلسطينية تظل على جرأتها مهمة صعبة فلا مجال للحماية. مع أن وزير الأمن العام عومير بارلي حاول الإشارة إلى أن المحررين الستة خططوا للعملية طويلا وتلقوا على الأغلب مساعدة من الخارج، وحقيقة الكشف عن اثنين منهم في الناصرة واثنين في مرج بن عامر تعطي صورة أنهم حاولوا التوزع، ولا نعرف أي شيء عن خططهم بعد الخروج، فقد اقترح البعض أنهم ربما كانوا يخططون الفرار إلى الأردن أو غزة، وهي أمور مستحيلة في ظل الإجراءات الأمنية الإسرائيلية. وما تم هو أن سلطات السجن الإسرائيلية حاولت التغطية على فشلها عبر منع السجناء من الخروج إلى الفسحة اليومية ما أدى تمرد وإشعال النار في عدد من الزنازين. وكانت مديرة مصلحة السجون كاتي بيري قد أمرت بعد الهروب السهل للستة بتفريق سجناء الجهاد على الزنازين والتأكد من أن سجينا واحدا من الحركة في الزنزانة الواحدة. ذلك أن السجناء الستة كانوا في زنزانة واحدة، مما دفع ببيري أيضا إلى التفكير بتوزيع سجناء الجهاد على السجون الأمنية الأخرى في إسرائيل، لكنها تراجعت بعد تهديد السجناء بمزيد من أعمال الشغب. ونقل موقع «والا» الإسرائيلي عن مسؤول بارز في مصلحة السجون الإسرائيلية قوله أن المعنويات عالية بين السجناء بعد هروب سجن جلبوع. وأجرت سلطات السجن تحقيقات مع حرسه خشية أن يكونوا ساعدوا المحررين، وتم التحقيق مع 14 موظفا يوم الأربعاء بشأن «الهروب العظيم من الجليل» حيث يقع سجن جلبوع. وأشار موقع «ديلي بيست» (8/9/2021) إلى أن صاحب بقالة في قرية بشمال إسرائيل تحدث عن دخول زكريا الزبيدي، أشهر المحررين إلى محله وطلب خبزا ووسيلة نقل، ولم يستجب صاحب المحل للطلب، وخرج.
لا للعقاب الجماعي
وفي هذا السياق أشارت صحيفة «هآرتس» (10/9/2021) في افتتاحيتها التي جاءت بعنوان «لا للعقاب الجماعي» قائلة: « في مصلحة السجون، وجدوا طريقة سهلة، لا ناجعة ولا عادلة، لطمس فشل الجهاز الذريع في منع فرار ستة أسرى فلسطينيين من سجن جلبوع». وذكرت أن «الحل الذي يلوح في الأفق، هو تشديد الظروف المعيشية لعموم الأسرى الفلسطينيين، نقل المئات من أسرى الجهاد الإسلامي من سجونهم، وتوزيعهم على سجون أخرى، منع زيارات العائلات حتى نهاية الشهر على الأقل لعموم الأسرى، وغيرها من الإجراءات التي ترمي إلى تكدير حياتهم داخل السجون». وأشارت إلى أنه «يوجد نحو 4500 أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية يعيشون في ظلم بسبب ظروفهم مقارنة مع باقي السجناء، من بينهم نحو 2500 يقضون عقوبة السجن و1474 لم تصدر عليهم أحكام بعد ونحو 500 هم أسرى بدون محاكمة وبدون لائحة اتهام وبدون قدرة على الدفاع عن أنفسهم، وهذا أمر لا يطاق بحد ذاته». وأضافت: «واحد من آلاف الأسرى، لم يمنح الحق في الخروج في إجازة، رغم مرور عشرات السنين في السجن، وحتى المكالمات الهاتفية لعائلاتهم محظورة عليهم بالإجمال». ولفتت إلى أن «الأحكام الصادرة عليهم تقرر في الجهاز القضائي العسكري الذي يؤدي مهامه بشكل عام كذراع تنفيذي لسلطات الاحتلال ويفرض عليهم عقوبات متشددة على نحو خاص، غير متوازنة، والدليل أن نسبة التبرئة، هي معدومة للمتهمين الفلسطينيين». وقالت: «ولهذا يجب أن يضاف موقف منظمات حقوق الإنسان، في إسرائيل وفي العالم، الذي يقضي بأن اعتقال آلاف الأسرى الفلسطينيين في إسرائيل، هو خرق للقانون الدولي، الذي يحظر إخراج (اختطاف) الأسرى والمعتقلين من الأراضي المحتلة». ونوهت إلى أنه: «يوجد سجن إسرائيلي واحد فقط في المناطق هو سجن عوفر، وباقي الأسرى يقضون فترة حكمهم داخل إسرائيل». وأكدت أن «الدعوة للعقاب بشكل جماعي لكل الأسرى وعائلاتهم، وفرض المزيد من التشدد على ظروف حبسهم القاسية، تثير الخواطر وقد تحرف النقاش الجماهيري عن القصور الذي سهل الهروب، وتستجيب لمشاعر الثأر من الأسرى الستة، وهي غير عادلة ومن شأنها أن تزيد التوتر وخطر الانفجار العنيف، داخل السجون وخارجها». وحذرت «هآرتس» مصلحة السجون الإسرائيلية من الأخذ بهذه المبادرة، وقالت: «على سلطات مصلحة السجون أن تترك هذه المبادرة، وألا تعاقب كل الأسرى دون ذنب اقترفوه». وتسود أجواء التوتر بعد عمليات القمع والتفتيش في سجون أخرى مثل عسقلان، وتحذير نادي الأسير الفلسطيني من أي إجراءات عقابية ضد السجناء الفلسطينيين. وفي محاولة للمدارة على الفشل والإحراج، فقد نقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن نائب مفوض السجون المتقاعد مكلب طاباش قوله إن عملية الفرار «هي حادث مخجل وأسوأ حادث منذ عقود».
التحدي
ويعتقد الصحافي البريطاني جوناثان كوك المقيم في الناصرة منذ عام 2001 بمقال نشره موقع «ميدل إيست آي» (10/9/2021) أن عملية الفرار تمثل تحديا لهيبة إسرائيل وتعطي صورة أن الاحتلال ليس منيعا كما تعتقد. وأضاف أن من المستحيل على أي فلسطيني ألا يشعر بالفرح لعملية الفرار من أكثر السجون الإسرائيلية حراسة وقيودا أمنية، في وقت خصصت فيه إسرائيل مزيدا من الجهود لشيطنة الستة ووصفهم بالإرهابيين، مع أن الفلسطينيين يعتبرونهم من أحسن جنودهم جرأة. وهم سجناء حرب، بعضهم يقضي سجنا مدى الحياة لقتلهم مستوطنين أو جنودا إسرائيليين الذين ينفذون الاحتلال الإسرائيلي المفروض على مناطقهم منذ عقود. وأضاف أن كل الفلسطينيين يتعاطفون ويعرفون أنفسهم من خلال محنة هؤلاء الرجال، فالسجن هو طقس الرجولة للفلسطينيين، وعبر منه مئات الآلاف على مدى العقود الخمسة الماضية. وقال إن هناك الكثيرين منهم ينتظرون المحاكمة وغيرهم في السجن الإداري- محتجزون بدون توجيه اتهامات أو معرفة جرمهم الذي ارتكبوه. ويتم انتهاك حقوق السجناء بشكل دائم، ويتم احتجازهم في زنازين مكتظة ولا يسمح بالتواصل مع عائلاتهم ويتعرضون للضرب أو التعذيب.
روتين عادي
وفي الصيف ظهرت أشرطة فيديو- تذكر بانتهاكات الجيش الأمريكي في سجن أبو غريب- عن ضرب جماعي لسجناء فلسطينيين في سجن كتسعيوت في جنوب إسرائيل عام 2019 ولم يتم اتخاذ أي إجراءات حتى بعد تسريب اللقطات ما يقترح أن هذا الأمر عادي ويؤكد ما يقوله السجناء الفلسطينيون منذ وقت. ويضيف أن معظم السجناء السياسيين الفلسطينيين محتجزون في سجون داخل إسرائيل- كما الستة الذين فروا من جلبوع، في شمال إسرائيل. ويعد هذا انتهاكا صارخا لميثاق جنيف والتزامات إسرائيل حسب قوانين الحرب، وهذا يعني عدم زيارة العائلات لأبنائها.
إهانة إسرائيل
ويقول كوك إن كل فلسطيني يشعر بالفرح لإهانة إسرائيل، من فشل الحرس الكشف عن الحفرة التي كانت تكبر في نظام المصارف الصحية وفرار الستة أثناء نوم حارسة السجن والطريقة الدقيقة للهروب التي أفشلت ولفترة ملاحقات الشرطة لهم. ويعتقد أن الاحتفال الفلسطيني وفي كل المنطقة يذهب أبعد من مجرد الهروب، فكلما ظل السجناء بعيدا عن يد الاحتلال كلما تلقى ضربة قوية لكرامته وقوته. وبهذه الطريقة ينظر الإسرائيليون والرأي العام في إسرائيل للأمر وليس الفلسطينيون فقط. فلم يهرب الستة من سجن عالي الأمنية، وفروا من مقلاة على النار، بل خرجوا من سجن صغير إلى السجن الأكبر وهو الوطن المحتل. وفي كل دقيقة بقوا فيها أحرارا فإنهم يتحدون الاحتلال. وكل دقيقة ظلوا فيها خارج السجن فإنهم هزموا نظام السيطرة والتحكم الإسرائيلي على حياتهم. وهروبهم ذكر الفلسطينيين أن الحرية ممكنة وأن الاحتلال ليس منيعا. ولهذا تحرص إسرائيل على إعادتهم خلف القضبان لأن معنى السجن والاحتلال هو قتل أي أمل أو حس بالحرية لدى كل فلسطيني.
جهنم بطبقات
وفي الحقيقة فقد أنشأت إسرائيل غرف/طبقات في جهنم على غرار ما تخيله دانتي في «الكوميديا الإلهية» فكلما زادت مقاومة الفلسطينيين وتحديهم للاحتلال كلما زادت القيود ووضعوا في منازل دنيا من الجحيم الإسرائيلي. والسجن هو أعلى درجات العقاب لكن غزة هي أكبر سجن مفتوح في العالم، محاطة بسياج إلكتروني وبجيوش وبحرية من كل الجوانب. وفي الضفة الغربية حصلت السلطة ورئيسها محمود عباس على بعض التنازلات التي خففت من حدة السجن وقيوده، ولكن بعد أن أثبت حسن سلوكه، وواصل التنسيق الأمني «المقدس» وهذا قوله، مع إسرائيل. وعندما حرر السجناء أنفسهم، ردت إسرائيل بشدة وأغلقت باب الزنزانة في الضفة الغربية، وهو ما يكشف عن واقع الاحتلال الذي لا يفرق بين الفلسطينيين عندما يقرر المحتل العقاب. ولأن المحررين الستة هم من جينين، التي لو وصلوها لوجدوا مخبأ، فقد عاقبت إسرائيل عائلاتهم «جريمة حرب». وحتى لو كانوا يفكرون بالاختفاء في الضفة فمن السهل ملاحقتهم نظرا للتنسيق والرقابة الإسرائيلية التي وصفها عاموس هرئيل من «هآرتس» بأنها الأشد كثافة من أي منطقة في العالم. ويؤكد الكاتب ان حديث الصحافة الإسرائيلية عن تحقيقات داخل السجن هي محاولة للبحث عن كبش فداء في حرس السجن وهم عادة من الدروز العرب. وفي النهاية فإن الرجال الستة سجلوا بطولتهم ثلاث مرات: الأولى عندما ضحوا بحريتهم وانضموا إلى المقاومة المسلحة ضد الاحتلال. الثانية عندما دبروا عملية هروب جريئة تحت سمع ونظر السلطات الإسرائيلية. الثالثة عندما فروا عدة أيام رغم ما يتوفر لدى إسرائيل من قدرات عسكرية وأمنية. وبهذه المثابة تحولوا إلى رمز لمحنة كل الفلسطينيين وما يتطلع إليه كل واحد منهم وهو التحدي. وسجل كل من زكريا الزبيدي، ومحمود ومحمد العارضة وأيهم كممجي ويعقوب القادري ومناضل نفيعات أسماءهم في سجل التحدي الفلسطيني.