يروي الفيلم تفاصيل محاولة هروب من سجن عاصمة البلاد بريتوريا، كما ينبئ بذلك عنوان الفيلم، عن قصة حقيقية لمناضلين من أصحاب البشرة البيضاء، هم “تيم جينكين”، “ستيفين لي” وليونارد فونتين”، حيث يقوم الفيلم بقلب اتجاه البوصلة تجاه أقلية بيضاء، آمنت بالمساواة والمواطنة، في محاولة للخروج من نمطية سلبية سائدة تقول إن كل أصحاب البشرة البيضاء كانوا عنصريين ومؤمنين بالتمييز ضد أصحاب البشرة السوداء في تلك الحقبة الأليمة من الزمن في جنوب أفريقيا، وينقل الفيلم تجربة أليمة لأولئك الذين تلقوا تعذيباً وانتهاكات لا تقل عن أقرانهم من السود، بل يكاد الفيلم يقول إنهم دفعوا الثمن مضاعفاً، لأنهم اعتبروا خونة مرتين، مرة للوطن بمفهومه التمييزي التملكي للمستعمرين البيض، وأخرى لخيانتهم لبني جلدتهم البيضاء، فكان حجم إذلالهم أشد وأكبر من المناضلين السود، هكذا ادعى الفيلم.
مناهضة نظام الفصل العنصري
ينحدر هؤلاء المناضلون من عوائل ذات مكانة اجتماعية مرموقة، يسعون وسعهم لمناهضة نظام الفصل العنصري “أبارتهايد” الذي أسس له “الحزب الوطني” منذ بداية سيطرته على الحياة السياسية في عام 1948 حيث تم التمييز لصالح المنحدرين من البشرة البيضاء، أبناء المستعمرين الأوروبيين، في كل مجالات الحياة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في تجاهل وقح وأعمى لبنية المستعمرة البريطانية السابقة، التي ورثت البلاد عن مستعمرة هولندية سبقتها زمنياً في المكان، بالرغم من أن السكان الأصليين فيها من أصحاب البشرة السوداء يشكلون النسبة الأعظم من الديموغرافيا البشرية للسكان.
استخدم تحت سيف هذا التمييز العرقي، كل أشكال العنف والفصل والممارسات الوقحة والمقيتة التي من الممكن أن يتوقعها المرء، في نمط فكري فاشي اعتمد فكراً لا إنسانياً للتفوق، في منظومة سياسية بائدة، أصبحت أنموذجاً يتم المقارنة به، مع من يشابهونه فكراً وممارسة، كمقياس دنيء من التجارب السياسية على مستوى الدول في المنظور السياسي، بالرغم من أنه لا يزال يتكرر الكثير من ممارساتها، على مستوى كيانات وأنظمة حالية أخرى، أمام ناظري العالم الذي يدعي أنه صار أكثر تحضراً، ولكننا نفاجأ أنه يقدم لنا كل فترة وأخرى مستوى من مستويات الانحطاط، يتجلى ذلك عبر تسويغ وتبرير تصرفات هذه الكيانات بناء على مصالح وتوازنات واتفاقيات دولية، تدفع بالكثيرين لليأس من هذه الازدواجيات المقيتة، التي لا تتعلم من تجنب تكرار نتائج سابقة، بل تعاود الإقرار على إبقاء الأمور على وضعها الراهن، وتتجاهل نتائج دموية وخيمة لاحقة يجرها هذا التجاهل.
لمحة تاريخية ديموغرافية
من المعلوم أن دولة جنوب أفريقيا هي الدولة الأكثر توافراً للتنوع السكاني في القارة الأفريقية، ويعزى ذلك للتاريخ الاستعماري الأوروبي الذي داهم تلك البقعة الجغرافية الهامة والتي تقع في أقصى جنوب القارة السوداء، تبعاً لذلك تحتوي البنية الاجتماعية للدولة على أكبر عدد للسكان من البشرة البيضاء وذوي الأصول الأوروبية في أفريقيا، وهي كذلك تعتبر أكبر تجمع سكاني هندي خارج آسيا، بناء على تبعية مستعمرة الهند الشرقية للتاج البريطاني في مرحلة سابقة، وهي كذلك تعتبر أكبر مجتمع ملون (أسود، أسمر وأبيض) في أفريقيا، مما يجعلها من أكثر الدول تنوعاً بالسكان في القارة الأفريقية، لكن هذا التنوع لم يشفع للسكان الأصليين إلا بالحصول على المزيد من التفرقة والتمييز ضد الأغلبية السوداء على مستوى الحقوق والمقدرة على خوض القيادة السياسية وتدبير شؤون الدولة.
إبداع سينمائي تصويري
يمكن الإشارة بفعالية ووضوح لزاوية مريحة وكاملة لتصوير المشاهد السينمائية للمبدع “جيفري هول”، ما أضفى على الفيلم واقعية أكبر، ومصداقية أعلى، بحيث ترى عين المشاهد التفاصيل في كل شيء، بدءاً من ملامح الشخصيات وتقلبات أمزجة أصحابها، لتصل لحد رصد تفاصيل العرق الذي يغرورق فيه صاحبه، مرتبطاً بالانفعال عند موقف ما، أو التخطيط لحدث لاحق.
يمكن رصد هذا بمثال عن لحظات الرعب أثناء التفتيش اليومي للزنازين في المعتقل، التي أداها الممثل الإنكليزي الشهير دانيال رادكليف -المنحدر من أب ذي أصول إيرلندية بروتستانتية وأم جنوب أفريقية مولودة لعائلة يهودية- كانت تلك اللحظات المخيفة تبدو وكأنها حقيقية، للدرجة التي تجعلك تشترك مع رعشات خوف الممثل من خارج الشاشة، خوفاً من كشف محاولاته، للفرار من السجن العنصري الموغل بالقسوة والتعسف والتمييز.
ولعلّ تأدية هذا الفيلم بشكل لافت من هذا الممثل الشهير لتكاد تبدو محاولة للهروب من الشخصية الأشهر التي التصق اسمه بها كـ”هاري بوتر”، وهو تحد من الممثل كي يخرج من وطء شهرة الشخصية السابقة، ليؤكد على نجاحه خارج هذا الاطار من دراما الإثارة الخيالية، ويبدو أنه نجح بذلك.
يضع الفيلم تصورات مختلفة، للمناضلين أنفسهم، عن جدوى الأفعال وارتباطها بالقضية النهائية، فهناك تيارات تؤمن بالصبر على الواقع وترضى به، مردّ إيمانها بهذا الموقف أنه لا بدّ من انتظار مخاض البذار في عملية الزراعة فبعد بذر البذور، لا بدّ من الانتظار لتلائم الظروف كي يأخذ انتعاش الضمير والأمل بالتغيير في المجتمع وقته الطبيعي كما في عملية الزراعة الطبيعية، ومن ثمّ لنصل مرحلة حصاد النتائج والتغير المنشود.
وتيارات أخرى يمثلهم أبطال الفيلم، تعتبر أن كل انتظار هو عملية سلبية لا ينتظر من ورائها إلا المزيد من القهر وضياع المستقبل داخل أروقة الزنازين، ومراقبة بطيئة للمزيد من الظلم والعسف وتراكم المصائب الاجتماعية التي لا يمكن أن تنتج إلا عاصفة ستحرق معها في النهاية كل شيء.
ختاماً، لابد من القول أن الفيلم لمخرجه الإنكليزي فرانسيس أنان -الذي ساهم بكتابة السيناريو لقصته أيضاً- سيتم إدراجه ضمن زاوية السينما التي تعالج أدب السجون وستظل شاهداً بصرياً مرتبطاً بقصص النضال والإثارة والتحدي، كما أنها تسجل ذاكرة أليمة عن تاريخ البشرية في لحظات غير مشرفة، بمنعطفات قاتمة، عن تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان، على القدر نفسه.
كاتب سوري
تحليل جميل بارك الله بك وبقلمك الراقي ذو التحليل الواقعي سواءا للاعمال السينمائية او التلفزيونية.
شكرا على التعليق الوافي
مقال مميز كل الشكر لكم