نعرف من تاريخ الآداب الغربية الحديثة، أن الرومنطيقيين هم الذين أعلوا من شأن الخيال، من حيث هو شكل الفن الذي يجلو الأشياء، ويزيح عنها ستار الألفة. وفي هذا الأفق تتنزل تجربة الهكواتي (من الهايكو) الجزائري معاشو قرور هذا الشاعر الصانع الماهر، وهو يفعل فعله باللغة التي هي داخلية، ويجسد عالم الوجدان؛ ويجعل الأشياء المألوفة كما لو أنها غير مألوفة. وأعني في السياق الذي أنا فيه شجرة القيقب أو شجرة الزينة، التي تملأ شوارع المدن الحديثة وحدائقها، فقد جعل منها معاشو، وهي المستجلبة إلى الجزائر زمن الاستعمار، شجرة ظل وارفة في جل كتابه «هايكو القيقب»، وأيقظ جمالها النائم وأوراقها الملونة؛ بل هو خلق لها وجودا في الصميم من وجودها، وأزاح عنها قناع الزمن أو الحياة القاتم. فهذه الشجرة البهية تخلب لب كثير منا، وقد نقف هنيهة نتملاها؛ ثم نمضي في سبيلنا غير آبهين؛ ولكن الشاعر وحده يعرف أن الأشياء توجد ما أن تدرك.
في كتاب «القيقب» يحاول معاشو حلما عصي المنال، أي كتابة هايكو القيقب «التواجدي» الكائن مع غيره، المشارك له لا في الطبيعة فحسب؛ وإنما في الجوهر أيضا. ومثلما تقول العقيدة اللوثرية إن وجود الجوهر الإلهي في القربان، لا يمنع وجود الخبز والخمر فيه، يقول معاشو بلغته الغريبة التي أعود إليها لاحقا بشيء من التفصيل، إن القصيدة لا تصور القيقب أو تشهد له فحسب؛ وإنما تتوق إلى أن تكون الشجرة نفسها، تلك التي تستدعيها أو تستلهمها. وكأن من وظائف الشعر أن يعيد إلينا وعينا بالأشياء وعيا كليا، ويبعث عصرا جديدا من الكتابة. أهو عصر ما قبل اللغة حيث كانت علاماتنا أشياء كما يقول أهل الفلسفة؟ ربما، على الرغم من أن المسافة بين العلامة والشيء قد تم قطعها.
أعرف أن البعض قد لا يرى في هذا الشعر سوى الإحالة أو ما يسميه القدماء فساد المعنى؛ أو الإفراط في الخيال والإسراف في المبالغة، أو سيريالية تتجاوز المقدار. وهو حقهم الذي لا نصادره. على أن الصورة عند معاشو لا تجري على هذا النحو، فهي ثلاثية محكمة مستصفاة؛ وكأنها وحدة الجوهر بأقانيمه الثلاثة:
«جذور القيقب/ دامعا أنفخ نارها/ قفاها ينفث دخانا» فهذه كلمات يرتبط بعضها ببعض ارتباطا منطقيا، وكل منها يتضمن الأخرى: الجذور والنار والدخان، وكل منها يتخذ مكانه بالتعاقب الثلاثي زمنيا. والشاعر وفي بنية الهايكو هذه في كتابه كله، ولتداخل سلاسلها، وهو يرصد بذكاء لا يخفى القيقب وتفاصيل الحالة؛ ويستحضر الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل معا في ما يمكن أن نسميه حضور الحاضر، وكأنه يجلس في خلفية المشهد حينا، أو في صدارته حينا؛ كما في هذا النص، حيث القيقب وهو يُزبر صورة من القلفة وهي تقطع تهيئة لانفصام الطفل، ووسم ذكورته: «عباءة الختان/ يوم تزبر شجرة القيقب/ أتذكر المقص» أو «من نافذة القطار/ على وجهه ظلال القيقب/ مراقب التذاكر» أو «برفرفة ظلها/ فاقع الحمرة جلد حذائي/ ورقة قبقب حمراء»، أو «ما من عود أبدي/ إلى غصن القيقب/ يا خشبة المعول»، أو «لاهثا في إثرها/ أهش عنها أوراق القيقب/ تذكرة سفر كندية»، أو «جوربي الوحيد/ على ورق القيقب/ تقطر قطعة من جليد»، أو «حافية الأقدام/ شجرة القيقب تذرعها/ أم أربعة وأربعين»، أو «نافخ البوق/ تتداعى إليه حشود القيقب/ جندي من بازلت».
من شأن الاسم أن يعزز هذا النبر كلما وقع على كلمة بأكملها. وما إلى ذلك مثل المزاوجة بين فصل ووصل، كأن يفصل بين المعاني أو يربط بينها برباط معنوي أو لفظي، بما يكون وحدة معنوية لها خصائص ذاتية؛ ولكنها موصولة بالمعنى العام في الآن نفسه.
وفي هذه النصوص وغيرها، بما فيه صورة حجر التيمم وهو يبسط ظله بالوصيد، وخوذ الجنود وهي تتهيأ لإعدام الظلال في غابة القيقب المحروقة، وورق القيقب الذي تدوسه نعال المصلين في العيد؛ مقايسة تجري الصورة بمقتضاها حتى تكون مساوية للمعنى بلا زيادة أو نقصان، أو يكون مقدارها من مقداره. وعلى أساس من هذه التسوية أو من لزوم الهايكو، يمتثل المعنى، ويتحقق الإمتاع والمؤانسة. على أن معاشو يعرف كيف يتعدى بالصورة إلى طرفها الأقصى، وكأنها لحظة انطلاق السهم، على نحو ما يقوله المعاصرون عن البنية القصصية؛ ولكن من غير أن يخطئ رميته أو هدفه، حتى إن أوهمنا بأنه يأتي بغير الممكن. ولم أقف على أي صورة إحالية يستعصي على المتلقي تصورها، كما هو الشأن في الهايكو الياباني المتقن. وأنا واثق أن معاشو من قلة من شعرائنا الذين يعرفون حقا كيف يؤدون الهايكو الذي يتوافق والممكن أو القابل للوقوع؛ وهو يضع قارئه في هيئة انعطاف على الحقيقة التي نغفل عنها عادة.
وهذه صور تتمثل شيئا حقيقيا: بذور الطماطم التي تنمو في العلبة، وأصداء التراتيل التي يقطعها صياح الديكة، وابن آوى الذي يتجول بين الأضرحة ند خلو المراعي، وأثر الفراشة على نوار اللوز… والتماثل فيها ليس إلا علاقة مخفية في تلافيف الأشياء وثناياها ينبغي اكتشافها. وكأن الظاهر صدفة لا بد من كسرها؛ الأمر الذي ينهض به الشاعر حتى يتمه ويستوفيه، لأن الصورة – مهما يغرب فيها الشاعر- إنما تقول بتشبيهاتها نظاما مرتبا في تصور «الهكواتي». على أن غرابتها لا تعني امتثالها لشروط التمثل المفروضة من خارج أو من علٍ، أي التمثل المنشد إلى تصور ديني عن عالم أول مشحون بمعنى ثابت لا يتغير، أو لنظرة «ذرية أنطولوجية» إلى اللغة، حيث الكلمات المفردة تتمثل الأشياء في الواقع؛ وكأن الأشياء مخلوقات تخلقها الألفاظ أو أن اللغة ليست سوى مجموع الألفاظ التي اشتقها الناس من الأشياء التي حولهم؛ وإنما الإخبار غير المألوف، والصنعة على غير مثال.
ولو كان في هذا الحيز فسحة، لبينت كيف أن الدلالة لا يمكن أن تدرك إلا استئناسا بنظرة إلى لغة معاشو قرور، سياقية معرفية، حيث يتمثل تعليق الألفاظ بعضها ببعض عملية ذهنية؛ ويجسم نوايا المتكلم وأفعال كيانه الداخلي. وربما وهمنا بسبب من ذلك، أن اللغة لديه تعيد إنتاج الأشياء، أو هي ظل الأشياء ذاتها، أو أن وظيفتها تكاد تنحصر في استعادة الإحساس بالأشياء. وربما عززت هذا الوهم ظاهرة مطردة في الكتاب هي اعتماده اعتمادا يكاد يكون كليا على الإسمية في تركيب الصورة، وعلى الأسماء في خواتيم النصوص. وقد تتبعناها كلمة كلمة، فوجدنا أكثرها يختم بأسماء، وقلما تخللتها أفعال في هذه الخواتيم؛ بل إن قسما منها لا يستهان به يخلو من الأفعال خلوا تاما.
واطراد الأسماء في الخواتيم نبر قوي على «ذروة المعنى». ومن شأن الاسم أن يعزز هذا النبر كلما وقع على كلمة بأكملها. وما إلى ذلك مثل المزاوجة بين فصل ووصل، كأن يفصل بين المعاني أو يربط بينها برباط معنوي أو لفظي، بما يكون وحدة معنوية لها خصائص ذاتية؛ ولكنها موصولة بالمعنى العام في الآن نفسه. ومن هذه الخصائص الإيضاح بشتى صوره من تفسير واستطراد وتفصيل بعد إجمال، والإيجاز وحسن النسق وتقطيع الموضوع إلى أجزاء موصولة كلما تنوعت أشكاله وتشعبت أجزاؤه، وعرض الصورة الواحدة بهيئات متعددة منفصلة شكلا، متصلة مضمونا، وما إلى ذلك من تصوير الهيئة أو الحال منفصلة مرة، متصلة أخرى، وتناسب الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي، حيث تبرز قيمة الوقف والابتداء ثانية، أي الوقف على رأس الجملة سواء اقتضاه المعنى أو لم يقتضه، حيث الفاصلة هي الوحدة القياسية التي يتجدد بواسطتها التناسب الإيقاعي، ويتكرر متصلا أو منفصلا، ويجري في صورة من القصر والطول، والثبات والتغير، والاطراد والتنوع.
وقد لا أجد من أقرنه به سوى اللبناني شوقي أبي شقرة، على الرغم من أنه ليس شاعر هايكو إلا في ما قل وندر. فمعاشو مثله يصبو إلى خلق واقع لغوي خالص تؤديه الكتابة. بيد أن من دواعي الإنصاف أن نشير إلى أن غرابته هي من غرابة التركيب وفي ما عدا ذلك فلغته مأنوسة. والمأنوس يجعل الأشياء الطبيعية، بل الطبيعة الإنسانية نفسها، غاية في الغموض. والأنس يذهب بالأشياء أو هو لا يجلوها في كونها الخاص، وما نتلقاه من العالم وأشيائه ينقلب، بحكم العادة والألفة إلى نماذج تحتذى ورواسم لا نصغي لها. هذا شعر لا نفتقد فيه الإحساس بالأشياء، ومحاولة « تأسيس الكون بتسميته وتسمية مكوناته» في صور تنهض بـ«تحويل المعنى» ضمن الحدود التي تحتفظ فيها الكلمات بمحمولها الدلالي، ولا تخفى فيها قدرة الاستعارة على إيجاد «وضعين» وإنتاج أثر مجسم .وذلك بتركيب «وضع مرئي» يحيلنا المتكلم عليه ضمنا، وصورة شعرية يضفيها على هذا «الوضع» ثانية. وربما كان «تحويل المعنى» شرطا لا غنى عنه في إنشاء الاستعارة الهايكوية، حيث يجلس الشاعر القرفصاء في انتظار أن تنضج ثمار البلوط.
٭ كاتب من تونس
حين لا نرى أن الهايكو شعر واقعي ناقل لمشاعر اللحظة دون وصف ومجاز وإستعارة وببلاغة الإيجاز وضرب الحرف ويعتمد تقنيات التقليم والقطع ونعتبره من أنماط “الإحالة وفساد المعنى” وتقع نصوص هايكو عربية بين أيادي ناقد شعري حداثي كلاسيكي يجهل ضمنيا أغوار ماهية النمط نحصل على مثل هذا المقال. سعي محمود من المنصف الوهايبي لتبرئة نصوص ديوان الصديق معاشو قرور من “الإحالة، فساد المعنى، الإفراط في الخيال والمبالغة، السيريالية المتجاوزة المقدار” لتقر بأننا أمام “هكواتي” حقا “يؤدي الهايكو الذي يتوافق والممكن أو القابل للوقوع” ! إنصاف مستحق لكنه يبقى بمماس النقد الهايكوي ومفاهيم النمط الجمالية.
.
قراءة بعين متمكن من النقد الشعري تنَخَل الهايكو ببغرابيل غرزها غير هايكوية. للوهايبي قامته الابداعية السامقة شعرا ونقدا وللصديق معاشو الحظوة … نحن أمام شعور المرتقب المتحسّر لإدراك الهايجن على أنه “هكواتي”… حكواتي من جيل جديد بمقهى الشعر المعاصر.
.
رغم نوياه العالية المصداقية لم ينصف الوهايبي لا الهايكو ولا الهايجن المبدع المغاربي والعربي معاشو قرور المتميز بتمسكه بالروح الحقيقية للهايكو: الفكاهة التي تجعل الناس يبتسمون ونزعة الإصرار على نقل البيئة والثقافة المحلية بلغة قحّة مطلقة.
الهايكو قصيدة جميلة ومقتضبة بعيدة عن غرور الشعراء والمجاز والتشبيه والاستعارة والاطالة في وقت لا يمتلك المتلقي من وقته لقراءة تفاهات وخرابش شعراء من قصائد عمودية ونثرية على الأغلب . إنها لحظة استنارة ووجود حقيقي.ليس كل ما يقوله القدامى صحيح حول “الإحالة وفساد المعنى”ولا علاقة لها بالهايكو ولا اعرف كيف ربطها المؤلف في مقاله . إلا أنه يبدو يحب الماضي أكثر من الحاضر وهذه مشكلة العربي الأبدية وسبب تخلفنا عن الحضارة العالمية.
الاخ عباس: أرجو أن تعيد قراءة المقال إذ يبدو أنك فهمت العكس تماما. تحياتي
الأديب الكبير منصف الوهايبي لقد قراءات المقال عدة مرات مثلما طلبت مني لكني لم أجد في مقالك إلا ذلك الانطباع السيء تجاه الهايكو رغم دفاعك عن قصائد الهايكو للشاعر الصديق معاشو قرور. ولا أعرف استخدامك لمصطلح (الهايكوي) تعظيم ام تصغير للشاعر الذي يكتب الهايكو . شكرا لك وكم اتمنى ان اكون أنا على خطأ.
الاخ عباس: انا قلت عن معاشو: الشاعر الصانع الماهر. وهذا تقريظ له. واما الهكواتي فهو نحت ليس لي. وهو مستخدم عندنا في تونس ايجابيا. والبعض يضفيه على نفسه ويصرح به. ويعرف معاشو اني اتابع تجربته بمحبة، وهي الهايكو كما أحبه بعيدا عن التهويمات الاستعارية الفجة. وما ذكرته عن فساد المعنى… هو اشارة الى الذين لا يحبون الهايكو من العرب وليس رأيي. تحياتي