قلما يخفق معلقون من خلفية قومية عربية أو إسلامية في التشكيك بحرية التعبير في بلدان الغرب، أو في التأكيد على استنسابيتها إذا تعلق الأمر بقضايانا. حين يجري حرق نسخ من القرآن، أو تنشر رسوم كاريكاتيرية تجرح معتقدات المسلمين ويسوغ ذلك بالحق في حرية التعبير، المكفول في الدساتير والمرسخ في المجتمع والثقافة، يسارع معلقون من طرفنا للقول إن هذه تسويغات زائفة، تؤكد عداء الغرب للعرب والمسلمين، وعدم استقامته في شأن حرية التعبير ذاتها. والمثال المتواتر الذي يسوقونه برهاناً على ذلك هو أنك لا يمكن أن تعبر عن رأي منكر للهولوكوست أو تحرف السردية المهيمنة عن الإبادة النازية لليهود. والحال أن هذا صحيح بقدر كبير، لكن الأمر يتعلق بمثال له مكانة خاصة جداً في تكوين الغرب المعاصر ووعيه الذاتي. ليس إنكار الهولوكوست محرماً «على سبيل المثال» في الغرب، بل هو المحرم على سبيل الحصر، المحرم الكبير. هذا شيء يستحسن أن يُعرف في مجالنا ويُفهم منطقه كي لا نسفه قضية حرية التعبير، أو نضفي النسبية على انتهاكاتها لدينا بذريعة أنها منتهكة في كل مكان.
الهولوكوست «دين مدني» في الغرب، هذا يقوله كثيرون. وهو واقع مكرس بقوانين وفي ثقافة مهيمنة، وتحرسه مؤسسات وأجهزة لا تقتصر على يهود صهيونيين موالين لإسرائيل. ويعبر الرؤساء، ومن في حكمهم، عن عدم تهاونهم بأي مساس بمركزية الهولوكوست في سياسة واجتماع وهوية بلدانهم، وبخاصة ألمانيا. هذا لا ينطبق على المسيحية، دين الأكثريات الأوروبية تاريخياً، وأحد أكبر أعمدة الهوية في هذه البلدان إلى اليوم، إذ يمكن السخرية من المسيح ومن العذراء ومن الكنيسة والقديسين، إن في رسوم كاريكاتير أو في روايات أو أفلام أو أي من أدوات التعبير، وهو ما يثير حفيظة مؤمنين وانزعاجهم بالفعل. يمكن السخرية من المعتقد الديني اليهودي وروايته عن الخلق والنشوء، ومن أنبياء التوراة كذلك. كما يمكن مساءلة التاريخ القومي وشخصياته والتهكم عليهم ونزع الأساطير عنهم. لكن ليس الهولوكوست، الذي هو بالفعل تضحية هائلة نادرة المثال، أثارت شعوراً مهولاً بالذنب، وتحولت إلى دَيْن ودِين، عقيدة ومؤسسات وحراس ومنابر وتذكر مستمر. ليس هذا «ديناً سماوياً» ليس من تنزيل ألوهة متعالية، إنه دين دنيوي، لكنه دين مشرع ورقيب وذي سلطة. الهولوكوست دين ودولة (أو دول) مثلما يقول الإسلاميون عن الإسلام. وهو مثل الإسلام، ليس ديناً مدنياً.
ومثل كل دين، فإن هذا «الدين (غير) المدني» يمكن أن يطور نزعة حرفية أصولية ومتعصبة، لا تقف عند احترام الضحايا والتعهد بعدم تكرار ما حدث، بل تتعدى إلى تقرير فرادة خاصة متعالية لهذه التضحية، تضعها في موقع لا يقارن بغيرها، بل وتصير كل مقارنة إضفاء للنسبية على تلك الجريمة، المطلقة وحدها بين الجرائم. تقرير الفرادة والتشكك في المقارنة والنسبنة من الثيمات المتكررة في أدبيات الهولوكوست.
ومثلما أن سبب الكفر هو الدين، وسبب الهرطقة هو العقيدة القويمة، فإن الدين المدني المزعوم هو سبب نوازع هرطقة وكفر تضيق بالعلاقة بين المكونين العقدي أو الديني والدولتي للهولوكوست، أو بالسلطة الرقيبة التي يحوزها هذا الدين. الأديان التي لا تحوز سلطة، مثل المسيحية في معظم بلدان الغرب اليوم، لم تعد تثير دوافع الكفر ونوازع الهرطقة. تثيرها بالمقابل ديانة الهولوكوست، ويثيرها بالطبع الإسلام المعاصر كما نعلم.
الهولوكوست حدث رهيب، من الجرائم الكبيرة في تاريخ البشرية، ولعلها أكبرها في القرن العشرين، وتنفرد عن غيرها بصفتها الصناعية المنظمة
ثم أن العلاقة بين دين الهولوكست «المدني» وبين السلطات السياسية في بلدان الغرب تثير سؤال العلمنة، الحاجة إلى الفصل بين الدين والدولة، العقيدة والسلطة، بما يضمن استقلال المعرفة والأخلاقيات عن الدين، بل وبما يضمن أن يرى الهولوكوست ذاته في دلالته الأخلاقية كجريمة مذهلة في كمها ونوعها، تدعو إلى إلا يحدث مثلها أو ما يدانيها أو ما ينتمي إلى صنفها لأي كان. ونعلم أن هذا الدرس أهدر ويهدر طوال الوقت، وأن صرخة لن يتكرر هذا أبداً صارت هتاف الأقوياء، وليس صيحة استغاثة الضعفاء.
والواقع أن تديين الهولوكوست انزاح به تدريجياً إلى دوائر اليمين الحضاري الغربي والصهيوني، بعد أن كان لبعض الوقت بعد الحرب العالمية الثانية وحتى بعض ستينيات القرن العشرين يرى في سياق جرائم الامبريالية والاستعمار. لقد صار أحد أوجه الاستثنائية الحضارية الغربية، وصار ينتظر من الجميع أن يفكروا به مثلما يُفكّر به في الغرب، وينتظر من اللاجئين في ألمانيا، الفلسطينيين والسوريين وغيرهم، أن يتصوروا الهولوكوست مثلما يتصوره الألمان. هنا، أعني في ألمانيا، يتجاوز الأمر تقديس ضحايا الهولوكوست إلى شمل الصهيونية وإسرائيل بالقداسة، على نحو لا يترك لأي كان غير واحد من موقعين: إما أن يشارك في هذا التقديس، وإلا فهو معاد للسامية. ربما يُتَفهم من أمثالنا أن نسكت كلياً، فلا نذكر إسرائيل بسوء، لكن هذا كذلك من بين ما تفعله الأديان غير المدنية: ألا تجاهر بنقد ما يتصل بها من مؤسسات وسياسات وقواعد وقوى، وليس فقط أن تحترم حق المؤمنين في دينهم.
يبلغ الأمر درجة هستيرية من صيد الساحرات، حين يحارب ويندد بمفكرين وأدباء رفيعي الشأن مثل جوديث بتلر وأشيل مبمبه وكاريل تشرشل، أو حين تلاحق جملة هنا وتعبير هناك يُشتَمُّ منه خروج على العقيدة القويمة. هذا حرمان ديني من نوع ما مورس في المسيحية الغربية قبل عصر التنوير، أو هو تكفير يبيح دم المكفر، حسب ما صرنا نألف في العقود الأخيرة.
تنتفع إسرائيل من بركات الدين الدنيوي الذي حل محل المسيحية في الغرب، فصار يصعب نقد دولة عنصرية نووية عدوانية. ويبدو في الواقع أن هذا الدين لا يلعب على نحو عارض لمصلحة إسرائيل، بل إن وجوده بالذات ما كان ممكناً لولا قيام دولة يهودية في فلسطين. لولا إسرائيل لكان الهولوكوست ذكرى مؤلمة، محترمة، يكفر عنها بصور مختلفة، لكن لما كان ديانة دولة.
ولا تساعد مواقف عرب ومسلمين تنكر الهولوكوست أو تشكك فيه في نقد هذه الديانة، وهذا بالضبط لأنها تجنح لأن تتشكل في ديانة مضادة، وليس بحال نقد يقوم على معرفة وعلى احترام. الأمر يذكر ببعض منكري الإسلام الذين لا يكتفون بنقد المعتقد الإسلامي استناداً إلى مقدمات فكرية وفلسفية متسقة، أو متوسلين مناهج الإنسانيات، بل تجدهم أشبه بخطباء دينيين معكوسين، وما هو الخير كله في عين الدعاة الإسلاميين يصير هو الشر كله في عينهم. هذا أقرب إلى تدين معكوس منه إلى نقد للدين. حال منكري الهولوكوست بيننا مثل حال هؤلاء، يقوضون قضيتهم بتطرفهم.
الهولوكوست حدث رهيب، من الجرائم الكبيرة في تاريخ البشرية، ولعلها أكبرها في القرن العشرين، وتنفرد عن غيرها بصفتها الصناعية المنظمة. الديانة المتكونة حوله ترفعه فوق غيره درجات، وترى المقارنة حطاً من شأنه، وبدل أن تدرجه في التاريخ تراه بالأحرى أصلاً مطلقاً لتاريخ لاحق (الشبه بإسلام الإسلاميين قوي هنا أيضاً) وتصب عائدات هذا التقديس لمصلحة حركة قومية، الصهيونية، ودولة تعتبر دون وجه حق لا كالدول، بما يجعل الفلسطينيين غير مرئيين ومعاناتهم أقل قيمة. هنا يظهر جانب فاسد للدين المدني المزعوم يذكر بالجانب الفاسد من الأديان غير المدنية التي نعرفها. منبع الفساد في الحالين هو العلاقة المتينة بين الديانة والسلطة، فنحصل على الأسوأ منهما معاً: سلطة مقدسة لا يعترض عليها، وديانة مُسلطة.
الواقع أن مثال الهولوكوست يثير تساؤلاً عما إذا كان الدين، أي دين، ممكناً دون سلطة، وبالتالي عما إذا لم يكن الحرمان من السلطة إيذاناً بأفول الدين ذاته، أو تحوله إلى اعتقاد حر لأفراد مثلما يبدو أنه يحدث للمسيحية في أوروبا الغربية. وبينما يدعو ذلك الدعاة الدينيين إلى طلب السلطة لحماية دينهم، فإنه هو بالذات ما يدفع آخرين إلى رفضهما معاً. هذا موضوع توجب التفكير فيه خِبرتا الهولوكوست والإسلام المعاصر معاً.
كاتب سوري
قبل الإسلام تركز تواجد اليهود بالشرق الأوسط خاصةً الحجاز لتنبؤ كتبهم بقرب مجيء نبي خاتم فيها ولما تبين أنه عربي أسلم بعضهم وتعنت معظمهم لكن بالنهاية تحولوا لمواطنين محميين كأهل كتاب بالدولة الإسلامية وانتشروا مع توسعها السريع بل تخطوا حدودها لأوروبا ووسط آسيا فراكموا ثروات هائلة وضاقت بهم نخبها فطردتهم روسيا تدريجياً لأوروبا الشرقية التي بدورها قتلت نصفهم وطردت الباقي لأمريكا وفلسطين وشجع ذلك صدور قرار أممي لتهويد فلسطين 1947 فانتهز ذلك مدن عربية وإسلامية فطردت يهودها لفلسطين واستولت على أملاكهم
لا دليل مادي يثبت ان الهولوكوست كان صناعة منهجية نفذها هتلر في حق اليهود و الدليل هو منع اي مناقشة في صحة رقم 6 مليون ضحية و حتى مجرد التساؤل عن وجود مخطط منهحي لافناء اليهود و منع اي مقارنة بالابادات التي جرت عبر التاريخ
الاخ انس،
الاجابة على تعليقك تجده في الفكرة الاساسية في المقال ، اعتقد ان هذا هو الهدف من كتابة هذا المقال للاجابة على التساؤل الذي طرحته ، الكاتب صالح محق تماما ، كان ادوارد سعيد منذ عقود عديدة قد اشار الى الامر نفسه .
“ومثلما أن سبب الكفر هو الدين، وسبب الهرطقة هو العقيدة القويمة، فإن الدين المدني المزعوم هو سبب نوازع هرطقة وكفر تضيق بالعلاقة بين المكونين العقدي أو الديني والدولتي للهولوكوست، أو بالسلطة الرقيبة التي يحوزها هذا الدين. الأديان التي لا تحوز سلطة، مثل المسيحية في معظم بلدان الغرب اليوم، لم تعد تثير دوافع الكفر ونوازع الهرطقة.” اه
أولا فيما يخص محتوى الجملة الأولى فهو مجرد سفسطة لفظية لا معنى لها قط ؛ ثانيا فيما يتعلق بمحتوى الجملة الثانية ليس صحيحا القول إن المسيحية في معظم بلدان الغرب لا تحوز على السلطة بوصفها دينا !!
شكرًا أخي ياسين الحاج صالح. من بنكر الهرلوكست وجرائم النازية لاشك هو “معادي للسامية” بتعريفها الشائع. لكن هل نقد الصهيونية وجرائمها وإسرائيل (وهذه الفاشية التي تطفو إلى السطح يومًا بعد يوم) هو معاداة للسامية بالتعريف نفسه؟
المشكلة في الدين المتسلط، أو الإستقواء بالسلطة (سلطة القوة) تحت غطاء ديني أو بغطاء ديني (أو وحي إلهي كما فعل بوش!). في اعتقادي الدين هو في السلطة الروحية لاسلطة القوة، على الأقل في يومنا هذا أو في الدولة الدولة المعاصرة.