في الوقت الذي هرع زعماء الدول الصناعية العشرين للمشاركة في القمة الـ 18 لمجموعة العشرين كانت هناك أسئلة تتطلب الإجابة حول الأوضاع الداخلية لهذا البلد وما تعانيه الأقليات الدينية تحت حكم ناريندرا مودي وحزبه المتطرف: ما بال «كبرى الديمقراطيات» في العالم تمارس اضطهاد المسلمين بأبشع صوره؟ كيف تحوّل البلد الذي ضحى الملايين من أبنائه، على تعدد أديانهم، من أجل تحقيق استقلاله وانفكاكه عن الاستعمار البريطاني، إلى وطن لا يأمن مواطنوه فيه على أنفسهم من حكومة متطرفة تقتل على الهوية وتحرق المنازل وتدمر النسيج الاجتماعي الذي ضحت أجيال متعاقبة لبنائه؟ كيف يتحول الإنسان إلى مخلوق بلا شعور او ضمير أو إنسانية؟
بالأمس أحرقت قرى المسلمين في ميانمار على أيدي المجموعات البوذية المتعصبة، وقتل الآلاف منهم وارتكبت بحقهم مجازر اعتبرتها الجهات الدولية ترقى الى «التطهير العرقي». واليوم تمارس المجموعات الهندوسية جرائم مماثلة بحق مسلمي الهند الذين يشكّلون حوالي 15 في المئة من السكان، ليجعلوا الهند ثالث بلد من حيث عدد المسلمين بعد اندونيسيا وباكستان.
الفرق بين الوضعين أن الهند تحررت من الاستعمار على أيدي أبنائها الذين جمعتهم رابطة النضال من أجل الحرية. وعندما اختلف المسلمون والهندوس أضرب زعيمهم التاريخي، المهاتما غاندي عن الطعام للتعبير عن استيائه وغضبه من الصراع بين أتباعه من الديانتين. ولما دعا للتسامح مع المسلمين أرداه أحد الهندوس المتطرفين بثلاث رصاصات. لقد دفع حياته لمنع ما يمارسه رئيس وزراء الهند الحالي، ناريندرا مودي، هذه الأيام.
الهند التي كانت واعدة بديمقراطيتها وتعايش أبنائها ونموها الاقتصادي والعلمي كانت قادرة على تقديم أنموذج لا يضاهى في الوئام الاجتماعي ومثال تحتذيه الدول النامية التي طالما وقفت الهند بجانبها خلال نضالاتها الوطنية التحررية. ذلك الشعب الواعي الذي حمل راية التحرر ورفض التبعية للشرق أو الغرب في ذروة الحرب الباردة، كان في العام 1955 مستعدا لأن يرفع نائب الرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، على الاكتاف خلال الساعات التي قضاها في دلهي حينما حطّت بها طائرته المتوجهة إلى باندونغ لحضور مؤتمر عدم الانحياز. هذه الهند التي حكمها المسلمون هي نفسها التي تتنكر اليوم لتاريخها الإسلامي والمسلمين من سكانها وتعمد لاستئصالهم. هذا البلد الذي وفرت له ديمقراطيته في الوقت القريب شراكة سياسية تعددية تحت رئيس مسلم هو عبد الكلام ورئيس وزراء سيخي (مانموهان سينغ) في الوقت نفسه، ما الذي حل به ليصبح التمييز على أساس الانتماء الديني سياسة واضحة؟ الهند العلمانية كيف وقعت فريسة لحزب ديني متطرف لا يستطيع التعايش مع غيره ولا تدفعه قيمه الدينية للبحث عن أطر للتعاون مع أتباع الديانات الاخرى؟ لقد دفع المسلمون ضريبة ضخمة لهذا التحول، فرأوا في العام 1992 أقدم مسجد لديهم (المسجد البابري) في مدينة أيوديا، يسقط تحت الجرافات الهندوسية ليبنى مكانه معبد هندوسي. وماذا عن هدم معبد السيخ (المعبد الذهبي) في ولاية أمريتسار في العام 1984؟ ألم يكن ذلك اضطهادا دينيا لا ينسجم مع ما كان يروّج عن الهند كأكبر ديمقراطية علمانية في آسيا؟
هذا البلد العملاق الذي كان رئيسه الهندوسي جواهر لال نهرو شريكا في حمل هموم العالم الثالث تحت مظلة عدم الانحياز ألم يكن حليفا لجمال عبد الناصر العربي المسلم وجوزيف تيتو الشيوعي في مشروع سياسي ايديولوجي أطلقوا عليه «الحياد الإيجابي»؟ ألم تقف الهند عقودا مع حركات التحرر العالمية ومن بينها المجموعات الفلسطينية التي تناضل لتحرير بلدها من الاحتلال الصهيوني؟ كيف تحوّل هذا البلد في سياساته ليعترف أولا بالكيان الإسرائيلي ثم يصبح صديقا للاحتلال، وشريكا له خصوصا في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي.
لقد ساهم العمال الهنود على نطاق واسع في بناء دول الخليج خلال نصف القرن الأخير، أي منذ الطفرة النفطية في منتصف السبعينيات، وتحمّل أولئك العمال الوافدون الكثير من الاضطهاد الذي لم يكن خاليا من التمييز العنصري، فكان لهم الفضل في بناء دول مجلس التعاون، ولا يزالون يمثلون قطاعا عماليا واسعا. ولقد حظي هؤلاء بقدر من التقدير الديني فبنوا معابدهم واحتفلوا بأعيادهم ومارسوا حقوقهم العمالية، وكانوا طوال تلك الفترة جسر التواصل بين الخليج والهند ضمن العلاقات التاريخية بين الطرفين الممتدة في عمق التاريخ الحديث.
الهند التي كانت واعدة بديمقراطيتها وتعايش أبنائها ونموها الاقتصادي والعلمي كانت قادرة على تقديم أنموذج لا يضاهى في الوئام الاجتماعي
لقد تداولت على حكم الهند أحزاب شتى، وكان حزب المؤتمر أكثرها وفاء لقيم البلاد التي وضعها قادتها بعد الاستقلال عن بريطانيا قبل ثلاثة أرباع القرن. ومن المؤكد أن انفصال قطاع واسع من المسلمين عن الهند وتأسيس دولة باكستان كان جرحا عميقا في الجسد الهندي أدى إلى ثلاث حروب بينهما. ولكن أليست الهند حليفة لبنغلاديش؟ الأمر المؤكد ان النهضة الصناعية والتكنولوجية التي حدثت في هذا البلد خلال ربع القرن الأخير ساهمت في تعميق الشعور بالانتماء لدى المكوّنات البشرية للهند، ولكن ذلك لا يبرر السياسات التي ينتهجها حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، وهو حزب ديني متطرف ينتمي اليه رئيس الوزراء، ناريندرا مودي. سياسات ذلك الحزب ستكون مدمّرة للبلد الذي يفترض أن يكون نسيحه الاجتماعي والديني محكوما بالأطر الديمقراطية التي يحددها الدستور، بالإضافة للأعراف والعلاقات التاريخية بين تلك المكوّنات. وقد تصاعدت موجة الكراهية ضد المسلمين منذ وصول حزب بهاراتيا جاناتا الى الحكم بفوز ساحق في العام 2014. وازداد الوضع توترا بعد إقرار البرلمان الهندي في 2019 تعديلات على قانون المواطنة الصادر عام 1955. تسبّب التعديل بالجدل، لأنه كفل للمهاجرين الهاربين من الاضطهاد الديني في باكستان وبنغلادش وأفغانستان، حق الحصول على الجنسية الهندية، إن كانوا من أتباع الديانات السيخية والهندوسية والبوذية والمسيحية والجاينيّة والزراداشتية، ولكنه استثنى المهاجرين المسلمين.
هذا التعديل أثار موجات غضب في الهند، إذ رأى الكثيرون أنه يتنافى مع الدستور الهندي ومع مبادئ حقوق الإنسان، إذ يقصي جماعة من نيل جنسية بلد ما بسبب ديانتها. ويقول حقوقيون إن التعديل تكريس قانوني لمناخ كراهية عام، تعزّزه خطابات قادة الحزب اليميني الحاكم تجاه الأقلية المسلمة.
وقد تصاعدت أعمال استهداف المسلمين بشكل ملحوظ خلال الأشهر القليلة الماضية، وعلى رأسها التمييز ضدهم، وبلغ الأمر ذروته عند نشوب أزمة دبلوماسية حادة بين الهند وعدد من الدول الإسلامية، بسبب تصريحات حول النبي محمد، أطلقتها المتحدثة السابقة باسم حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، نوبور شارما، والناطق الإعلامي السابق باسم الحزب كومار جيندال. وكانت التصريحات استفزازية ومسيئة، حدثت في إثرها مواجهات عنيفة وتظاهرات احتجاجاً على ما ورد على لسان شارما في مقابلة تلفزيونية، وما كتبه جيندال على مواقع التواصل.
قبل شهرين صدر تقرير عن لجنة خبراء دوليين مستقلة صنّف المسلمين، كـ»أقلية مضطهدة» في الهند، بعد مراجعة سلسلة انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان خلال السنوات الأربع الأخيرة. وقالت اللجنة أن الانتهاكات تشمل اعتماد السلطات قوانين وسياسات «تستهدف المسلمين أو تنعكس عليهم بشكل سلبي أكثر من غيرهم». كما تشمل فشل الدولة في الهند في حماية المسلمين من هجمات تستهدفهم، يصل بعضها حدّ القتل والتعذيب. كما أن خطابات علنية لعدد من السياسيين البارزين في الحزب القومي الهندوسي الحاكم، تسعى لتضخيم بعض المقولات ومنها: أن المسلمين سوف يصبحون أغلبية سكانية في الهند، وهو أمر تستبعده الاحصائيات، وتضخيم ما يسمى «جهاد الحب» إذ يسعى بعض الهندوس المتطرفين لمنع الزيجات المختلطة بين أتباع الإسلام والهندوسية، قائلين إن هناك رجالاً مسلمين يدّعون أنهم هندوس، للزواج من هندوسيات، وإجبارهن على اعتناق الإسلام. ومنها أيضا العودة إلى حوادث دموية في تاريخ الهند، خلال حقبة حكم المغول التي امتدت نحو ثلاثة قرون (1526-1857) وخصوصاً خلال حكم السلطان أبو المظفر محيي الدين محمد الملقب بأورنكزيب عالم كير، في نهاية القرن السابع عشر.
هذه الدعاوى يفرضها الخطاب الهندوسي المتطرف ولكنها لا تحظى بصدقية لدى المؤرخين والمطّلعين على شؤون الهند وتاريخها. فالمؤرخة الأمريكية وأستاذة الدراسات الآسيوية في «جامعة روتجرز» أودري تراشكي تقول إنها «ليست ظاهرة جديدة، بل جزء جوهري من القومية الهندوسية، منذ نشأتها كإيديولوجيا يمينة قبل حوالي قرن من الزمن». وتؤكد أن «عقيدة الهندوتفا» (القومية الهندوسية) كانت تعدّ في السابق وجهة نظر راديكالية هامشية، لا يفكّر أي هندي محترم أن يتبناها، ولكن ما تغيّر الآن هو أن القوميين الهندوس باتوا يحكمون البلاد». و «أن المسلمين هم العدو الرئيسي والعقبة التي يعرّف الهندوس (هويتهم) ضدها». ولا شك ان انفصال باكستان عن الهند أحد أسباب توتر العلاقات بين الهندوس والمسلمين.
بعد اغتيال غاندي عام 1948، أراد أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال جواهر لال نهرو، تكريس مبدأ المساواة والدولة العلمانية، ولكن التوترات السياسية في الثمانينيات، جعلت زعيمة حزب المؤتمر الوطني الهندي أنديرا غاندي، «تستغل الانقسامات الدينية» حسب الدراسة، للبقاء في الحكم.
هذه الحقائق المؤلمة تضغط على المسلمين للتحرك لمنع الاعتداءات على إخوانهم في الهند. وفي الوقت نفسه تقتضي الضرورة تحركا عربيا إسلاميا واسعا لممارسة ضغوط على الهند لوقف تطبيق سياسات حزب بهاراتيا جاناتا المتعصب، فليس من المعقول أو المقبول أن تمارس «كبرى الديمقراطيات» هذا الاضطهاد الواسع والعلني بحق كبرى الأقليات الدينية في البلاد.
كاتب بحريني